مـجــالس الباحة بين التقنية وحديث الذكريــــــــــات

رمضان يرصد الهموم الخاصة
مـجــالس الباحة بين التقنية وحديث الذكريــــــــــات

علي الرباعي (الباحة)

قامة الذكريات مديدة، تزهو في زمن الحنين بكل مقومات البراءة، وتتماسك في وجه العواصف ورياح البعثرة المعاصرة، وتطل على جوع الأفئدة إلى الماضي بسنابلها المترعة بالخصوبة والمسكونة بالرعود والبروق والغيوم العابرة، وتتراكض أحاديث رمضان في مجالس أجيال متعاقبة في منطقة الباحة تراكض جياد تحرث الجهات غير عابئة بما يتربص بها وراء أكمة ما، وكمن يدنو من صندوق عتيق ويفتحه بتلهف وشوق يروي التربوي المتقاعد حنش سعيد خبزان سيرة السمر الرمضاني قبل خمسة عقود متشحا بردة الامتاع والمؤانسة، ولافتا إلى قيمة الوقت في زمن مضى إذ لم تكن السهرة تزيد عن ساعة تتنقل فيها دفة الحوار بين آباء وأجداد سلفوا بين أخبار السوق والمزرعة والنهارات العملية لأجساد تقاوم صلافة عوامل التعرية، مؤكدا أن شهر رمضان كان شهر عمل وإنتاج وتحصيل دراسي لا يختلف عن بقية شهور العام إلا بالإمساك عن المفطرات، واصفا تلك الأيام بالجميلة برغم قلة ذات اليد وضعف الإمكانات المادية إلا أن المعاني كانت أكبر من المباني بخلاف ما هو سائد اليوم كما يرى، فيما يتوقف التربوي المتقاعد سعيد بن محمد الرباعي عند صورة خروج العائلة بعد الإفطار في زمن مضى إلى بيوت الجيران ومعهم إضاءة فانوس أو إتريك مشيرا إلى ثراء تجربة السالفين من الآباء والأجداد كونهم عندما يتحدثون في مجالس السمر يسردون وقائع شخصية تحمل من المعاناة والإنسانية والصبر ما لا تستوعبه ذهنيات ووجدان شباب اليوم ، موضحا أن المسامرات الرمضانية هذه الأيام تقوم على نقولات من رسائل الواتس أب، والفضائيات لتتداخل الهموم الخاصة بالعامة ،مؤكدا أن حديث الذكريات أشبه بفراشات بيضاء تحوم حول نار الشجن دون أن ينال منها اللهب، مبديا أسفه أن هناك اليوم من يقضي ليل رمضان بمفرده دون أن يجد من يكسر صمته ولا يذكي تجربته عدا ما تبثه القنوات من مسلسلات وبرامج، واصفا اللقاءات الأسرية في رمضان بالحضن الرحيم كونها تحرر الزوايا من قبضة الوحشة وتبسط مفارش الابتسامة على محيا المساء، فيما يتحفظ رجل الأمن السابق غرم الله بن أحمد بن قحطان عند محطات الدفء القلبي، والمشاعر الجياشة بالحب، والأنفس المتمسكة بهواية البوح وتنقية الخواطر من الشوائب، واصفا رمضانات ما قبل الشاشة بالهادئة والخالية من التوتر والقلق والاندفاع وراء مطامع الدنيا على حساب العلاقات الإنسانية كون النعمة والرفاهية وتعدد الخيارات غيرت كثيرا من مشاعر الناس تجاه بعضهم، مؤملا أن يستعيد جيل الشباب شيئا من نقاء وصفاء الماضي ليعززوا به تجربتهم في الحياة، من جهته يذهب الموظف المتقاعد محمد عبدالله مسابا إلى أن سفره وترحاله في مدن المملكة، وإقامته في محافظة الطائف سنين عددا ملأه بالحنين للقرية والقرابة والأصدقاء ما دفعه لبناء مسكن صيفي يقضي فيه فترة الإجازة مع العائلة، ويتواصل فيه مع مجايليه كونه ورث عشق القرى من أبيه رحمه الله فهي مهب العشق ومصب الحنين، مقارنا بين الطائف منذ نصف قرن وبين الباحة إذ كانت الطائف مدينة والباحة قرية لتتساوى اليوم في المدنية، واكتمال الخدمات والمرافق ما أفقد الإنسان حس الدهشة الذي كان يخامره كلما انتقل من بلد إلى بلد، مؤملا أن تستمر المجالس الرمضانية العامرة بالمودة والحوار والنقاشات حول ما تنقله وسائل التواصل ونشرات الأخبار، فيما يؤصل العقيد عبدالوهاب سعيد الغامدي للحس الإنساني من خلال ظاهرة ( الطعمة) إذ يسكنه مشهد حرص كل سيدة بيت على إطعام جيرانها من وجبة الإفطار ما يعزز روح الألفة والتلاحم، مشيرا إلى أن بدائية وتقليدية الزمن الماضي أسهمت في تماسك الوجدان الإنساني، وحافظت على نقاء وبراءة العلاقات فيما يدفع أفراد المجتمع اليوم ثمن الرفاهية بالعزلة والاستغناء عن بعضهم، واصفا السهرات الرمضانية بالمحاولة للحفاظ على شيء من آلية التواصل واقتناص لحظات حميمية مع الأصدقاء للترفيه والترويح عن الأنفس بأحاديث وابتسامات تبعث على الطمأنينة، وأن الناس لازالت بخير، ويمتطي رجل الأمن صالح بن محمد الرباعي صهوة حديث الذكريات واصفا ما أدركه من زمن ما قبل التقنية بالمضيء كالفضة والثمين كالذهب كونه زمن عمل وعطاء وتفاعل مع الطبيعة من حولهم، مبديا أساه أن البيوت القديمة والمزارع أضحت شاحبة من فرط الهجر والنسيان واعتداد البشر بوظائفهم واستغنائهم بالشكل عن المضامين والمعاني والقيم، واصفا الجيل الشاب اليوم باللامبالي والمحفوف بالمخاطر والمتاهات، ويأخذ بزمام الحديث خريج اللغة العربية من جامعة الباحة أحمد عبدالعزيز الدميني ليعاتب الحضور كونهم لم يعززوا منهجية وآلية التواصل بين الأجيال ما أسهم في قطيعة، مشيرا إلى أن البعض يعاتب الشباب المركز كثيرا على جهاز جواله والمتفاعل مع البشرية في كل أنحاء الأرض، مؤكدا أن التقنية رشيقة ومواكبة للعصر ومريحة من أصوات لا تملأ المجالس إلا هذرا وضجيجا ما يعزز الملل النفسي، ويدفع للبحث عن بدائل ملائمة لكل ذوق وتوجه، مستثنيا بعض المسامرات التي تراعي الشباب وتنصت لهم وتحترم وجهات نظرهم وإن كانت تجربة جيله محدودة إلا أنهم بحاجة لغسل الأرواح بأحاديث ذكريات جاذبة ومعززة للمعنى الإنساني بنكهة الشجن، فيما كان جيل رابع يمثله مداوس ومؤيد ينصتان ويتأملان استلال العبر من بئر المخيلة وكأنهما أمام أفلام أبيض وأسود، ولم ينس أبو فهد أن يختم المسامرة باسترجاع ذكرياته مع الكنافة الطائفية وعشقه لها مرددا ( هبابي بناني وافاني الحبيب ، وأكلني كنافة محشية زبيب).