المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مـــــاركـو


صقر الجنوب
04/03/2006, 08:13 PM
مـــــاركـوhttp://www.iraq4all.dk/sh3er/story/kamal-yaldoo.jpg







http://www.iraq4all.dk/sh3er/story/ligon.jpg

حـتى تصـل لبيـت " مـاركو "، امامك طريقين . امـا عبــر الازقـة الفـرعية وهذا اســـوأ من لــعبة الاطـفـال ( الافعـى والسـلم ) او عن طـريق شــارع الرشـيد فـي بغــداد وهـو الاســهل . فـبالقـرب من فـرن " بيكاديللي " او مخــزن " دنـيا الاطفـال " للالعاب ، هنــاك زقـاق ( دربونـة كما يود العراقيون تســميتها ) يوصـلك لصــــائــب " ابو الثلـج " ويمكنك ان تسـمي هذا الزقاق بزقاق صائب ابو الثلج وبالتـالي لايعود هذا الزقاق مبهمـا . حيث ان امانة العاصـمة لم تقـم بوضع الاسـماء لكل هذه الازقة او الفروع الجانبية والتي غالبا ما يطـلق الناس عليهــا اســماء ترتبط كثيرا بمهنة او حادثة او شـخص معين ، وفي مثلنا هذا يمكن القول انـه زقاق " صائب ابو الثلج " او زقاق " كـرزات الموصل " او زقاق " ناجــي ابو التكـة " او زقـاق العـم " ابو يعكــــوب بيّاع الطوابع " وبالنهاية كل المسميات ســتوصلك لبيـتها .

" مــاركـو " ، الفتاة النظرة الجميلة ، كانت في اواخـر عشرينياتها ، كتلة من اللهـب محشـورة في بيت صغـير ذو باحـة يتوسـطها ( الحـب ) الذي كانت تسـتخدمه لتصـفية الماء وتبريده ايضا . وهــــي تتقاسـم البيت مع والدتـــــــهـا " رجــّو " حيث تتعايش انواع القطط الاليفة والهاربـة وحـتى الطيور كانت تتزاحم في بـاحة البيت لوجبة غـذاء مجانيـة .كـان زوارهـم قليلون ، وعلى الاغلب من اهـل المحـلة ولم يكن هناك ما يميـّز هذه العلاقات .

كـانت " رجــّو " مســنة ، ولم تكن لتعمل خارج البيت الا ما كان عليهـا ربما من واجبات الطبخ ، امـا " ماركو " فقد كانت تعمـل في غســل ملابس بعض الاسـر المرفهة واحيانا تقوم بتنظيف بيوتهـم .العمل بما يكـفي الحد الادنـى حتى مجـئ العريس !

قوام ممشــوق على غير العادة ، وشــعر اســود كانت تلفـه بعنايـة خلف رأسـها ويصـل حتـى اســفل ظهرهـا عندما تطلق العنان لـه .وفي اكثـر من مرة تلصـصـت على غرفـتها بعد انتهائها من اخـذ الحمام . مـا اروع هــذا الجســد ! والنهود النابضـة والغنج امام المرآة او تصـفيف الشــعر ، وقلما كســت جسدها الرقيق برائحة جميلة جـدا ربمـا تحســبا لمجـئ ( خضـر الياس ) * لغرفتها تلك الليلة او لمجهـول طـال انتظاره او حتـى لحلم جميـل يمزق الســكون والرتابة في بيتهـا . لـم يكن احـدا فـي منطقتنا يخفـي اعجابـه بها او بقوامهـا ، واحيانا تكون التعليقات جميلة واحيانا قبيحـة ( تصجـيمـات ) . لكـن لم يجـرؤ احـد على المسـاس بهـا خاصـة بوجود ( ولـد الطـرف ) ، فالكـل معروفون بطيبتهـم وبالتالـي فقد كانت علـى علاقـة بزوجاتهم او عائلاتهـم . على انهـا لم تكن لتزور الكنيسـة كثيرا ، وبالتالي فأن فرصـة الرجال لمشاهدتها كانت محدودة ، وحتـى امها " رجـّو " لا اذكـر بأني شـاهدتها في الكنيسـة ، رغـم ان كنيســة " ام الاحـزان " وكنائس اخـرى كانت قريبة جـدا منهـا في ( عكـد النصـارى ) ولا ادري ان كـان ذلك بسـبب المرض او الكســل . امـا علاقاتهـم الخارجية فكانت محدودة حتـى اني كنت اسـألها ان كــان لهـا اقرباء ام لا ؟

معظـم المنازل في تلك الازقة ( الدرابين) كانت لعوائـل مسـلمة ، خاصـة بعد انتقال العديد من العوائل المسـيحية من هناك الى مناطق " المربعة " و "السـنك " و " البتاويين " او حتى " الكرادة " ، بسـبب زحـف ورش صناعة الاحذية ( القندرجية ) والخياطين الى هذه المناطـق وما تجلبـه من مشـاكل واحتكاكات الى سـكان هذه الاحياء ، لهذا فـقـد كانت فـرص زواج " مـاركو " تتقـلـص يومـا بعد يـوم .فالناس محدودين والعـلاقات قليلة والعـمــر يتـقادم ..و " رجـّو " فــــي البيت ، ولا ادري ان كان لها شـقيق ام شــقيقة .

لــم تيـأس مـما كـان يجري حـولها ، وكانت في قـرارة نفســها تقول ، ان هنـاك شــيئا مـا قادم .ولا يمكن لهذه الحيـاة ان تمض بهـذه الـرتابة . فـمعظــم صـديقاتها وبنات جيلهـا تزوجـن وانتقلن من هنـاك وانجـبن ، والحيــاة تستمــر .

" مــاركـو " كانت واحدة من بنات المنطقة ( الطـرف ) ولم تكن الفـروقـات مـنظورة حتى وان اختلفـت الاديان وبعض العادات .فالكـل يحب الواحد الآخـر ، والكل يشــارك الآخـر اتراحـه وافراحـه ، وهي لهذا كانت حاضـرة في المناسـبات ايا كانت ، ومنهـا ما يتصـل ب ( النذور) و ( الزيارات ) . وكان ان صـادف وقتهــا الاحتفال بـيوم (زكـريا) ** حيث قامت سيدات وبنات المحلة ومعهم " ماركو " بالتجمع في احـد المنازل الصـغيرة جـدا ، بالقرب من منزل الصباغ " ابو عادل " ومحل المكـوي حسـن " الآوتـجـي " وجامع " بنات الحســن " فـي " العمـّار " . ليلـة جميلة توقـد فـيها الشــموع وتنـثـر الحلوى والفواكـه . فالكـل عنده " نــذور " ، والكـل يريد من " زكريـا " ان ينـّولـه مراده . وحتـــى " ماركو " كانت تريد من " زكريا " . ولما لا ؟ فقد كانت حريصـة على تأدية النذور ورفـع الصلوات وتـقـديـم القرابين ، وكل ما كانـت تطلبه هــو ان يكـون لهـا مثل البنات الاخريـات !

فـي تلك الليلة الخريفية الماطـرة ، وبينما الفتيات والنسـوة والاطفال يتبادلون التهانـي ، وتتوســطهم صـينية كبيرة مزينة بالشــموع وانواع الحلوى والفواكـه ، ارتطمت احدى الفتيات بالصينية واشــعلت الشــموع فســتانها ، فأنتاب الحضور حـالة رهيبة من الفزع والخوف ، وســادت الفوضـى . تدافعت النسـاء الواحدة مع الاخرى ، والواحدة فوق الاخرى ، وســرعان مـا امتـلأ البيـت الصـغير (جدا) بالـدخان والصراخ والعويل ، اذ انهـم كانوا في الطابـق العلوي للبـيت .

فـي تلك الليلة التشــرينية الماطـرة ، انتهـى الاحتفال ب " زكـريا " حوالي السـاعة العاشــرة مسـاء وبـحضـور وزير الداخلية وفـرق الاطفـاء والشــرطة والعديد من المسـؤولين . فقد كانت الحصيلة (15) ضـحية ســقـطـن وهـّن يحتفلن ب " زكــريا " اختناقـا وحـرقـا . وبين ســاعـات المسـاء والـصباح التالي افرغـوا هـذا البيت مـن المحتفلات ، وكانت بينهـّن " مــاركـو " ، الفتاة الحلوة والرشــيقة .وقـد تعرفـوا عليها من خـلال الكمادات التـي صـارت تـلفـهـا حول ســيقانها لتخفيف الم " الروماتزم " ومن الصليب ايضـا ، اذا انها كانــت الوحيدة بين المحتفلات . و كـان رجال الاطفـاء قد عثـروا عليهـا في غرفـة " المرافق الصحية " التي كانت بالكـاد تتســع لشـخـص واحد ، غرفة صـغيرة جدا ، مخـنوقـة ثم متـفـحمـة . " مـاركو " لـم تكن تبحـث عن الموت ، بـل على العكـس من ذلـك ، كانت تحـب الحياة وتريد المزيد منهــا ، فهـي التي فاتهـا ان تتعلـم مهنة معينة او حـرفة مــا ، لقد اســتبدلتهم برعايـة امهـا المســنة " رجــّو " والقطط والطيور . " مــاركو " كـانت تحلــم بزوج تحـبه ويحبهـا ، و ب ( دســتة ) من الاطفـال يملأون بيتهـا هـرجا ومـرجـا ، وكانت تحلــم ان تتبّرج وتتعطــر لزوجهــا ، بعــد يوم طويل في عـمـله .



اعــاد رجال الاطفــاء " مــاركو " لامهــا ،

"كــومة " من العظـام المحترقة والملفوفة بالكمادات ، وصليبهـا التي كانت تعلقه في صـدرهـا كل يوم .

عـادت لبيتهـا هذه المرة ولكـن لتفارقــه ابــدا .

مـاركـو : اســم التحبيب لــمـاركـريت ، امـا رجـّو : فـهـو اســم التحبيب لــريجينـــة .



* خضـر الياس : (العبـد الصـالح ) وفي العـرف عند المسيحيين العراقيين هـو شـخصية ذو قـدسية وموسـمه هـو في اواسـط كانون الثاني حـيـث يأتي هـذا الشاب الوسـيم والجبـار على فرسـه الجميل مسـاء والناس نيام ، بعـد ان يكونوا قد تركوا له "حلاوة خضر الياس " اذ يقـوم بتناول قـطعـة منهـا ثم تمشيط شــعـر فـرســه واسـقائـه المـاء واطعامه من البقدونس الـمـوضوعـة كلها امام المرآة . وليلتها تنذر الناس نذورها وتتأمل بـأن يحقـقـها لـــهـم .

* زكريــا : احتفال شــعبي بهذا النبي ، حيث توقد الشــموع في صواني مليئة بالحلوى والفواكه ، وتطلب منه الامــاني بعد ان يكون المحتفـلون قد ادوا النذور ، وفـي الموروث الدينـي كان الله قـد مـنّ علـى زكريـا بمولـود وزوجتـه قـد جاوزت التســعين مـما كـان مســتحيلا ان يحدث مع البشر العاديون .



تشــرين اول 2003

كمـال ميخـا يلـدو

kamalyaldo@yahoo.com

عصام شبير
05/03/2006, 07:45 PM
شكرا لك أخي صقر على القصص الرائعة والجميلة