المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (موسم الهجرة للشمال)


صقر الجنوب
12/09/2005, 10:55 AM
يارا
بعد الإجازة
عبدالله بن بخيت

(أعود إليكم يا سادتي بعد غيبة طويلة. سبع سنين على وجه التحديد) بهذه الجملة يفتتح الكاتب السوداني الطيب صالح روايته المميزة (موسم الهجرة للشمال). في الإجازات الطويلة أقرأ الكتب القديمة وأسمع الأغاني التي سمعتها في صباي. تلك الكتب والأغاني التي استمتعت بها في أزمنة بعيدة متفرقة. أسمعها وأقرؤها لا لأني أريد أن أعيد عقارب الساعة إلى الوراء ولكن لأبثها مشاعر الامتنان, فكل كلمة أكتبها اليوم هي ثمرة كتاب طالعته في زمن من الأزمنة. طالعت في هذه الإجازة أكثر من كتاب من الكتب القديمة. يمكن أن أسمي هذه العادة مراجعات لمنعطفات عاطفية. الشيء الذي أحزنني كثيراً أن هناك كتباً أحسست أنها انطفأت في قلبي. لم تعد بتلك السخونة التي كنت أجدها عليها في الماضي. لن أقحمكم في الخوض معي في مشاعري نحو تجارب الماضي مع الكلمات.
بهذه العبارة الموحية التي وجهت حياتي كثيراً أحببت أن أبدأ عمل الكتابة مرة أخرى بعد غيبة دامت قرابة شهر. إجازة قصيرة قضيتها في أكثر من بلد أجرر ورائي أطفالي وأم العيال والشغالة. مرة في طائرة ومرة في باص ومرة في قطار. لا نكاد نستقر في مكان حتى تنتابنا رغبة الحركة والترحال. أجمل ما في السفر مع العائلة هي الحميمية والالتصاق التام بعائلتك طوال الليل والنهار. أحياناً تضطر أن تنام معهم في غرفة واحدة. شيء لا يمكن أن يتحقق في الحياة العادية. تتعرف على تفاصيل دقيقة عن أطفالك وزوجتك. تدخل معهم في نزاعات. تتضاءل فوارق العمر والتجربة بل تتدنى درجة الهيبة. لا تفاجأ إذا قال لك أصغر عيالك بكل هدوء وثقة وهو منبطح يشاهد التلفزيون حتى دون أن يتلفت إليك: يبه قم جب لنا ببسي. وفي الوقت الذي تبحث فيه عن رد على هذه الوقاحة وقلة الأدب إذا بالثاني يقول ولا تنسى تكفى تجيب معك تشبس. وقبل أن تقرر الإجراء الذي تستعيد به هيبتك المسلوبة تسمع البنت الصغيرة تقول: يبه بروح معك. وقبل أن تستعيد عقلك من ذهوله تسمع أم العيال تقول: اقعدي يبغالنا ساعة نلبسك ثم تلتفت إليك: جب معك قارورتين موية صحة. أعنبو ذول يا لله كأنهم يتكلمون مع سواق أو صبي بقالة.
في الحياة العادية هناك جدار من الغربة يفصلك عن عائلتك. لا يسمح لك بالاختلاط الكثيف بها. تعود إلى البيت في وقت ويعود أطفالك في وقت آخر ربما تتغدى معهم ولكن لا يمكن أن تتعشى أو تفطر معهم. وفي الوقت الذي تكون العائلة على استعداد للمرح تكون أنت متعباً أو طفشان وفي الوقت الذي تستعيد فيه نشاطك يكون أطفالك قد أخلدوا للنوم. أفضل تعبير عن هذه الحالة هي العبارة التقليدية التي يرددها بعض كتاب الصحف (دوامة الحياة). ودوامة الحياة تتحول إلى ما يشبه الروتين. يتطور إلى شيء يجب احترامه. لا يعرف عنك أبناؤك في هذه الدوامة إلاّ الجانب التربوي والوجه القيادي والتأففات التي تحضرها معك من الشارع. أشبه قضاء الإجازة في سفرة مع العائلة بحياة القرية. حتى لو قضيتها في أحدث فنادق العالم. في السفر لا يوجد لديك متسع من الوقت لتضع الأشياء في مكانها المعتاد. الإجازة تمنحك حياة القرية البسيطة حيث يعيش الناس على المكشوف. لا يعود للهيبة مكان. تختفي الخصوصيات والمسافات وتتدنى فوارق العمر. يستعيد الإنسان روحه المسلوبة. الإجازة شيء ضروري لا يمكن لأي إنسان أن ينجز بشكل صحيح إذا تخلف عن إجازة من إجازاته. وأفضل إجازة (حسب ظني) هي السفر مع العائلة. فدفء العائلة الصغيرة هو حضن الطبيعة بكل تجلياتها ولا يمكن أن تحصل على هذا الدفء كاملاً إلا في السفر. هذا انطباعي على أي حال وكل عام وأنتم بخير.



فاكس: 4702164 yara4u2@hotmail.com