الديرة بين الماضي والحاضر ..

ليست ببعيدة تلك الحقبة التي رأيتها في آواخر الثمانينيات وآوائل التسعينيات وحتى الآن أي ما يزيد عن الأربعين سنة ، إلا أنه حدث اختلاف وفارق كبيرين بين ذلك الماضي والحاضر . صحيح أن التطوّر طرأ على كثير من الأحوال لكن على حساب أشياء أخرى كانت في نظري ضرب من الخيال لو ذكرت لأحد من حديثي العهد بحياة اليوم .
كنت صغيرا في المرحلة الابتدائية لا يتجاوز سني خمس سنوات ، لا أعرف سوى والديّ أطال الله في عمريهما ، وبعض الأقارب والجيران . كانت المدرسة تبعد عنا حوالي 2كم كل تلك المسافة لا تخلو من الأحراش والهوام ألا أننا ألفناها ، وقد لا تٌفاجئنا كثيرا لو وجدناها . كان فصل الشتاء بالنسبة لنا أعياد ننتظرها بفارغ الصبر لكونها مطيرة ، وهذا يعني غياب عن المدرسة في الأيام المطيرة ، ونفرح بها رغم شدة برودتها ، والمدرسة كانت تُقدر لنا ذلك الظرف . هناك مناسبات أخرى كنا ننتظرها ، وهي فكّ الحمى ، والحمى هذا جبل تتم خلال فترة معينة منع الأغنام من الرعي فيه حتى يتم الحفاظ على ما فيه من كلا لتقوم القرية بحالة استنفار قصوى لأخذ ما يحتاجونه من عشب وكلا (حشيش ) ليدخرونه في منازلهم لحيواناتهم ( أبقارـ ثيران ) كان هذا اليوم بالنسبة لي يوم فرح لكوني سأصطحب والديّ إلى تلك الجبال وأرتاح قليلا من صعود تلك الجبال إلى مدرستي .
كان الناس أسرة واحدة يقتسمون اللقمة ، ويفرحون لفرح بعضهم ، ويحزنون لحزن بعضهم .بل يسارعون في مساعدة من يحتاج منهم حتى يقيم نفسه . يقال لي أن الملابس كانت لا تخلو من الرقاع بكل ألوان الطيف ، وقد كنت في نظري أحسن من غيري ، لكوني الوحيد مع والديّ ، ولحق بعدي من لحق ، وكان حظه أوفر من حظي بكثير ههههههه . كان المسافر لا يكاد يجد الراحة بعد عودته من عناء السفر لكون أهل القرية يقدمون إليه ، وكل ذلك من أجل الاطمئنان عليه ، وعلى من بعده من شباب القرية . صحيح أن ظروف الناس المادية والمعيشية كانت صعبة جدا ، لكن القلوب كانت ممتلئة بالقناعة ، والتوكل على الله . السكان كل اعتمادهم على ما تنتجه تلك المزارع ليبيع من يبيع ، ويميّر أهله من يميّر ، كان الناس يخرجون لصلاة الاستسقاء ، وقل أن يعودوا والمطر على إثرهم هكذا قالوا الكبار ، ماذا يعني هذا .؟ هذا يعني أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه . القلوب صافية تكاد تخلو تماما من الحسد والنفاق .ولذلك الله أعطى من يستحق .كان الناس لا يعرفون سوى الكدح في الأرض ، وليس لديهم الوقت الكافي للقيل والقال . كانت الأرض مخضرة ، وفيها من الخيرات ما لله به عليم . كان الشخص يذهب من الصباح ولا يحتاج إلى زاد كل شيء يجده ( عنب ـ خوخ ـ مشمش ـ ذرة ـ حبش ـ تفاح وغيرها الكثير .) هذه الإجازة الأخيرة سمعت عن تلك الأمطار التي هطلت هناك فقررت وبعض أفراد الأسرة على السفر ، ورأيت بعض النباتات ويعلم الله من عشرات السنين لم أرها .
تغيّر الحال ،وتغيّرت معه سيكولوجيات الناس ، فقلما نسمع أن الأسرة الواحدة على وئام فهذا أب يشتكي من ابنه ، وذاك أخٍ يئن من جور أخيه ، وهذا يأخذ من ممتلكات هذا ، وذاك يحلف اليمين إنه لم يفعل شيء ، وصدق الله حيث قال : {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }الرعد11 . الله سبحانه وتعالى يعطي ، ولديه الكثير لكن هل يعطي من لا يستحق .؟ وهل يعطي من لا يشكر؟ قليل ما نسمع من يقول عند سماع الرعد يا كريم كما كان في السابق لشدة الحاجة ، أما الآن فقليل من يشكر نعمة الله وصدق الله حيث قال : {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }العنكبوت62 . تلاشت المودة والمحبة بين الناس ، وأصبح البعض يتمنى لأخيه الشر أكثر مما يتمنى له الخير . قست القلوب وتحجرت حتى أصبحت الرحمة والمودة والألفة التي كنا نراها شبه معدومة إن لم تكن مدبرة للإيقاع بالآخرين . المحاكم مليئة بقضايا الناس ، مما زاد من البغضاء والشحناء بين الناس ، وهناك من يعمل جاهدا على إشعال الفتن أكثر مما هي عليه . لم تقتصر هذه المشاحنة على الكبار، بل توارثتها الأجيال التي من نسلهم إلى أجل غير معلوم . رغم أن الله أسبغ على الجميع نعمه ظاهرة ، إلاّ أن القلوب أضيق من سمّ الخياط ، ولم تعد تتسع لأكثر من ذلك . هذه مجرد مقارنة بين الماضي والحاضر ، وكيف كان الناس في توادهم وتراحمهم مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : وفي الصحيحين عن النعمان بن بشيررضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى } . وفيهما عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وشبك بين أصابعه). رغم أن الحال الآن أفضل بكثير ممّا كان عليه ذلك الوقت ، وفي نظري لم يعد هناك فارق يذكر بين الحياة في المدينة ومثلها في القرى بل بالعكس أرى أن حياة القرى أصبحت أفضل بكثير من المدينة ( هدوء ـ وبعيد عن ضجيج السيارات ) وكل ملتزمات الحياة أرى أنها متوفرة ، وبأسعار أقل كما رأيت في سفري هذه المرة . تقديري ومحبتي للجمع .