المتميز
08/10/2005, 05:07 PM
آنا الروسية.. شاهدة على الجحيم؟
***************************
ترجمة وتحرير/ عاطف معتمد** (كاتب وأكاديمي مصري مختص بالشأن الروسي)
----------------------------
آنا بوليتكوفسكايا
كم هو مؤثر أن يشير الضحية قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة إلى قاتله، غير أن الأكثر تأثيرا أن تتقدم ابنة القاتل فتخرج من الأسرار ما لا يعرفه أحد!
آنا بوليتكوفسكايا صحفية روسية عرفها العالم لأول مرة في عام 2000، زارت الشيشان 50 مرة، وشهدت بحرفية ويقظة ما يرتكبه بنو جلدتها من قتل وتدمير واغتصاب وتعذيب.
السطور التالية عرض لما قالته الشاهدة، فليس أبلغ من أن يترك الشاهد ليروي شهادته دون شروحات تفسيرية. وقد جمعتُ هذه الشهادة مما نشر لآنا على مدى السنوات الأربع الماضية، سواء في مطبوعات روسية أو غربية. واخترت ما جاء منها في صورة حوارية حتى تزيد الفائدة.
* من هي آنا بوليتكوفسكايا؟
- آنا ابنة لأبوين عملا دبلوماسيين في عهد بريجينيف منتصف السبعينيات، وقد سمح لي القدر بأن أستزيد حبا للعمل الإنساني منذ انتهاء دراستي الصحفية. فمع مطلع التسعينيات عملت في صحيفة نصف مغمورة لمتابعة قضايا التدهور الاجتماعي. ومع التوتر بين الشيشان وروسيا في 1998 انتقلت إلى الصحيفة الشهيرة "نوفايا غازيتا"، حيث أرسلني رئيس التحرير في مهمة شبه انتحارية إلى الشيشان؛ حيث كان الصحفيون يُخطفون لاشتباه المقاومين في عمالتهم للمخابرات الروسية.
حصلت لتغطيتي الوضع في الشيشان على جائزة القلم الذهبي من اتحاد الصحفيين الروس في عام 2000، وجائزة الشجاعة الصحفية من مؤسسة الصحافة النسائية الدولية عام 2002، وجائزة الاتحاد الأوربي للصحافة والديمقراطية في 2003.
* ألا تشعرين بالحرج عند نقدك اللاذع لبلدك بما قد يؤدي إلى تشويه صورته؟
- لم أتوجه بالنقد إلى بلادي كراهية، بل آمنت أن فضح الفاسدين أول الطريق للرجوع بروسيا إلى أخلاقيات ما قبل الثورة الشيوعية. إن الحرب في الشيشان عسكرت المجتمع الروسي، وأدخلت على ثقافته مصطلحات الكراهية والعنصرية، وزرعت في البيوت الخوف وألقت في قلوب الشباب كراهية الجندية. انظر كيف صارت العنصرية تجتاح حياتنا، كيف صرنا نسمي الشعوب التي تعيش في القوقاز والشيشان بالشعوب "السوداء" في انتكاسة عنصرية مهينة للإنسانية، وصنعنا منهم أعداء للأمة.
إن عديدا من الجنرالات الذين يعودون من الحرب في الشيشان يعينون محافظين ورؤساء أقاليم، وينخرطون في العمل السياسي، وهناك يمارسون السياسة والحكم بنفس أسلوب عملهم في الشيشان.
في روسيا يشنون عليّ حملة عداء ويعتبرونني عدوة لهم، وأجيبهم "نعم أنا عدوة.. عدوة جيش لا أخلاقي ومنحط، عدوة الكذب حول الشيشان وعدوة الأساطير المفبركة". وحينما قيل لي إن بوتين غاضب من كتاباتي أخبرتهم "أنا لا أحب هذا الرجل، لا أحبه لأنني أحب روسيا، هذا الرجل -لكي يجلس على العرش كسيد مطلق- زرع الكراهية في بلادنا، وخلق جهازا حكوميا غارقا في الشوفينية".
* هل هناك من نقطة تحوّل في اهتمامك بتغطية الأزمة الإنسانية في الشيشان؟
- في سبتمبر 2001 سافرت إلى الشيشان لتقصي معاملة المسجونين المعتقلين وسبل تعذيبهم، ووقفت على حقائق مفزعة. فاكتشف الجنود الروس أمري واعتقلوني وهددوني بالاغتصاب والقتل إن عدت ثانية. رجعت إلى موسكو لأجد خطابات التهديد في انتظاري. كان علي أن أتخلى عن الوعد الذي قطعته لطفل شيشاني يحتاج لمال لعلاج حروق جسده التي اشتعلت فيه من قنبلة قذفها جنودنا. وقفت في مفترق الطرق، وعزمت في النهاية على أن أعود إلى ذلك الطفل.
وهناك التقيت بجنرال روسي كان يهم بالعودة إلى موسكو ليفضح الانتهاكات التي تقوم بها القوات هناك، أعرب لي عن اعتراضه. دونت كل ما قاله لي، وتحفزت للعودة بسبق صحفي، ولكنها ساعات ورأيت المروحية التي كانت تقله وعشرة من زملائه تحترق.
ما أحزنني أنه في طريقي إلى موسكو كانت الحادثة تروج في الإعلام على أنها من تدبير المقاتلين الشيشان. بينما كنت على يقين أن الجيش الروسي قتل "الشاهد".
عدت إلى رئيس التحرير في "نوفا غازيتا"، أبلغني بأن وزارة الدفاع حذرته من نشر قصة لقائي بالجنرال! وهمس لي: "عليك أن تغادري البلاد". سافرت إلى النمسا وهناك وضعت أولى صفحات ثاني كتاب لي "ركن صغير في جهنم.. تقارير من الشيشان".
غلاف كتاب "الحرب القذرة"
*في كتابيك "الحرب القذرة"، و"ركن صغير في جهنم" قرأنا العديد من صور التعذيب التي يقوم بها الجنود الروس ضد المواطنين الشيشان.. هل تلخصين لنا أهم هذه الصور؟
- قابلت المئات في الشيشان ممن خرجوا للتو من السجن ومن عائلات ضحايا التعذيب التي تفاوتت بين الصعق الكهربائي (وفي الأماكن الحساسة من الجسد)، والتعرية الجسدية والتعريض للبرد ساعات طويلة، وإطفاء السجائر في أجساد الشباب المعتقلين، واتخاذ ذلك مادة للتسلية واللهو، وربط عنق المعتقل بحبل وجره في الأرض الموحلة، وسحل المعتقلين في أفنية السجون وخارجها، وانتزاع أظافر المعتقلين، والضرب بأدوات ثقيلة على كُلى المعتقلين، واتخاذ النساء والرجال دروعا لحماية مواقع عسكرية روسية بإلقائهم في حفر لأسابيع متتالية دون أن يخرجوا منها.
لا أنسى "روزيتا" تلك المرأة العجوز التي بقيت في حفرة أمام معسكر روسي 12 يوما، كان عليها أن تتبول وتتبرز في هذه الحفرة خلال تلك المدة الطويلة حتى قاربت على الوفاة فأرسل الجنود لذويها عارضين إطلاق سراحها مقابل دفع فدية، وعندما جاءهم المال أطلقوا سراحها شعثاء قذرة على حافة الموت.
وفي حالات أخرى يتم إغراق المعتقل في حفر مليئة بالماء البارد في الشتاء، ثم ينتزع منها ويلقى فوق أخشاب تحترق. لقد روى لي الفتى عيسى كيف خرج وزملاؤه من هذه الحفر عراة، وقبل أن يفيقوا كان الضابط الروسي قد شارك جنوده في اغتصابهم! ووسط ذهولهم وعد الضابط بالبحث عن نسائهم ليذيقهن ما ذاقوا! ولم يطلق سراح عيسى إلا بعد أن دُفعت له فدية جمعها أبوه ممن تبقى من أهل قريته.
*تتحدثين دوما عن أن الشيشان شعب غير مرغوب فيهNation Non Grata ، لماذا لا يفر الشيشانيون؟!
- لا يرغب فيهم أحد! أين سيذهبون؟ إلى داخل روسيا؟ حينما يأتون إلى موسكو للعمل في أي تجارة تدس لهم الشرطة المخدرات وتلفق لهم التهم. هل يسافرون خارج روسيا؟ أين الأموال التي يدبرون بها ذلك، إن 300 دولار هي قيمة جواز السفر لا يقدرون عليها؟ هل ستسمح لهم الشرطة الروسية بالسفر؟
الإجابة معروفة.. إن بقاءهم داخل الشيشان فرصة لتنفيذ الخطة التقليدية بتطهير أرض الشيشان منهم. أتعرف بماذا ينادي الجنودُ الروس الشيشانَ في أرضهم.. "أيها القرود".
*لقد أدخلت مصطلح "زاتشيستكا" إلى الصحافة الغربية وهي كلمة روسية تعني "التمشيط والكنس".. هل شاهدت ذلك وما حقيقته؟
- يقوم الجنود الروس بحصار القرية لعدة أيام لا يسمحون لأن يخرج منها ولا يدخل إليها أحد، ثم يطور الحصار فيمتد إلى الشوارع، وهنا لا يسمح بالانتقال من بيت إلى بيت مجاور، حالة يمكن أن تسميها حظر تجوال ليل نهار ومن يُرى خارج هذا الحظر تطلق النيران على رأسه. ثم يتقدم الجنود إلى بيت وراء بيت يفحصون الهويات بحثا عن المطلوبين، لن أنسى ذلك الرجل العجوز من قرية "ستاريا أتاجي" حينما شرع يؤكد للجنود الروس أن أوراقه سليمة فأردوه قتيلاً. ثم تكتمل العملية بطلب الجنود الروس فدية من المواطنين حتى يتركوهم يعيشون فلكي يتركوا بيتك دون أن يهدموه عليك أن تدفع لهم 1000 روبل ولتفتدي امرأتك من الاغتصاب عليك أن تدفع 500 روبل!
أذكر أنه في إحدى المرات اقتحم الجنود بيتا بعد أن هدموا سقفه على امرأة في المخاض، وعندما ناشدهم زوجها وأمها أرجوكم اتركونا حتى تلد المرأة، أجابوهم جئنا لنقتل الأحياء لا لنشهد ميلاد "وهابيين" جدد، مات الطفل في بطن أمه.
* وما الذي يدفع بالجنود الروس إلى ذلك وهم أبناء شعب اشتهر بالثقافة والحضارة؟
- يرسل القادة جنودهم إلى الشيشان دون إمدادات كافية، ودون رواتب تكفيهم، ويعيشون لأسابيع دون أن يغتسلوا، وتظل أحذيتهم مزروعة في الوحل لأسابيع متتالية وسط إطلاق النار وانتقال من عملية لأخرى. هنا يتحول أي شاب روسي إلى شبه حيوان تتفاقم وحشيته، وبعد أن يمضي 3 أشهر بعيدا عن فتاته التي كان يعاشرها في روسيا يبحث عن امرأة ليغتصبها.
*ألا يوجد من يحاسب؟
- العسكريون يجدون في الحرب ضالتهم لاستعادة مكانتهم التي فقدوها في الحرب الأولى عامي 1994-1996. أعرف بنفسي جنرالا روسيا قدم للمحاكمة جنودا روسا قتلوا وأحرقوا 6 من الرجال الشيشانيين، وقد عرفت من مصادري أن هذا الجنرال لقي مضايقات متعددة في عمله بسبب ما قام به من فضح أمر هؤلاء الجنود حتى يصبح عبرة لغيره.
العرف السائد في المنظمة العسكرية في الشيشان هي أن يتركوا الجنود يفعلون كل شيء مع ضمان ألا يحاسبهم أحد، وهو نوع رخيص من التعويض عن عدم توفير المتطلبات الحياتية توفيرا للمال في دولة يرتع فيها الفساد. يحزنني أن أصبح الجيش الروسي عدوا لشعبه بدلا من حام له. يمكنك أن تفهم ذلك من خلال الحوار الذي نقلته عن محضر استجواب جندي روسي:
ـ لماذا قتلته؟
ـ لا أعرف...
ـ ولماذا قطعت أذنيه؟
ـ لا أعرف...
ـ ولماذا سحلته؟
ـ لكن هذا شيشاني.
ـ لقد فهمت.
* بعد مشاركتك في التفاوض مع محتجزي رهائن مسرح موسكو في أكتوبر 2002 كتبت عدة مقالات.. ما أهم ما علق القراء عليه؟
- لقد تأثر الكثيرون بما قاله لي أبو بكر نائب قائد المحتجزين حينما سألته لماذا تداهمون المسرح؟ فأجابني: لتعلموا كيف نشعر خلال عمليات مداهمة بيوتنا وعندما يأتي جنودكم ليأخذونا رهائن ويضربونا ويذلونا ويقتلونا. نريد أن نذيقكم ما ذقناه وتدركوا كم آذيتمونا.
أتعرف من أبو بكر هذا؟ هو واحد من آلاف الأبناء الذين خرجوا من طفولتهم إلى الصبا في السنوات العشر الأخيرة على عويل النساء، ومنهم من عاش شبابه يتما وألما. هذا هو الجيل الذي ورث من الحرب الكثير، وأهم ما ورث الرغبة في الانتقام والكراهية.
*كيف ترين حل أزمة الشيشان؟
- أن يأمر الرئيس بوتين بانسحاب الجيش الروسي، ثم يسمح بتدخل قوات دولية لحماية أمن الشعب الشيشاني ومراقبة تحركات المقاتلين.
وهنا أتوجه بالرجاء للدول الغربية ألا تتعامل في مجال حقوق الإنسان بمعايير مزدوجة، من حق الشعب الشيشاني أن يعيش، وإن تم ذلك يمكن إجراء انتخابات في الشيشان تقرر ما الذي يريده الشعب، هذا رغم أن العناصر المثقفة والمتعلمة ممن يمكنهم قيادة بلدهم من الأطباء والمهندسين والمحامين وأساتذة الجامعات قد تم تصفيتهم، وقتل أغلبهم خلال الأعوام السابقة.
***************************
ترجمة وتحرير/ عاطف معتمد** (كاتب وأكاديمي مصري مختص بالشأن الروسي)
----------------------------
آنا بوليتكوفسكايا
كم هو مؤثر أن يشير الضحية قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة إلى قاتله، غير أن الأكثر تأثيرا أن تتقدم ابنة القاتل فتخرج من الأسرار ما لا يعرفه أحد!
آنا بوليتكوفسكايا صحفية روسية عرفها العالم لأول مرة في عام 2000، زارت الشيشان 50 مرة، وشهدت بحرفية ويقظة ما يرتكبه بنو جلدتها من قتل وتدمير واغتصاب وتعذيب.
السطور التالية عرض لما قالته الشاهدة، فليس أبلغ من أن يترك الشاهد ليروي شهادته دون شروحات تفسيرية. وقد جمعتُ هذه الشهادة مما نشر لآنا على مدى السنوات الأربع الماضية، سواء في مطبوعات روسية أو غربية. واخترت ما جاء منها في صورة حوارية حتى تزيد الفائدة.
* من هي آنا بوليتكوفسكايا؟
- آنا ابنة لأبوين عملا دبلوماسيين في عهد بريجينيف منتصف السبعينيات، وقد سمح لي القدر بأن أستزيد حبا للعمل الإنساني منذ انتهاء دراستي الصحفية. فمع مطلع التسعينيات عملت في صحيفة نصف مغمورة لمتابعة قضايا التدهور الاجتماعي. ومع التوتر بين الشيشان وروسيا في 1998 انتقلت إلى الصحيفة الشهيرة "نوفايا غازيتا"، حيث أرسلني رئيس التحرير في مهمة شبه انتحارية إلى الشيشان؛ حيث كان الصحفيون يُخطفون لاشتباه المقاومين في عمالتهم للمخابرات الروسية.
حصلت لتغطيتي الوضع في الشيشان على جائزة القلم الذهبي من اتحاد الصحفيين الروس في عام 2000، وجائزة الشجاعة الصحفية من مؤسسة الصحافة النسائية الدولية عام 2002، وجائزة الاتحاد الأوربي للصحافة والديمقراطية في 2003.
* ألا تشعرين بالحرج عند نقدك اللاذع لبلدك بما قد يؤدي إلى تشويه صورته؟
- لم أتوجه بالنقد إلى بلادي كراهية، بل آمنت أن فضح الفاسدين أول الطريق للرجوع بروسيا إلى أخلاقيات ما قبل الثورة الشيوعية. إن الحرب في الشيشان عسكرت المجتمع الروسي، وأدخلت على ثقافته مصطلحات الكراهية والعنصرية، وزرعت في البيوت الخوف وألقت في قلوب الشباب كراهية الجندية. انظر كيف صارت العنصرية تجتاح حياتنا، كيف صرنا نسمي الشعوب التي تعيش في القوقاز والشيشان بالشعوب "السوداء" في انتكاسة عنصرية مهينة للإنسانية، وصنعنا منهم أعداء للأمة.
إن عديدا من الجنرالات الذين يعودون من الحرب في الشيشان يعينون محافظين ورؤساء أقاليم، وينخرطون في العمل السياسي، وهناك يمارسون السياسة والحكم بنفس أسلوب عملهم في الشيشان.
في روسيا يشنون عليّ حملة عداء ويعتبرونني عدوة لهم، وأجيبهم "نعم أنا عدوة.. عدوة جيش لا أخلاقي ومنحط، عدوة الكذب حول الشيشان وعدوة الأساطير المفبركة". وحينما قيل لي إن بوتين غاضب من كتاباتي أخبرتهم "أنا لا أحب هذا الرجل، لا أحبه لأنني أحب روسيا، هذا الرجل -لكي يجلس على العرش كسيد مطلق- زرع الكراهية في بلادنا، وخلق جهازا حكوميا غارقا في الشوفينية".
* هل هناك من نقطة تحوّل في اهتمامك بتغطية الأزمة الإنسانية في الشيشان؟
- في سبتمبر 2001 سافرت إلى الشيشان لتقصي معاملة المسجونين المعتقلين وسبل تعذيبهم، ووقفت على حقائق مفزعة. فاكتشف الجنود الروس أمري واعتقلوني وهددوني بالاغتصاب والقتل إن عدت ثانية. رجعت إلى موسكو لأجد خطابات التهديد في انتظاري. كان علي أن أتخلى عن الوعد الذي قطعته لطفل شيشاني يحتاج لمال لعلاج حروق جسده التي اشتعلت فيه من قنبلة قذفها جنودنا. وقفت في مفترق الطرق، وعزمت في النهاية على أن أعود إلى ذلك الطفل.
وهناك التقيت بجنرال روسي كان يهم بالعودة إلى موسكو ليفضح الانتهاكات التي تقوم بها القوات هناك، أعرب لي عن اعتراضه. دونت كل ما قاله لي، وتحفزت للعودة بسبق صحفي، ولكنها ساعات ورأيت المروحية التي كانت تقله وعشرة من زملائه تحترق.
ما أحزنني أنه في طريقي إلى موسكو كانت الحادثة تروج في الإعلام على أنها من تدبير المقاتلين الشيشان. بينما كنت على يقين أن الجيش الروسي قتل "الشاهد".
عدت إلى رئيس التحرير في "نوفا غازيتا"، أبلغني بأن وزارة الدفاع حذرته من نشر قصة لقائي بالجنرال! وهمس لي: "عليك أن تغادري البلاد". سافرت إلى النمسا وهناك وضعت أولى صفحات ثاني كتاب لي "ركن صغير في جهنم.. تقارير من الشيشان".
غلاف كتاب "الحرب القذرة"
*في كتابيك "الحرب القذرة"، و"ركن صغير في جهنم" قرأنا العديد من صور التعذيب التي يقوم بها الجنود الروس ضد المواطنين الشيشان.. هل تلخصين لنا أهم هذه الصور؟
- قابلت المئات في الشيشان ممن خرجوا للتو من السجن ومن عائلات ضحايا التعذيب التي تفاوتت بين الصعق الكهربائي (وفي الأماكن الحساسة من الجسد)، والتعرية الجسدية والتعريض للبرد ساعات طويلة، وإطفاء السجائر في أجساد الشباب المعتقلين، واتخاذ ذلك مادة للتسلية واللهو، وربط عنق المعتقل بحبل وجره في الأرض الموحلة، وسحل المعتقلين في أفنية السجون وخارجها، وانتزاع أظافر المعتقلين، والضرب بأدوات ثقيلة على كُلى المعتقلين، واتخاذ النساء والرجال دروعا لحماية مواقع عسكرية روسية بإلقائهم في حفر لأسابيع متتالية دون أن يخرجوا منها.
لا أنسى "روزيتا" تلك المرأة العجوز التي بقيت في حفرة أمام معسكر روسي 12 يوما، كان عليها أن تتبول وتتبرز في هذه الحفرة خلال تلك المدة الطويلة حتى قاربت على الوفاة فأرسل الجنود لذويها عارضين إطلاق سراحها مقابل دفع فدية، وعندما جاءهم المال أطلقوا سراحها شعثاء قذرة على حافة الموت.
وفي حالات أخرى يتم إغراق المعتقل في حفر مليئة بالماء البارد في الشتاء، ثم ينتزع منها ويلقى فوق أخشاب تحترق. لقد روى لي الفتى عيسى كيف خرج وزملاؤه من هذه الحفر عراة، وقبل أن يفيقوا كان الضابط الروسي قد شارك جنوده في اغتصابهم! ووسط ذهولهم وعد الضابط بالبحث عن نسائهم ليذيقهن ما ذاقوا! ولم يطلق سراح عيسى إلا بعد أن دُفعت له فدية جمعها أبوه ممن تبقى من أهل قريته.
*تتحدثين دوما عن أن الشيشان شعب غير مرغوب فيهNation Non Grata ، لماذا لا يفر الشيشانيون؟!
- لا يرغب فيهم أحد! أين سيذهبون؟ إلى داخل روسيا؟ حينما يأتون إلى موسكو للعمل في أي تجارة تدس لهم الشرطة المخدرات وتلفق لهم التهم. هل يسافرون خارج روسيا؟ أين الأموال التي يدبرون بها ذلك، إن 300 دولار هي قيمة جواز السفر لا يقدرون عليها؟ هل ستسمح لهم الشرطة الروسية بالسفر؟
الإجابة معروفة.. إن بقاءهم داخل الشيشان فرصة لتنفيذ الخطة التقليدية بتطهير أرض الشيشان منهم. أتعرف بماذا ينادي الجنودُ الروس الشيشانَ في أرضهم.. "أيها القرود".
*لقد أدخلت مصطلح "زاتشيستكا" إلى الصحافة الغربية وهي كلمة روسية تعني "التمشيط والكنس".. هل شاهدت ذلك وما حقيقته؟
- يقوم الجنود الروس بحصار القرية لعدة أيام لا يسمحون لأن يخرج منها ولا يدخل إليها أحد، ثم يطور الحصار فيمتد إلى الشوارع، وهنا لا يسمح بالانتقال من بيت إلى بيت مجاور، حالة يمكن أن تسميها حظر تجوال ليل نهار ومن يُرى خارج هذا الحظر تطلق النيران على رأسه. ثم يتقدم الجنود إلى بيت وراء بيت يفحصون الهويات بحثا عن المطلوبين، لن أنسى ذلك الرجل العجوز من قرية "ستاريا أتاجي" حينما شرع يؤكد للجنود الروس أن أوراقه سليمة فأردوه قتيلاً. ثم تكتمل العملية بطلب الجنود الروس فدية من المواطنين حتى يتركوهم يعيشون فلكي يتركوا بيتك دون أن يهدموه عليك أن تدفع لهم 1000 روبل ولتفتدي امرأتك من الاغتصاب عليك أن تدفع 500 روبل!
أذكر أنه في إحدى المرات اقتحم الجنود بيتا بعد أن هدموا سقفه على امرأة في المخاض، وعندما ناشدهم زوجها وأمها أرجوكم اتركونا حتى تلد المرأة، أجابوهم جئنا لنقتل الأحياء لا لنشهد ميلاد "وهابيين" جدد، مات الطفل في بطن أمه.
* وما الذي يدفع بالجنود الروس إلى ذلك وهم أبناء شعب اشتهر بالثقافة والحضارة؟
- يرسل القادة جنودهم إلى الشيشان دون إمدادات كافية، ودون رواتب تكفيهم، ويعيشون لأسابيع دون أن يغتسلوا، وتظل أحذيتهم مزروعة في الوحل لأسابيع متتالية وسط إطلاق النار وانتقال من عملية لأخرى. هنا يتحول أي شاب روسي إلى شبه حيوان تتفاقم وحشيته، وبعد أن يمضي 3 أشهر بعيدا عن فتاته التي كان يعاشرها في روسيا يبحث عن امرأة ليغتصبها.
*ألا يوجد من يحاسب؟
- العسكريون يجدون في الحرب ضالتهم لاستعادة مكانتهم التي فقدوها في الحرب الأولى عامي 1994-1996. أعرف بنفسي جنرالا روسيا قدم للمحاكمة جنودا روسا قتلوا وأحرقوا 6 من الرجال الشيشانيين، وقد عرفت من مصادري أن هذا الجنرال لقي مضايقات متعددة في عمله بسبب ما قام به من فضح أمر هؤلاء الجنود حتى يصبح عبرة لغيره.
العرف السائد في المنظمة العسكرية في الشيشان هي أن يتركوا الجنود يفعلون كل شيء مع ضمان ألا يحاسبهم أحد، وهو نوع رخيص من التعويض عن عدم توفير المتطلبات الحياتية توفيرا للمال في دولة يرتع فيها الفساد. يحزنني أن أصبح الجيش الروسي عدوا لشعبه بدلا من حام له. يمكنك أن تفهم ذلك من خلال الحوار الذي نقلته عن محضر استجواب جندي روسي:
ـ لماذا قتلته؟
ـ لا أعرف...
ـ ولماذا قطعت أذنيه؟
ـ لا أعرف...
ـ ولماذا سحلته؟
ـ لكن هذا شيشاني.
ـ لقد فهمت.
* بعد مشاركتك في التفاوض مع محتجزي رهائن مسرح موسكو في أكتوبر 2002 كتبت عدة مقالات.. ما أهم ما علق القراء عليه؟
- لقد تأثر الكثيرون بما قاله لي أبو بكر نائب قائد المحتجزين حينما سألته لماذا تداهمون المسرح؟ فأجابني: لتعلموا كيف نشعر خلال عمليات مداهمة بيوتنا وعندما يأتي جنودكم ليأخذونا رهائن ويضربونا ويذلونا ويقتلونا. نريد أن نذيقكم ما ذقناه وتدركوا كم آذيتمونا.
أتعرف من أبو بكر هذا؟ هو واحد من آلاف الأبناء الذين خرجوا من طفولتهم إلى الصبا في السنوات العشر الأخيرة على عويل النساء، ومنهم من عاش شبابه يتما وألما. هذا هو الجيل الذي ورث من الحرب الكثير، وأهم ما ورث الرغبة في الانتقام والكراهية.
*كيف ترين حل أزمة الشيشان؟
- أن يأمر الرئيس بوتين بانسحاب الجيش الروسي، ثم يسمح بتدخل قوات دولية لحماية أمن الشعب الشيشاني ومراقبة تحركات المقاتلين.
وهنا أتوجه بالرجاء للدول الغربية ألا تتعامل في مجال حقوق الإنسان بمعايير مزدوجة، من حق الشعب الشيشاني أن يعيش، وإن تم ذلك يمكن إجراء انتخابات في الشيشان تقرر ما الذي يريده الشعب، هذا رغم أن العناصر المثقفة والمتعلمة ممن يمكنهم قيادة بلدهم من الأطباء والمهندسين والمحامين وأساتذة الجامعات قد تم تصفيتهم، وقتل أغلبهم خلال الأعوام السابقة.