الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بقصيدة !

خالد محمد العتيبي و يذكرني .. حكاية لا تنتهي !


لم يكن عنوان هذا الجزء من باب الإثارة للفت الانتباه أو المبالغة لسكرة الذهول .. لكن روح المتنبي الطاغية في شاعرية خالد محمد العتيبي تشي بأنه يستحق إلى حد بعيد هذا القول - على الأقل في قصيدته ( يذكرني ) - التي ملأ بروعتها الفضاء وشغل بعاطفتها وإدهاشها غير المنتهي الناس وزرع في الأصقاع والأسماع ( ياسمينه وفله ) وأوعز ( للصبا ) أن يعزف لهما أبد الدهر ..

ذلك أن هذا النص حظي بجملة ميزات لا تتأتى كثيرا في جميع الأحوال لكثير من النصوص فقصيدة ( يذكرني ) كتبت لمدح ورثاء سيد الأنبياء والمرسلين وصفوة خلق الله أجمعين ، وكتبت والشاعر متشبع بروح وشاعرية المعجز أبي الطيب المتنبي الشاعر الذي ما زالت ساحة الشعر عاجزة عن استنساخه ، وكتبت بعاطفة حقيقية ظهرت كثيرا من خلال معاني النص وتوهجت في إلقاء الشاعر لها وبلغة جذابة للأسماع وصور أبت إلا أن تلتصق بوجدان الأمة الذي يرى ما يراه الشاعر لكن رياح التوفيق تجري بما لاتشتهي سفن المحاولات .. وأخيرا حظي النص بإنشاد مميز وفلم مؤثر مصاحب وبث فضائي صباح مساء وبشكل يومي ولفترة طويلة ..


دعت سمرالجدايل وانتخت بالقذلة الهلة ... تبي مني عروس للقصيد ازريت لاغويها

ويوم اني لقيت لها الخلود وجيت ابوصل له ... تنحرك الكلام اللي فهقها دون مغليها

خضع لك راس مسبوق القصايد وانحنى كله ... وانا بك شاعرالدنيا ومشغلها وماليها

يذكرني رحيلك مجلس باق على حله ... مداهيل الرجال اللي تنومسنا مواطيها

هنا سليت سيف يوفي الثارين من سله ... هنا علقت رمح يطعن الجوزا ويطفيها

هنا بينت مصحفك الكريم ودلنا دله ... معك نبدا مواعيد الكلام وننتهي فيها

هنا ساقيت غصن من غلا كنا تحت ظله ... نسولف بالغنا يا بايع الدنيا وشاريها

هنا كان الرجال جبال ما تقبل خنا الزلة ...عمايمها سحاب وابله باقي مواضيها

رجال لو تشوف الماء غدر ما شربته لله ... نبت عشب الرضا يا سيدي بأول مغازيها

هل التوحيد وكنوز العلوم ونصرة الملة ... رجال يضحك التاريخ لولها وتاليها

هنا ماضيك ورياض الخليل اللي رعى خله ... شربنا عذبها مدري لعبنا في مغانيها

هنا ..

هنا تخنقني العبرة وانا اكتب يا رسول الله ...
على قبرك نسيت الناس حاقدها وحانيها

وابو قبر يتيه من الفخر بالبيد وتجله .. على حسد تبين من سمايمها وصاليها

ويهناك الوفا قبر يضمك في ثرا تله .. ما دامه بين فردوس الجنان وبين منشيها

وانا لا من ذكرت فراقك اللي في يدي غله ... نسيت ان الليالي شيبتني من بلاويها

على بعد الزمان اللي يعقد الحبل ويحله ... ليامني ذكرتك طاحت الدمعة وراعيها

سلام الله ما هز الصبا نسرينه و فله ... على الطفل اليتيم اللي عطى الدنيا معانيها



ليس من السهولة أن ننتهي عند جماليات هذا النص الفارق وصوره المذهلة .. بل إنه رغم جمال الفلم الذي تعرضه قناة الواحة ( فيديو كليب أنشودة يذكرني ) واجتهاد المنشد المتألق البشيري إلا أن النص أكبر وأعمق وأجمل بكثير .. بحيث لايمكن للفلم أن يضع الخطوط تحت الإبداع الشعري ولا يمكن للمنشد أن يضع البلاغة بين الأقواس .. ولا يمكن لنص شاهق أن نتناوله إلا ونحن نعتذر عن التقصير بالإحاطة بجمالياته غير القابلة للتوقف عند حد .. إلا أنه من اللافت للنظر أن الأشطر الثانية من الأبيات كانت غالبا هي التي تضع نقط الدهشة على حروف الألق ..


ليست إلا محاولات أبت سكرة الذائقة إلا أن تترنح لها ..

يعاني كثير من الأدباء من استهلال النص والدخول في معتركه وغالبا إذا تيسر مدخل النص سهل التخلص والخروج .. ومع كون الشعر المتنفس الوجداني الوحيد ومع هذا يقبع تحت حصار الآلام والإحباطات والحياة المادية التي خنقت الإنسانية بتلوثها وثقبت طبقات الشفافية في الأرواح ثقبا يمتنع عن الرقع ، انتشر الشعر وكثرت الدواوين وأبى عدد الشعراء أن يقف عند حد ولسان حال التجارب يقول : ماترك الأول للآخر ! فقد استهلكت كثير من المعاني والصور والتراكيب وأصبحت مهمة الشاعر أصعب لئلا يكون نسخة / صدى / لشاعر آخر دون أن يدري !


وفي ( يذكرني ) استهلال بديع جمع بين الإيغال في الأصالة وثقة الجدة التي تأبى إلا أن تقول :
كم ترك الأول للآخر !



دعت سمرالجدايل وانتخت بالقذلة الهلة ... تبي مني عروس للقصيد ازريت لاغويها
ويوم اني لقيت لها الخلود وجيت ابوصل له ... تنحرك الكلام اللي فهقها دون مغليها


ليس جديدا استدعاء الجديل ونقضه ولا تشبيه القصيدة بالعروس لكننا إزاء شاعرية قادرة على بعثرة المألوف وتركيبه من جديد بطريقتها الفارقة ..

ويثير الشاعر قارئه في الشطر الثاني فقد فشلت محاولات إغواء البوح وتمنعت القصائد بشكل متكرر وعندما أوشك على الوصول ليس لها بل ((( للخلود ))) فرصة بلوغ القمة بعد انزلاقات متكررة لسفح الفشل أمر مثير حقا .. ليتساءل المتلقي : هااااااااااااااااااااه وبعدين ؟
ليأتي الجواب المحبط : تنحرك الكلام اللي فهقها دون مغليها !


تمهيد فيه حشد للعاطفة وإغراء لها للدخول لملاحقة الحدث المؤلم ليتساءل التلقي ثانية :
ليه ؟!
لتجد الجواب في الكلام بل في ضمير المخاطب ( ك ) في تنحرك بشكل أدق .


لتستمر دوامة الأسئلة الباعثة على دهشة التلقي وجذبه للتواصل الوجداني مع النص و( مشورة الذائقة ) بين اللغة ذات الجذور الضخمة والصور ذات الإطارات المرهفة والعاطفة الممطرة بالحب الصادق الشفيف .

وبعدين ؟

وفي خضم اليأس والبؤس إثر ( فهقها دون مغليها ) تأتي المفاجأة العملاقة والثقة الصارخة :

خضع لك راس مسبوق القصايد وانحنى كله ... وانا بك شاعر الدنيا ومشغلها وماليها


إنها شاعرية مكلفة مرهقة للذائقة التي اعتادت على رؤية الشعر متمددا بملل على أريكة الروتين العتيقة ..

شاعرية مزلزلة ونحتاج لرصد ذوائقنا معها لمقياس ( رختر ) لنصدم بقراءته بأن ثمة زلازل في الوجدان والخيال والذهول والإعجاب تضرب في وقت واحد أعماقنا وأرواحنا ونكتشف أسرار الفيضانات ( تسونامي ) في العيون والعروق والأنفاس و لنجدنا نتداعى وننهار مع دمعة الشاعر الرقيقة التي أسقطته بسقوطها فسقطنا جميعا ! ((( طاحت الدمعة وراعيها))) / الحق وقارئها أيضا !


ولتستمر الأسئلة تتقاذف على النص :

خضع القصيد وانحنى كله بعد أن تمنعت واحدة وتأبت كثيرا وابتعدت .... وصار الشاعر المحبط اليائس شاعر الدنيا وشاغلها وماليها ؟؟؟


في هذا البيت ليس مجرد تضمين للقب المتنبي ( مالئ الدنيا وشاغل الناس ) بل إن البيت شرب من روح المتنبي حتى الثمالة ووقع من فرط سكر الفخر والثقة .. في حالة شاعرية فريدة لا يمكن أن تتهم بالغرور مطلقا لما قدمته من إثبات صريح .. ودوما السر يقع في أضعف الخلق .. إن الإثبات هنا الذي لا يقبل المساومة والتداول في قول الشاعر ( بك ) .. ولا يمكن التطاول على وجدان الشاعر والطعن بما يشعر به إزاء صاحب الضمير المقلق ( ك ) الذي كان مسؤولا عن الإحباط والانتشاء معا .

ليفتح الفكر مظلة السؤال الكبير : من هو صاحب الـ ( ك ) ؟ ويبقى تحتها محتميا من مطر الدهشة ووابل المفاجآت !



هل ثمة متهم بالغرور والثقة الزائدة ؟ هل ثمة تساؤلات أخر ؟ لدى النص الكثير من الأقوال التي لم يدلِ بها ..


تعالوا حيث تتداعى الحيثيات :


يذكرني
رحيلك مجلس باق على حله .. مداهيل الرجال اللي تنومسنا مواطيها

في الرحيل قداسة وروحانية تجعلنا نلتمس العذر لحزن الشاعر ليكسب وقتا أكبر وفرصا أكثر للاستماع المنصت .


هنا سليت سيف يوفي الثارين من سله .. هنا علقت رمح يطعن الجوزا ويطفيها

رحيل فارس و أي فارس ذاك القادر على طعن الجوزاء لتنزف نورها وتنطفئ !

هنا بينت مصحفك الكريم ودلنا دله .. معك نبدا مواعيد الكلام وننتهي فيها

لايزال التعريف بالراحل الاستثنائي الفارس الكوني يأخذ طابع التلميح .

هنا ساقيت غصن من غلا كنا تحت ظله .. نسولف بالغنا يا بايع الدنيا وشاريها

ولفت متكرر بتكرر ( هنا .. هنا .. هنا .. ليصعد السؤال : أين ؟ )

هنا كان الرجال جبال ما تقبل خنا الزلة ..عمايمها سحاب وابله باقي مواضيها


صورة متسامية .. لسمو الرجال وتعملقهم حتى بدو في عين الشاعر يتخذون من السحب عمائم ..
وبدا الوابل غيضا مما يتوضؤون به ..

وتستمر ( هنا وهنا وأين أين )


رجال لو تشوف الماء غدر ما شربته لله ... نبت عشب الرضا يا سيدي بأول مغازيها

تشويق باستمرار التلميح بالرجال والسيد الراحل ..

هنا ماضيك ورياض الخليل اللي رعى خله ... شربنا عذبها مدري لعبنا في مغانيها

ماض من الوفاء وصدق الرعاية التي سيذكرها الزمن ما تنفست الأيام ..

وفي ( مدري ) حيرة في أي الحدثين والأحداث التي وقعت ( هنا ) مقدم على الآخر ولم ؟



وهنا ..

المتابع للنص / الفلم يجد أن الشاعر الكبير توقف في هذه اللحظة وتوقف معه كل الصخب والاعتداد والفخر ...... ليكرر : هنا وينكسر معها بشكل لااااااااااااافت جدا


ليأتي الجواب المنتظر لكل الأسئلة المعلقة من صبيحة النص :

هنا تخنقني العبرة وانا اكتب يا رسول الله ..على قبرك نسيت الناس حاقدها وحانيها

وإذا مع الشاعر الحق في كل ماقال وزعم ..

وإذا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم هو ملهمه وفارسه وسيده الذي صار به شاعر الدنيا ومشغلها وماليها ..

... لله در الشعر ...

وابو قبر يتيه من الفخر بالبيد وتجله ... على حسد تبين من سمايمها وصاليها

ويهناك الوفا قبر يضمك في ثرا تله ... ما دامه بين فردوس الجنان وبين منشيها

وحق لقبره الفخر بضمه عليه الصلاة والسلام .. وحق لكل بقعة في الأرض أن تحسد قطعة من الجنة تلتصق بالأرض فترسل الصحراء حسدها سموما مشتعلة .. تبرير لحر الصحراء الحارق وتصوير غاية في الروعة ..

والآن وقد أشرقت شمس صاحب الـ ( ك ) فإذا به نور الدنيا .. يتوالى البوح المحب :

وانا لا من ذكرت فراقك اللي في يدي غله .. نسيت ان الليالي شيبتني من بلاويها

وفراق المصطفى مصيبة المصائب التي تهون معها كل مصيبة ، هكذا يجد شاعر الدنيا عزاءه في سيد الخلق عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم ..

على بعد الزمان اللي يعقد الحبل ويحله .. ليامني ذكرتك طاحت الدمعة وراعيها

وعلى مر السنين والبون الشااااااااااااااااسع الممتد لأكثر من ألف وأربعمائة وستة وعشرين سنة تضج الذكريات واللهفة والشوق لتسقط دمعة اللوعة مسقطة ( راعيها معها ) ..

... ولله در الشعر ...

وبعد صخب الحزن وهول الفقد .. وسقوط الدمعة وراعيها ..

استسلام وتسليم .. وسلام :

سلام الله ما هز الصبا نسرينه و فله .. على الطفل اليتيم اللي عطى الدنيا معانيها

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

وفي النص الفارق مدح للصحابة عليهم رضوان الله

جاء منها :

هل التوحيد وكنوز العلوم ونصرة الملة .. رجال يضحك التاريخ لولها وتاليها

وهذا البيت في رأيي المتواضع ليس بقوة النص وإحكامه رغم نشوة الفخر فيه واستحضار التاريخ كله لتسجيل شهاداته في الصحابة وأعتقد إن السبب في ( يضحك ) إذا أن أبعاد الضحك وإن كان لا يتوقع هنا غير ضحك الرضا ( تبسم الرضا ) لكن الحديث عن الصحابة وبلاءهم في نشر الدعوة ونصرة الإسلام يجعل التاريخ يقف ليحييهم لا ليضحك لهم ..

وأعتقد إن الشطر لو كان :

هل التوحيد وكنوز العلوم ونصرة الملة .. رجال( يوقف / ياقف ) التاريخ لولها وتاليها

لكان أقرب لعاطفة النص الجياشة ونشوة الفخر الصاخبة واعتداد الشاعر بأبطال نصه بما فيهم هو شخصيا ..

من هنا أحيي شاعر الدنيا وشاغلها وماليها : خالد محمد العتيبي على ما جمعه من عناصر تشبع الفكر والوجدان تجاه سيد الأنبياء وصفوة الخلق .. وأعتذر لكم وله عن قصور المحاولات وتقصير الأدوات .

(منقول)

هنا كان الرجال جبال ما تقبل خنا الزلة ..عمايمها سحاب وابله باقي مواضيها
/
/
/
/

الف شكر يا الفارس

مشكووور يالفارس

شكرا جزيلا أخي الفارس فوجودك بيننا شرف لنا

بارك الله فيكم وفي تواصلكم الرائع ....

والله يعطيكم العافية ....

مشكور الفارس

فارس في كل شى

يعطيك الف عافيه