رؤية عبد الله باشان في قصيدة الشيخي (حكاية عمر) في صحيفة المدينة

الكاتب والناقد الكبير : عبدالله باشان

رؤيته في قصيدة الشاعر إبراهيم الشيخي ( حكاية عمر ) صحيفة المدينة

أليست البلاغة بقول الجرجاني (ما جاء من القول مطابقا لمقتضى الحال)؟

هنا ربما تم استشعار زهير بن أبي سلمى:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبالك يسأم

يتركنا الشاعر إبراهيم الشيخي عند الفراغ من قراءة نصه (رحلة عمر ) في حالة نفسية متأملة وكأنما يريد أن يعكس ذاته المخاطبة في النص على كافة الذوات الجماعية ربما كانت مطابقة لمقتضى الحال (الذاتي / الجماعي ) ونظل أمام فيض من مشاعر مختلفة ناتجة عن هذا التنوع الصوتي الذي حفلت به القصيدة ، فمن المغامرة بالصوت المبحوح ، الى الذات الحاضرة التي توجه المعنى، ثم تتتالى صور عاصفة تطاول المستحيل وتحيل الفرح المباغت الى حزن متمكن يحتمه الفقدان العاطفي او يرتفع في الصوت في اشراقة متأنبة ممزوجة بالحيرة .

ولوج للنص

البناء في هذا النص قائم على معطيين الاول المحاكاة الذاتية والثاني الصور الجزئية .هذه المحاكاة تحيل الصوت الشعري إلى مناغمة متلبسة بحيرة .يستهل النص بمقطع من المواقف المحيرة والمخاطبات الذاتية المتشائمة

(طال انتظاري والمشاعر شكل غير ولون غيـر)،

فنتهيأ لاستقبال شعر يتلبسه حس عاطفي متأزم من نوع خاص، يشتبك على نحو ما مع جدلية الشعر في مخاطبة النفس، يعلي القلب ويسفل العقل، حيث تتقلب المشاعر من حال الى حال، تتبنى جدلية القصيدة على متغير وثابت (مشاعر شكل غير ولون غير /جمود الساعة الرقمية ) فالمشاعر متقلبة والساعة ثابتة ، هذه الجدلية تطرحها القصيدة في عدد من الحركات المتتابعة:

في الحركة الأولى للمتن (الطاولة كتلـة / والشمـع مبلل بالزفير والزاوية خجلا)

(والفجر في قمة جبل مصلوب/ احتطب نجوم الليل)

(والريح قيثارة لها موجة صريـر

(هنا يتجاوز بنا المتخيل عند الشاعر حد المعقول ليشبع التجربة بموجباتها فينطرح من خلال مجموعة من الصور الجزئية المتتالية التي تماثل الشطح ويدلل على هذا جمعه بين صور متناقضة (صامتة / صرير) ويستعين بحرف العطف (الواو) لإبراز دلالات جمود الأشياء من حوله بينما الزمن يمضي والجمود يلف المكان (الطاولة/الزاوية/الفجر/الليل/الريح) وهو ما تكشف عنه الحركة الثانية وهو تسابق الزمن (ميلادي الرابع وعشرين) وهي انعكاس للشعور النفسي المتأزم إذ ينسكب الحزن على العاطفة المتأججة بالإحباط , مما أفرز فلسفة متناقضة في تصوير حجم المأساة(الريح قيثارة صامتة/ لها موجة صرير) فالتضاد يفرز حجم الحيرة بين جدلية الصمت والصرير، وقديما قالوا :

وبضدها تتميز الأشياء .

هنا تتكشف الصورة المجازية القائمة على إيجاد علاقة ليست موجودة في الأصل عند الموازي الواقعي لينشأ الصراع الداخلي لدى الشاعر .

فتعلو حالة من الوجد والتوق متخذة من أفعال (تساقطت / تستعبد ) أداة لتصل بنا عند حالة من التوهان الذاتي .

وفي الحركة الثانية للمتن يتقمص دور (فنان تشكيلي) فيكشف الشاعر عن نفسيته وعلاقته بالآخر وطريقته في تقديم نفسه للآخرين ورؤيته للأشياء بطريق فني يناقض الحياتي العادي، ويخالطه التصور والظن والعزلة

(وحيد واعشق وحدتي والناس من حولي كثيـر

حتى ان فوق الارض يزعجني دبيـب اقدامهـا)،

وهو تمرد على إيليا أبو ماضي :

أيها المشتكي و ما بــك داء

كن جميلا تر الوجود جميلا

ويعنف في التمرد على (أبو القاسم الشابي)

ولا بد لليل أن ينجلي

و لا بد للقيد أن ينكسر

والليل سلمنـي نجومـه واحتطبـت عظامهـا

الحركة الثالثة تكشف لنا صورة الإمعان في التمرد والاعتداد بالذات رغم التأزم النفسي

اهبط على سور المدينـة ليـن أولعهـا سعيـر

وارجع واشيدها مدايـن مـن بقايـا حطامهـا

وهي صورة غاية في الروعة إذ يتخذ من الفعل ( اهبط) دلالة رمزية على اعتلائه الفضاء واتخاذه سكنا وهي استعارة حذف فيها المشبه ( الصقر ) .واكتفي فيها بذكر شيء من لوازمه (الهبوط) .

الحركة الرابعة في النص تتضح بكشفه لحالة التمرد التي يعيش فصولها

تمرد افكاري يسافر بي علـى جنحـان طيـر

حتى يوصلنـي مجـرات السمـا واجرامهـا

ويعيش الشاعر صورة من الفانتازيا النرجسية التي تفضحها محمولات لفظية للأنفة والكبرياء (راسي هناك / ألف كوكب حول راسي تستدير / مالي مساحة تحتويني )

وكأننا به يتشرب كبرياء وأنفة ونرجسية المتنبي :

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ولم ينس الشاعر النزعة العروبية في نصه المتماهي بالدلالات عندما كشف عن نزعة استقلالية ورغبة في الانفكاك من العبودية لكنه هرب من المحمول اللفظي (تقرير ) إلى ( تحديد ) .. وطابق بين المحمولين (آمالها / آلامها) في إشارة مأساوية إلى الاختلاف الحسي المعنوي بينهما

اثر البشر ماردها عن حـق تحديـد المصيـر

الا مسافـة حـرف بيـن آمالـهـا وآلامـهـا

وتتجلى النزعة الدينية في النص من خلال المحمول اللفظي ( القدر )

هذة حكاية عمر اسطرها على لوحـة حريـر

رسامها كـف القـدر ماهـوب انـا رسامهـا

ويختم الشاعر نصه بتلك الثيمة الإيقاعية والدلالية المتكررة في بداية كل مقطع من مقاطعها، لتتجاوب أصداء المفارقة وتتوالد السخرية في حلقة ربطت البدء بالختام ضمن دوائر مفرغة من دلالات الدفق العاطفي والمعاناة التي أظهرت طقساً من طقوس الوجع تطلقها الذات المتشظية في كهوف الحياة عبر هذا التعاشق الشفيف بين إيقاعات الحزن و موسيقى الصورة الشعرية المخضبة بالمجاز والانزياح المشفر.

عسى السنين اللي طواها البين تذكرنـي بخيـر

والله يصبرني وانـا استرجـع شريـط ايامهـا

أخيرا

أسلوب الشاعر يتسم بالجمال الواضح الكاشف بلطف لا يخلو من الغموض ولكن ليس المتعمد فهو مثقف واع مطلع ومتسلح بثقافة عصره .

ويبدو لنا الشاعر مغرما باستخدام أسلوب الانحراف بالدالة والتماثل الصوبي عن طريق شحن اللغة بعلاقات جديدة للجملة مقتربا بذلك إلى ما يسميه(ايفون دوبليس) تفجير اللغة ويقصد به (أن تفرغ كلمات اللغة من دلالتها القديمة وتحقن بأحرى جديدة فليس المعني المعجمي هو معناها الوحيد وإنما لكل كلمة معان شتى معان داخلية تتداعي في لحظة رؤي الشاعر وانفعالاته الباطنة الخاصة).

طال انتظاري والمشاعر شكل غير ولون غيـر

والساعـة الرقميـة اذهلنـي جمـود ارقامهـا

الطاولة كتلـة خشـب والشمـع بلّلهـا زفيـر

والزاوية خجلا تعبـر عـن مـدى استفهامهـا

والفجر في قمة جبل مصلـوب للأمـر الأخيـر

والليـل سلمنـي نجومـه واحتطبـت عظامهـا

والريح قيثارة على الصامت لها موجة صريـر

تتملل اطـراف النوافـذ مـن رفيـف انغامهـا

ميلادي الرابع وعشريـن اقبـل بخيلـه مغيـر

ضيفٍِ كسر قيـد امنياتـي واعلـن استسلامهـا

تارك وراه انفاس مـرت كـل مافيهـا مثيـر

هلت لها عيني وانـا استرجـع شريـط ايامهـا

تساقطت في هيئـة اوراق الخريـف المستجيـر

من عاصفـة تستعبـد اوراقـه بسـن فطامهـا

وحيد واعشق وحدتي والناس من حولـي كثيـر

حتى ان فوق الارض يزعجني دبيـب اقدامهـا

اهبط على سور المدينـة ليـن أولعهـا سعيـر

وارجع واشيدهـا مدايـن مـن بقايـا حطامهـا

لو يحسبون اش كثر مافيني من الحزن المريـر

دخلت موسوعة جينس واجتـزت كـل اعلامهـا

تمرد افكاري يسافر بـي علـى جنحـان طيـر

حتـى يوصلنـي مجـرات السمـا واجرامهـا

راسي هناك وألف كوكب حول راسـي تستديـر

متفاوتة مابين كبـر وبيـن صغـر احجامهـا

مالي مساحة تحتويني بكل هالكـون الكبيـر

نفسي تمرجـح بيـن واقعهـا وبيـن احلامهـا

اثر البشر ماردها عـن حـق تحديـد المصيـر

الا مسافـة حـرف بيـن آمالـهـا وآلامـهـا

هذة حكاية عمر اسطرها علـى لوحـة حريـر

رسامها كـف القـدر ما هـوب انـا رسامهـا

ميلادي الرابع وعشرين انت ضيف وضيف غير

صحيفتك بيضا ولا ادري وش تخـط اقلامهـا

عسى السنين اللي طواها البين تذكرنـي بخيـر

والله يصبرني وانـا استرجـع شريـط ايامهـا

تم نقلها هنا رغم قدم الموضوع للاستفادة