صقر الجنوب
20/12/2005, 07:13 PM
بديع الزمان الهمذاني في رسائله ومقاماته
لم يكن عصر بديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات المعروفة,
والمجد الأدبي الكبير عصرا فقيرا من الناحية الأدبية والعلمية , بل كان كما سمي / زبدة الحقب/ إذ ظهر فيه فطاحلة الأدب والعلم والشعر امثال المتنبي
والخوارزمي والتوحيدي, وابن دريد , والشريف الرضي ر والثعالبي , والمعري , وابن سينا , والقالي , والجرجاني, والطبري , وابن النديم... الخ..
وكان الأدب في هذا العصر صورة صادقة لمجريات الأحداث آنذاك , وما المقامات إلا وليدة مظاهر اجتماعية كانت سائدة ومعششة في ذاك العصر.
فمن هو بديع الزمان الهمذاني وماهي اثاره الأدبية?
اسمه احمد بن الحسين. وكنيته ابو الفضل, ولقبه بديع الزمان.. وقد ولد في همذان , واستقر في خراسان , ومات في مدينة هراة سنة 398هر
اما لقب بديع الزمان فلا ندري إن كان من صنعه أم من صنع الثعالبي صاحب يتيمة الدهر الذي قال:
ر هو بديع الزمان , ومعجزة همذانا
معلمه الأول أبو الحسن احمد بن فارس وقد غادر / باده / في الثانية عشرة من عمره .
ولما بلغ الري اتصل بالصاحب ابن عباد ولزم دار كتبه فتأثر بتلك المدرسة وبأساليبها .. ولأنه صاحب ذاكرة قوية وحافظة نادرة فقد استفاد كثيرا مما قرأ.. وقد بالغ معاصروه في وصف مقدرته على الحفظ مبالغة كبيرة لايمكن أن يقبلها العقل.
بعد ذلك غادر حضرة الصاحب, وقصد جرجان وهناك خالط علماءها من الاسماعيلية فعاش بينهم, واقتبس الكثير من علومهم, وفلسفتهم الباطنية ومن عندهم انصرف الى نيسابور فكانت له معركة ادبية فاصلة مع ابي بكر الخوارزمي.. وفي نيسابور ايضا كتب مقاماته المشهورة.
وبعد أن تغلب بديع الزمان على ابي بكر الخوارزمي طابت له الأسفار خصوصا بعد أن مات الأخير فراح ينتقل من مكان الى آخر , فجاب خراسان , وباكستان وغزنة, وكرمان متكسبا بأدبه من شعر ونثر.
وقد فاز بهدايا وأعطيات الملوك والوزراء والأمراء .. وكانت / هراة/ مركز سعده وغناه المادي فألقى فيها عصا ترحاله بعد أن صاهر أحد أشرافها,
واقتنى الضياع ومن فيها حتى أنه كتب إلى والده كي يأتي إليه ويعيش معه في / هراة/ إلا أن الأب رفض الفكرة .
وحكي أن بديع الزمان مات مسموما, وقيل إنه مات بداء السكتة ودفن حيا, وموته بالسم أقرب الى الصحة لأن الكثير من جوانب شخصيته وأخلاقه قد تقوده الى هذا المصير.
وقد ذكر في أكثر من مرة أنه قضى في هراة اطيب ايام حياته , وهراة كما يبدو من وصف ياقوت الحموي لها في معجم البلدان مدينة جميلة ورائعة.
اما خلقه وشكله فقد وصفهما أبو سعيد عبد الرحمن بن دوست جامع رسائل الهمذاني قائلا :ب وكان ابو الفضل وضيّ الطلعة وضيّ العشرة, فنان المشاهدة, سحار المفاتحة , غاية في الظرف , آية في اللطف معشوق الشيمة مرزوقا فضل القيمة اأما صاحب اليتيمة فقد قال:
وكان مع هذا كله مقبول الصورة , خفيف الروح حسن العشرة , ناصع الظرف عظيم الخلق , شريف النفس , كريم العهد , خالص الود , حلو الصداقة, مر العداوة
واما بديع الزمان فقد أعطى صورة عن شكله وطباعه في إحدى رسائله التي اعتذر فيها الى رئيس استقدمه إليه قائلا :/ همذاني المولد , جبلي المنبت . ناري المزاج, ضعيف البنية, يابس العظام, حاد الطبع , حديث السن.
ويبدو أن وصفه لنفسه كان دقيقا لأن هذا مالمسناه من خلال قراءتنا للقصص التي حصلت معه والتي تعطي صورة واضحة عن مزاجه الناري وعن طبعه الحاد, وسلاطة لسانه, وبذيء كلامه, واعتداده بنفسه الذي وصل الى حد الغرور واوصله في أحيان كثيرة الى حد الشراسة.
أما أنانيته المفرطة فقد كانت واضحة في جميع تصرفاته وهي القطب الذي دارت عليه رحى حياته.. فلايكاد يسمع بأن أحدا قدم عليه كاتبا حتى ينبري لمقاضاته وكأن له عنده دينا بل كثيراا ماكان يستخدم السخرية والهزء والسيرة وكشف العورات ليظهر للجميع انه قادر على القول في كل غرض .
كما عرف بديع الزمان الهمذاني بالبخل وهي صفة مكروهة بالانسان إذ لم يجُد على ابيه رغم غناه وثرائه إلا بمائة دينار , واشترط عليه ان يدفعها له حينما ينتقل للعيش في هراة إلا أن الأب كما ذكرنا سابقا رفض الفكرة من أساسها لأنه لايمكن أن يعيش بعيدا عن وطنه وهذه الطريقة التي استخدمها الابن لاستقدام ابيه الى هراة ماهي الا طريقة تعجيزية كي لايعطيه شيئا من ثروته.
وعندما يئس الأب من ان ينال شيئا من ابنه استكتب امه رسالة في هذا الموضع إلا أن قلب بديع الزمان من صخر لايلين فما رد عليها بل قال فيها هذه الأبيات:
وعجوز كأنها قوس لام فلقوها من نبعة شرفلق
كاتبتني شوقا إليَّ وقالت : أخذ الله يا بني , بحقي
قلت لا أستطيع ترك بلاد قد وفى الله في ثراها برزقي
أما آثاره فهي محصورة في رسائله ومقاماته وديوانه, وكلها لو جمعت في كتاب لما بلغ حجم ديوان البحتري.
وبديع الزمان في رسائلة هائج وثائر يكسر الجرة خلف المولى ويسب أباه وأمه إذا اقتضى الأمر, ويسجد لمن عنده المال وقد كثر في كلامه الزخرف والتزويق والتنميق وقد أوصله اعتداده بهذا الزخرف أن يتطاول الى مقام الجاحظ ويقول عنه:
/ هل للجاحظ غير عريان الكلام/
أما مقاماته فهي من صنع بديع الزمان نفسه دون أن يتأثر بأحد , وهو الذي ألبسها ثوبها الموشى... أما موادها فهي مأخوذة ومستوحاة من المجتمع الذي عاشه وعايشه الهمذاني أو من القصص التي وصلت الى مسامعه.
ولو عاينا شعره لوجدناه أقل شأنا بكثير من رسائله ومقاماته , وقد غلب عليه السجع والزخرف.
بقي أن نقول رغم كل المآخذ التي أخذت على صاحب المقامات بديع الزمان الهمذاني والتي لها مساس مباشر بأخلاقه وطباعه والتي لا تليق بأديب كبير مثله استطاع أن يحقق المجد لنفسه وأن يعتلي مكانة أدبية كبيرة, وأن يكون مادة دسمة لجميع الدارسين وعشاق هذا النوع من النثر الفني .
المصدر:
نوابغ الفكر العربي ر بديع الزمان الهمذاني
د. ممدوح حقي
لم يكن عصر بديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات المعروفة,
والمجد الأدبي الكبير عصرا فقيرا من الناحية الأدبية والعلمية , بل كان كما سمي / زبدة الحقب/ إذ ظهر فيه فطاحلة الأدب والعلم والشعر امثال المتنبي
والخوارزمي والتوحيدي, وابن دريد , والشريف الرضي ر والثعالبي , والمعري , وابن سينا , والقالي , والجرجاني, والطبري , وابن النديم... الخ..
وكان الأدب في هذا العصر صورة صادقة لمجريات الأحداث آنذاك , وما المقامات إلا وليدة مظاهر اجتماعية كانت سائدة ومعششة في ذاك العصر.
فمن هو بديع الزمان الهمذاني وماهي اثاره الأدبية?
اسمه احمد بن الحسين. وكنيته ابو الفضل, ولقبه بديع الزمان.. وقد ولد في همذان , واستقر في خراسان , ومات في مدينة هراة سنة 398هر
اما لقب بديع الزمان فلا ندري إن كان من صنعه أم من صنع الثعالبي صاحب يتيمة الدهر الذي قال:
ر هو بديع الزمان , ومعجزة همذانا
معلمه الأول أبو الحسن احمد بن فارس وقد غادر / باده / في الثانية عشرة من عمره .
ولما بلغ الري اتصل بالصاحب ابن عباد ولزم دار كتبه فتأثر بتلك المدرسة وبأساليبها .. ولأنه صاحب ذاكرة قوية وحافظة نادرة فقد استفاد كثيرا مما قرأ.. وقد بالغ معاصروه في وصف مقدرته على الحفظ مبالغة كبيرة لايمكن أن يقبلها العقل.
بعد ذلك غادر حضرة الصاحب, وقصد جرجان وهناك خالط علماءها من الاسماعيلية فعاش بينهم, واقتبس الكثير من علومهم, وفلسفتهم الباطنية ومن عندهم انصرف الى نيسابور فكانت له معركة ادبية فاصلة مع ابي بكر الخوارزمي.. وفي نيسابور ايضا كتب مقاماته المشهورة.
وبعد أن تغلب بديع الزمان على ابي بكر الخوارزمي طابت له الأسفار خصوصا بعد أن مات الأخير فراح ينتقل من مكان الى آخر , فجاب خراسان , وباكستان وغزنة, وكرمان متكسبا بأدبه من شعر ونثر.
وقد فاز بهدايا وأعطيات الملوك والوزراء والأمراء .. وكانت / هراة/ مركز سعده وغناه المادي فألقى فيها عصا ترحاله بعد أن صاهر أحد أشرافها,
واقتنى الضياع ومن فيها حتى أنه كتب إلى والده كي يأتي إليه ويعيش معه في / هراة/ إلا أن الأب رفض الفكرة .
وحكي أن بديع الزمان مات مسموما, وقيل إنه مات بداء السكتة ودفن حيا, وموته بالسم أقرب الى الصحة لأن الكثير من جوانب شخصيته وأخلاقه قد تقوده الى هذا المصير.
وقد ذكر في أكثر من مرة أنه قضى في هراة اطيب ايام حياته , وهراة كما يبدو من وصف ياقوت الحموي لها في معجم البلدان مدينة جميلة ورائعة.
اما خلقه وشكله فقد وصفهما أبو سعيد عبد الرحمن بن دوست جامع رسائل الهمذاني قائلا :ب وكان ابو الفضل وضيّ الطلعة وضيّ العشرة, فنان المشاهدة, سحار المفاتحة , غاية في الظرف , آية في اللطف معشوق الشيمة مرزوقا فضل القيمة اأما صاحب اليتيمة فقد قال:
وكان مع هذا كله مقبول الصورة , خفيف الروح حسن العشرة , ناصع الظرف عظيم الخلق , شريف النفس , كريم العهد , خالص الود , حلو الصداقة, مر العداوة
واما بديع الزمان فقد أعطى صورة عن شكله وطباعه في إحدى رسائله التي اعتذر فيها الى رئيس استقدمه إليه قائلا :/ همذاني المولد , جبلي المنبت . ناري المزاج, ضعيف البنية, يابس العظام, حاد الطبع , حديث السن.
ويبدو أن وصفه لنفسه كان دقيقا لأن هذا مالمسناه من خلال قراءتنا للقصص التي حصلت معه والتي تعطي صورة واضحة عن مزاجه الناري وعن طبعه الحاد, وسلاطة لسانه, وبذيء كلامه, واعتداده بنفسه الذي وصل الى حد الغرور واوصله في أحيان كثيرة الى حد الشراسة.
أما أنانيته المفرطة فقد كانت واضحة في جميع تصرفاته وهي القطب الذي دارت عليه رحى حياته.. فلايكاد يسمع بأن أحدا قدم عليه كاتبا حتى ينبري لمقاضاته وكأن له عنده دينا بل كثيراا ماكان يستخدم السخرية والهزء والسيرة وكشف العورات ليظهر للجميع انه قادر على القول في كل غرض .
كما عرف بديع الزمان الهمذاني بالبخل وهي صفة مكروهة بالانسان إذ لم يجُد على ابيه رغم غناه وثرائه إلا بمائة دينار , واشترط عليه ان يدفعها له حينما ينتقل للعيش في هراة إلا أن الأب كما ذكرنا سابقا رفض الفكرة من أساسها لأنه لايمكن أن يعيش بعيدا عن وطنه وهذه الطريقة التي استخدمها الابن لاستقدام ابيه الى هراة ماهي الا طريقة تعجيزية كي لايعطيه شيئا من ثروته.
وعندما يئس الأب من ان ينال شيئا من ابنه استكتب امه رسالة في هذا الموضع إلا أن قلب بديع الزمان من صخر لايلين فما رد عليها بل قال فيها هذه الأبيات:
وعجوز كأنها قوس لام فلقوها من نبعة شرفلق
كاتبتني شوقا إليَّ وقالت : أخذ الله يا بني , بحقي
قلت لا أستطيع ترك بلاد قد وفى الله في ثراها برزقي
أما آثاره فهي محصورة في رسائله ومقاماته وديوانه, وكلها لو جمعت في كتاب لما بلغ حجم ديوان البحتري.
وبديع الزمان في رسائلة هائج وثائر يكسر الجرة خلف المولى ويسب أباه وأمه إذا اقتضى الأمر, ويسجد لمن عنده المال وقد كثر في كلامه الزخرف والتزويق والتنميق وقد أوصله اعتداده بهذا الزخرف أن يتطاول الى مقام الجاحظ ويقول عنه:
/ هل للجاحظ غير عريان الكلام/
أما مقاماته فهي من صنع بديع الزمان نفسه دون أن يتأثر بأحد , وهو الذي ألبسها ثوبها الموشى... أما موادها فهي مأخوذة ومستوحاة من المجتمع الذي عاشه وعايشه الهمذاني أو من القصص التي وصلت الى مسامعه.
ولو عاينا شعره لوجدناه أقل شأنا بكثير من رسائله ومقاماته , وقد غلب عليه السجع والزخرف.
بقي أن نقول رغم كل المآخذ التي أخذت على صاحب المقامات بديع الزمان الهمذاني والتي لها مساس مباشر بأخلاقه وطباعه والتي لا تليق بأديب كبير مثله استطاع أن يحقق المجد لنفسه وأن يعتلي مكانة أدبية كبيرة, وأن يكون مادة دسمة لجميع الدارسين وعشاق هذا النوع من النثر الفني .
المصدر:
نوابغ الفكر العربي ر بديع الزمان الهمذاني
د. ممدوح حقي