عرض مشاركة واحدة
قديم 23/04/2014, 03:59 PM   #6
المؤسس والمشـــرف العــــام


صقر الجنوب ٌهé÷àٌ يà ôîًَىه

افتراضي



وبهذا يتبين لك الفرق بين أصحاب هذه الحال والحال الأولى؛ لأن أصحاب هذه الحال لم ينووا إلا لهذا الغرض، أما أصحاب الحال أولى فقد نووا الإقامة المطلقة إلا أن يحصل لهم ما يقتضي الخروج، والفرق بين مدة الإقامة إلا أن يحصل له ما يقتضي الخروج، وبين من يريد الخروج لو لا ما تقتضي الإقامة فرق ظاهر لمن تأمله‏.‏
فإن قلت‏:‏ إن بعض المغتربين من أصحاب هذه الحال يصطحبون زوجاتهم، وربما يتزوجون في أماكن غربتهم، أو يشترون بيوتاً للسكنى‏.‏
فالجواب‏:‏ أن اصطحاب الأهل والزوجات غير مؤثر في الحكم، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اصطحب زوجاته في حجة الوداع، وكان من هديه‏:‏ إذا أراد سفراً أن يقرع بين زوجاته فأيتهن خرج سهمها خرج بها‏.‏ ومع هذا قصر في حجته وكان يقصر في كل أسفاره‏.‏
وأما التزوج في مكان الغربة فإن كان المتزوج يقصد طلاقها عند مغادرته – وقلنا بصحة هذا العقد – فإنه لم يتأهل التأهل المطلق بل هو تأهل مقيد، وهو لا يؤثر على حال المتزوج‏.‏
وإن كان المتزوج يقصد بقاء النكاح وحمل زوجته معه، فإنه أيضاً لم يقصد اتخاذ هذا المكان مقراً ووطناً له، بل يريد مغادرته بأهله بمجرد انتهاء غرضه‏.‏
وانتبه لقولي ‏(‏يقصد طلاقها‏)‏ وقولي ‏(‏وقلنا بصحة هذا العقد‏)‏ لأن محترز القيد الأول يكون شرط طلاقها في العقد عند انتهاء المدة، أو تزوجها إلى أجل ينتهي بالمدة فإنه في هذه الحال يكون نكاح متعة محرماً فاسداً لا تستحل به الفروج‏.‏
أما محترز القيد فهو أن بعض أهل العلم يرى أن نية الطلاق كشرطه قياساً على نية التحليل، وعلى هذا فلا يصح العقد وعلى القول بصحة العقد فإن هذه النية في العقد حرام على المتزوج لما فيها من خديعة الزوجة وأهلها فإنهم لو علموا بنيته هذه لم يزوجوه في الغالب‏.‏ وأما شراء البيوت فإنما يشترونها لسكناها إلى انتهاء غرضهم لا للإقامة المطلقة فهم بمنزلة المستأجر الطاعنين لا المستوطنين‏.‏
وأما الآثار‏:‏ فروى مسلم في صحيحه عن موسى بن سلمة الهزلي قال‏:‏ سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام‏؟‏ قال ‏(‏ركعتين سنة أبي القاسم -صلى الله عليه وسلم-‏)‏‏.‏ وروى ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح عن أبي جمرة نصر بن عمران قال‏:‏ قلت لا بن عباس‏:‏ إنا نطيل المقام بخراسان فكيف ترى‏؟‏ قال ‏(‏صل ركعتين وإن أقمت عشرين سنين‏)‏‏.‏ وروى الإمام أحمد في مسنده عن ثمامة بن شراحيل قال‏:‏ خرجت إلى ابن عمر فقلت‏:‏ ما صلاة المسافر‏؟‏ قال‏:‏ ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثاً‏.‏ قلت‏:‏ أرأيت إن كنا بذي المجاز‏؟‏ قال‏:‏ وما ذو المجاز‏؟‏
قلت‏:‏ مكان نجتمع فيه ونبيع فيه نمكث عشرين ليلة، أو خمس عشرة ليلة، قال‏:‏ يا أيها الرجل كنت بأذربيجان لا أدري قال أربعة أشهر، أو شهرين فرأيتهم يصلونها ركعتين ركعتين، ورأيت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- نصب عيني يصليها ركعتين ركعتين، ثم نزع هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏
وروى البيهقي عن نافع عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال ‏(‏ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، وكنا نصلي ركعتين‏)‏، قال النووي وهذا سند على شرط الصحيحين‏.‏ ورواه عبد الرزاق بلفظ ‏(‏أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة‏)‏‏.‏
وروى عبد الرزاق عن الحسن قال‏:‏ كنا مع عبد الرحمن بن سمرة ببعض بلاد فارس سنتين فكان لا يجمع ولا نزيد على ركعتين‏.‏
وروى أيضاً من أنس بن مالك – رضي الله عنه - ‏:‏ - ‏(‏أنه أقم بالشام شهرين مع عبد الملك مروان يصلي ركعتين، ركعتين‏)‏، وذكر في المغني، والفتاوى، وزاد المعاد أن أنس بن مالك – رضي الله عنه – ‏(‏أقام بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر‏)‏‏.‏
وروى البيهقي عن أنس بن مال – رضي الله عنه - ‏(‏أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة‏)‏، قال النووي‏:‏ إسناده صحيح، وقال ابن حجر‏:‏ صحيح‏.‏
فهذا آثار عن أربعة من الصحابة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن سمرة، وأنس بن مالك كلها تدل على جواز القصر مع المدة الطويلة‏.‏ وفي صحيح البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال ‏(‏أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا‏)‏‏.‏ وهذا يخالف ما أفتى به نصر بن عمران فيكون لابن عباس – رضي الله عنهما – في ذلك قولان‏.‏
وأما الآثار عن التابعين‏:‏ فمنها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن علقمة وهو من أصحاب ابن مسعود أنه أقام بخوار زم سنتين فصلى ركعتين ‏(‏10‏)‏‏.‏ وروى عن أبي وائل أنه خرج مع مسروق إلى السلسة فقصر وأقام سنتين يقصر، قلت‏:‏ يا أبا عائشة ما يحملك على هذا‏؟‏ قال‏:‏ التماس السنة وقصر حتى رجع ‏(‏11‏)‏‏.‏ وروي عن معمر عن أبي إسحاق قال‏:‏ أقمنا مع وال قال‏:‏ أحسبه بسجستان سنتين، ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود، فصلى بنا ركعتين، ركعتين حتى انصرف، ثم قال‏:‏ كذلك كان ابن مسعود يفعل ‏(‏12‏)‏‏.‏ وروي عن الشعيب أنه قال ‏(‏كنت أقيم سنة أو سنتين أصلي ركعتين، أو قال‏:‏ ما أزيد على ركعتين‏)‏ ‏(‏13‏)‏‏.‏
فهذه آثار عن جماعة من التابعين وكلها تدل على جواز القصر مع المكث الطويل‏.‏
وأما النظر فيقال‏:‏ لو نوى نية إقامة مدة تزيد على أربعة أيام أو خمسة عشر يوماً، أو غير ذلك مما ذكر في تحديد المدة قاطعة لحكم السفر لكانت إقامة هذه المدة بالفعل قاطعة له أيضاً، بل أولى لأن وجود الإقامة القاطعة بالفعل أبلغ في التأثير من نيتها لو قدر أن للنية تأثيراً؛ لأن الإقامة إذا حصلت لم يمكن رفعها، بخلاف نيتها فإنه يمكن فسخها وتجديد نية للسفر، ولهذا كان أحد أقوال الشافعية أن المسافر إذا أقام المدة التي تقطع نيتها حكم السفر لزمه الإتمام وإن لم ينو الإقامة، وهذا عين الفقه والنظر الصحيح، فإنه إذا كانت إقامته هذه المدة غير مؤثرة كان مقتضى النظر الصحيح أن لا تؤثر نيتها، وإن كانت نيتها كان وقوعها بالفعل أولى بالتأثير‏.‏
وأيضاً فإن القائلين بتأثير نية الإقامة يقولون‏:‏ إنها تمنع القصر والفطر، ورخص السفر، ولا تعطي المقيم حقاً في انعقاد الجمعة به وتوليه إمامتها وخطابتها، ولهذا قالوا‏:‏ لا يصح أن يكون إماماً في الجمعة في مكان إقامته، ولا خطيباً فيها، ولا يحسب من العدد المعتبر لها‏.‏
ومقتضى النظر الصحيح أن تطرد القاعدة في حقه لئلا يحصل التناقض‏.‏
وأما القياس فمن وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يقال فرق بين رجلين كلا هما قدم البلد متى ينتهي والثاني لا يعرف‏؟‏ ‏!‏ فنقول‏:‏ للأول لا تترخص برخص السفر إذا علمت أنه لا ينتهي إلا بعد كذا وكذا من الأيام، ونقول للثاني‏:‏ لك أن تترخص وإن أقمت سنين حتى وإن ظننت أنه لا ينتهي إلا بعد تمام المدة على القول الذي حكاه في الإنصاف عن الكافي ومختصر أبي تميم‏.‏
فإن قلت‏:‏ الفرق أن الأول حدد مدة إقامته بخلاف الثاني‏.‏
فالجواب‏:‏ أن تحديد المدة لا أثر له في نية قطع السفر؛ لأن السبب فيهما واحد وهو الإقامة لانتظار انتهاء الغرض، لكن الأول حدد مدة إقامته باعتبار طبيعة الغرض، ربما تحدث له موانع يتأخر بها عن الوقت المحدد، وربما تجدد له أسباب يتقدم بها، وقد سبق لك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقام إقامة محددة في حجة الوداع فقصر، وأقام أطول منها في غزوة الفتح، وتبوك فقصر؛ لأن العلة في الإقامتين واحدة وهي انتظار انتهاء ما أقام من أجله‏.‏ وعلى هذا فيكون الفرق غير مفرق‏.‏
الوجه الثاني من القياس‏:‏ أن يقال أي فرق بين رجلين قدما بلداً لغرض يغادران البلد بمجرد انتهائه، لكن أحدهما نوى أن يقيم ستاً وتسعين ساعة فقط، والثاني نوى يقيم سبعاً وتسعين ساعة، ثم نقول للأول حكم السفر في حقك فليس لك أن تترخص برخص السفر، ومع أن كل واحد منهما لا يريد إقامة مطلقة وإنما يريد إقامة مرتبطة بغرض متى انتهى عاد إلى وطنه، وكل منهما يعتبر نفسه غريباً في محل إقامته وظاعناً عنه، ولو قيل له بعد انتهاء غرضه أقم ما أقام، فكيف يمكن أن نفرق بينهما سفراً وإقامة بفرق ساعة‏؟‏ ‏!‏
فإن قلت‏:‏ إن التفريق بين الشيئين في مثل هذا لازمن ممكن فهذه المرأة المستحاضة إذا كان لها عادة فإنها تجلس مدة عادتها فقط فتكون مدة العادة حيضاً وما بعدها استحاضة، فإذا كانت عادتها تنقضي في الساعة الثانية عشرة كان ما قبل الثانية عشرة حيضاً وما بعدها استحاضه ومن المعلوم ما بين الحيض الاستحاضه من الفروق في الأحكام‏.‏ وهذا الشخص إذا حصل بلوغه بالسن وكان تمامه الخامسة عشرة سنة في الساعة الثانية عشرة كان بعد الساعة عشرة بالغاص وقبلها غير بالغ، والفرق بين أحكام البالغين وغيرهم معلومة‏.‏
فالجواب‏:‏ أن هاتين المسألتين قد فرق الشارع بين الحالين فيهما بخلاف الإقامة في السفر‏.‏
ففي المستحاضة قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت أبي حبيش – رضي الله عنها –
(‏إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي‏)‏ رواه البخاري‏.‏
وفي البلوغ قال ابن عمر – رضي الله عنهما - ‏(‏عرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسة عشرة سنة فأجازني‏)‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
زاد البيهقي وابن حبان ‏(‏ولم يرني بلغت‏)‏ – بعد قوله – ‏(‏فلم يجزني‏)‏‏.‏ ‏(‏ورآني بلغت‏)‏ بعد قوله ‏(‏فأجازني‏)‏ وصححه ابن خزيمة‏.‏
وبهذا التفريق والبيان في هاتين المسألتين من النبي -صلى الله عليه وسلم- يظهر جلياً كمال تبليغ النبي -صلى الله عليه وسلم- شريعته لأمته وتمام تبيانه، وأنه لو كان فرق في إقامة المسافر 96 ساعة وإقامته 97 ساعة لبينه -صلى الله عليه وسلم- لأمته لأهميته وكثرة وقوعه، فالحمد لله رب العلمين، صلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين‏.‏
فإن قلت‏:‏ إننا إذا أبحنا رخص السفر لمن أقام مدة طويلة لغرض متى انتهى عاد إلى وطنه احتمل أن يترك صيام رمضان بعض من أقام في الغربة للدراسة عدة سنوات فيسقطوا ركناً من أركان الإسلام‏.‏
فالجواب من وجهين‏:‏
الأول أن يقال‏:‏ الأحكام الشرعية العامة لا يسوغ إلغاؤها في عامة الناس باحتمال أن يتوصل أحد من الناس بها إلى إسقاط الواجب، ولو ساغ ذلك لقلنا‏:‏ إن الفطر لا يباح للمسافر إذا وجد من الناس من يسافر لأجل ترك الصوم كما هو موجود الآن، ومن سفر بعض المترفين إذا أقبل رمضان ثم لا يصومون أداء ولا قضاء، لهذا قال بعض أهل العلم – إما على سبيل الواقع، أو سبيل الفرض – قالوا‏:‏ لو الفطر لغيره من المسافرين بشرطه‏.‏
الثاني أن يقال‏:‏ إن هذا الاحتمال وارد أيضاً فيمن أقام عدة وطنه – وهم أصحاب الحال الثانية – وقد سبق لك أن جمهور العلماء على جواز ترخيصهم برخص السفر ومنها ترك الصيام، بل حكاه ابن المنذر إجماعاً، وإن كان نقل الإجماع فيه نظراً كما يعلم من رشح المهذب 115 / 4 وتفصيل مذهب الشافعية في ذلك‏.‏
ولهذا نقول في مسألة الصيام إن المغترب الذي يباح له الترخص برخص السفر ثلاث حالات‏:‏
الحال الأولى‏:‏ أن لا يشق عليه فالأفضل له أن يصوم لما فيه من المبادرة إلى إبراء الذمة، ولأنه أيسر على الصائم غالباً لمشاركته الناس في زمن صومهم؛ ولأنه ثبت من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال ‏(‏خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان، في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة‏)‏‏.‏ رواه مسلم، ورواه البخاري – أيضاً – بدون ذكر الشهر‏.‏
الحال الثاني‏:‏ أن يشق عليه الصيام فله أن يفطر ويقضيه في وقت لا يشق عليه، ولا ينبغي أن يؤخره إلى ما بعد رمضان التالي لئلا تتراكم عليه الشهور فيثقل عليه الصوم أو يعجز عنه‏.‏
وهاتان الحالان فيما إذا أمن نفسه من التفريط وترك الصيام أما إذا خاف على نفسه التفريط وترك الصيام وهي‏:‏
الحال الثالثة‏:‏ فإنه يجب عليه الصوم ولهذا أمر الله تعالى بالاقتصار على الزوجة إذا خاف عدم العدل، مع أن تعدد الزوجات إلى أربع مباح في الأصل قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوتر ‏(‏من خشي منكم أن لا يقوم من آخر الليل، فليوتر من أول الليل، ثم ليرقد، ومن طمع منكم في أن يقوم من آخر الليل، فيوتر من آخر الليل، فإن قراءة آخر الليل محضورة وذلك أفضل‏)‏‏.‏ رواه مسلم، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتقديم الوتر في الوقت المفضول لمن خاف أن لا يقوم به آخر الليل‏.‏
وقال الفقهاء – رحمهم الله تعالى – فيمن وجد لقطة له أخذها إن أمن نفسه عليها، وإلا حرم عليه أخذها وصار بمنزلة الغاصب‏.‏
فمن خاف من فعل المباح أن يترك به واجباً، أو يفعل به محرماً كان ذلك المباح حراماً عليه سداً للذريعة، لكن ذلك يحكم الناس يتوصل بالمباح إلى شيء محرم كان ذلك المباح في حقه وحده حراماً دون سائر الناس‏.‏
فإن قلت‏:‏ هل لديك علم بما قاله شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتاوى جمع ابن قاسم 17 / 24 حيث قال ‏(‏إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة، وإن كان أكثر ففيه نزاع، والأحوط أن يتم الصلاة‏)‏ وبما ذكر عنه صاحب الاختيارات 107 ‏(‏وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أقل من أربعة أيام فله الفطر‏؟‏ وهل يقاوم هذا ما نقلت عنه أو يبطله‏؟‏
فالجواب‏:‏ ليس لدي علم بذلك، وهو لا يقاوم ما نقلته عنه، ولا يبطله‏.‏
أما الفتوى فقد ذكر النزاع ثم قال ‏(‏والأحوط أن يتم الصلاة‏)‏ والحكم الاحتياطي لا يقتضي الوجوب‏.‏
وانظر ما نقله الشيخ نفسه في هذا المجلد 141 عن الأثرم قلت ‏(‏يعني الإمام أحمد‏)‏ فلما لم يقصر على ما زاد من ذلك قال‏:‏ لأنهم اختلفوا فيأخذ بالأحوط فيتم، قال الشيخ ‏(‏فأحمد لم يذكر دليلاً على وجوب الإتمام إنما أخذ بالاحتياط، وهذا لا يقتضي الوجوب‏)‏‏.‏ أ هـ‏.‏
وأما ما في الاختيارات فإن دلالته على أن من نوى إقامة أربعة أيام فأكثر فليس له أن يفطر من باب دلالة المفهوم، وهي لا تقاوم دلالة المنطوق فكيف تبطلها‏؟‏
فإن أبى إلا أن يكون ذلك مقاوماً لما نقلت عنه فإن أعلى مراتبه أن يكون دالاً على أن شيخ الإسلام في ذلك قولين، ولكن من تأمل قوة تأييد للقول بالترخص؛ وتزييف للقول بعدمه، ظهر له أن القول المتأخر له هو القول بالترخص؛ لأنه يبعد أن يؤيد القول بالترخص هذا التأييد ويزيف مقابله ذلك التزييف، ثم يرجع عن ذلك ولهذا اقتصر عليه صاحبا الفروع والإنصاف‏.‏
وقد قال الفتاوى 18 من المجلد المذكور جواباً من سؤال شخص يعلم أنه يقيد مدة شهر فهل يجوز له القصر‏؟‏ إن فيه نزاعاً، فمن العلماء من يوجب الإتمام، ومنهم من يوجب القصر، والصحيح أن كليهما سائغ فمن قصر لا ينكر عليه، ومن أتم لا ينكر عليه، وكذلك تنازعوا في الأفضل فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط فالإتمام أفضل، وأما من تبينت له السنة وعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو مكان، ولا حد الإقامة أيضاً بزمن محدود فإنه يقصر – إلى أن قال - ‏:‏ ‏(‏وإذا كان التحديد لا أصل له فما دام المسافر مسافراً يقصر الصلاة ولو أقام في مكان شهوراً‏)‏‏.‏
وهذا أيضاً يدل على أن الذي تبين لشيخ الإسلام من السنة جواز القصر لمن حدد إقامته ولو طالت المدة وتقييده بالشهور في جوابه؛ لأنه جواب عن سؤال من علم أن يقيم مدة شهرين‏.‏
وإلى هذا انتهى ما أردنا كتابته في هذه المسألة التي قد استغرب كثير من الناس القول فيها بالترخص مع أنه عند التأمل في أيضاً كما عرفت، فمن تبين له رجحانه فعمل به فقد أصاب، ومن لم يتبن له فأخذ بقول الجمهور فقد أصاب، لأن هذه المسألة من مسائل الاجتهاد التي من اجتهد فيها فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فيها فأخطأ فله أجر واحد، والخطأ مغفور له، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ من الآية286‏]‏‏.‏ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر‏)‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
فنسأل الله تعالى أن يوفقنا للصواب فيما نأتي ونذر عقيدة وقولاً، وعملاً، وأن يجعلنا مهتدين، وصالحين مصلحين، وأن يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين‏.‏
تم بقلم كاتبه الفقير إلى الله تعالى محمد الصلح العثيمين في ليلة الأحد الموافق 13 / 10 / 1405هـ‏.‏
الأقوال التي ساقها النووي – رحمه الله - ‏:‏
إليك الأقوال التي ساقها النووي رحمه الله في شرح المهذب فرع في مذاهب العلناء في إقامة المسافر في بلد‏.‏ قال رحمه الله تعالى‏:‏ قد ذكرنا أن مذهبنا أنه إن نوى إقامة أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج انقطع الترخص، وإن نوى دون ذلك لم ينقطع، ومذهب عثمان بن عفان، وابن المسيب، ومالك، وأبي ثور‏.‏
وقال أبو حنيفة، والثوري، والمزني‏:‏ إن نوى إقامة خمسة عشر يوماً مع الدخول أتم، وإن نوى أقل من ذلك قصر‏.‏
قال ابن المنذر‏:‏ وروي مثله عن ابن عمر‏.‏ قال‏:‏ وقال الأوزاعي وابن عمر في رواية عنه، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة‏:‏ إن نوى إقامة اثني عشر يوماً أتم وإلا فلا‏.‏
وقال ابن عباس، وإسحاق بن راهويه‏:‏ إن نوى إقامة تسعة عشر يوماً أتم، وإن نوى دونها قصر‏.‏
وقال الحسن بن صالح‏:‏ إن نوى إقامة عشر أيام أتم، قال ابن المنذر‏:‏ وبه قال محمد بن علي‏.‏
وقال أنس، وابن عمر في رواية عنه وسعيد بن جبير، والليث‏:‏ إن نوى أكثر من خمسة عشر يوماً أتم‏.‏
وقال أحمد‏:‏ إن نوى إقامة تزيد على أربعة أيام أتم، وإن نوى أربعة قصر في أصح الروايتين، وبه قال داود‏.‏
وعن أحمد رواية‏:‏ أنه نوى إقامة اثنتين وعشرين صلاة أتم، وإن نوى إحدى وعشرين قصر وحسب عنده يوما الدخول والخروج‏.‏
قال ابن المنذر وروي عن ابن المسيب قال‏:‏ إن أقام ثلاثاً أتم قال‏:‏ وقال الحسن البصري‏:‏ يقصر إلا أن يدخل مصراً من الأمصار، وعن عائشة نحوه‏.‏ قال‏:‏ وقال ربيعه‏:‏ إن نوى إقامة يوم وليلة أتم‏.‏
قال‏:‏ وحكي عن إسحاق بن راهويه أنه يقصر أبداً حتى يدخل وطنه، أو بلداً له فيه أهل أو مال‏.‏ قال القاضي أبو الطيب‏:‏ وروي هذا عن بن عمر وأنس‏.‏
أما إذا أقام في بلد لانتظار حاجة يتوقعها حاجة قبل أربعة أيام فقد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه يقصر إلى ثمانية عشر يوماً‏.‏
وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد‏:‏ يقصر أبداً‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد هو مقيم‏.‏ ا هـ من المجموع شرح المهذب‏.‏


 
مواضيع : صقر الجنوب



رد مع اقتباس