صقر الجنوب
04/03/2006, 08:14 PM
صنخاريب في الزنزانةhttp://www.iraq4all.dk/sh3er/story/d-falhee.jpg
بقلم : د. محمد فلحي*
http://www.iraq4all.dk/sh3er/story/ligon.jpg
(( أصبح الواقع السياسي، في هذه الأيام ، أغرب من الخيال..لذلك تبدو هذه القصة حقيقية، ولكنها خيالية تماما، والكاتب غير مسؤول عن أي تشابه مع الأسماء والأحداث الجارية حاليا!!))
في ليلة شتائية باردة ، كانت الريح تعزف لحنا حزينا ، عبر النوافذ الضيقة ، في حين تزدحم تلك القاعة المظلمة بمجموعة من الرجال الذين تحولوا بين ليلة وضحاها من طغاة وجلادين إلى سجناء أذلاء يلوذون كالجرذان في زوايا المعتقل الذي سبق أن شيدوه لدفن ضحاياهم من الأرواح البريئة .
كان الحراس يجلبون ، بين يوم وآخر ضيفا جديدا ، يفتحون باب الزنزانة ويرمونه بين زملائه الذين وضعت أسماؤهم في قائمة المطلوبين ، أحياء أو أمواتا، بعد أن فروا مع صنخاريب الكبير في اليوم الأخير من المعركة الأخيرة .
كان أحدهم يصرخ ويشتم سيده الذي أوصلهم إلى هذا الوضع الحقير، ثم تركهم و فر إلى مخبأ مجهول وتوارى عن الأنظار، وراح يكتفي بإرسال أشرطة صوتية يحرض فيها بقايا فلوله المهزومة على قتل الناس بدون تمييز من أجل أن يظل شبحه المخيف مرعبا ، ويبشر أتباعه بالعودة إلى كرسي الحكم ، مرة أخرى .
كان هؤلاء السجناء يشتركون في صفة واحدة وهي الطاعة العمياء لسيدهم الذي كان يقودهم من معركة إلى أخرى ، بلا مبرر معقول ، ومن يحاول الاعتراض أو يتجرا على السؤال عن الأسباب والدوافع يكون مصيره الموت باعتباره خائنا أو جبانا أو متآمرا.
هؤلاء السجناء ليس أوفر حظا من أولئك الأموات ، والفرق الوحيد بينهم أن هؤلاء يتمنون الموت ألف مرة يوميا ،بسبب الشعور بالعار والخديعة التي اكتشفوها متأخرين ، بعد أن تركهم سيدهم وهرب لإنقاذ نفسه، وظل هؤلاء هائمين على وجوههم ، مذعورين.
كان صنخاريب يروي لأتباعه وغلمانه قصصا مسلية ، كل يوم ، عن بطولاته وانتصاراته الوهمية ، رغم أن الجميع يعرفون أن المعارك التي ورط بلاده فيها كانت تنتهي دائما بهزيمة ساحقة لجيوشه المليونية ،وفي المعركة ما قبل الأخيرة قال لقادة الجيوش التي دفعها لغزو بلد مجاور: لا تتراجعوا عن جبهة القتال ، حتى لو سمعتم صوتي عبر المذياع يأمركم بالرجوع إلى الوراء، لأن الأعداء سوف يفبركون شريطا يشبه صوتي من أجل الحرب النفسية.
وبعد أيام قليلة ، سمع الجميع قائدهم يدعوهم إلى الهرب أمام جيوش الأعداء.
وفي المعركة الأخيرة قال إن أم المهالك حملت لمدة ثلاثة عشر عاما وأنجبت أم المهازم، وفي هذه المعركة سوف نجعل المحتلين ينتحرون عند أبواب العاصمة،وليس أمام الشعب سوى القتال حتى الموت أما قيادتكم العظيمة المجاهدة فسوف تختبئ تحت الأرض ،حتى ينجلي غبار المعركة ، ومن ثم نظهر لنعلن لكم النصرالنهائي .. وليخسأ الخاسئون.
قال أحد السجناء لزميله: كيف تشتم القائد العظيم وهو الذي جعلك وزيرا بعد أن كنت راعيا حقيرا؟
أجابه الآخر: وما شأنك أنت يا تافه.. إن هذا الذي تسميه قائدا هو ابن عمي ، لكنه ضحك علينا جميعا، وأوصلنا إلى هذا المكان!
قال سجين ثالث : إذا كنت أنت من أقربائه وتتحدث عنه بهذه الطريقة ، فماذا نقول نحن الذين كنا وزراء ومستشارين وكنتم تعاملونا كأننا عبيد مملوكين لكم .
أجابه الشرس بحدة : سوف أمسح بك الأرض وأسحق رأسك إذا لم تكف عن التدخل فيما لا يعنيك يا وزير الخيبة ومستشار العار.
نهض رجل ضئيل محطم الجسم من طرف الزنزانة ، واقترب من المتخاصمين في محاولة لتهدئة النزاع المستمر طوال الليل والنهار.. بلع رئيس الوزراء السابق ريقا جافة وقال: يا جماعة يبدو أن المعركة لم تنتهي ، وأن القائد يقود المقاومة من داخل مخبأه السري ، وسوف نتحرر من السجن على أيدي رفاقنا الأبطال.. فاستعينوا بالصبر ، وإن النصر قريب .
ضجت الزنزانة بالتصفيق و بالضحكات التي اختلطت مع أصوات الغازات المندفعة من الكروش الخاوية ، وامتلأت القاعة بروائح كريهة خانقة، فوضع رئيس الوزراء كفه على طرف أنفه ، وقال بامتعاض شديد : لعنك الله يا مزربان لقد فعلتها ، مرة أخرى ، ألم أنصحك مرارا بعدم تناول البصل مع الفاصولياء في ظل هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة .
تصاعد الضحك وتراجع الرجل ليندس في فراشه ، وهو يردد كلمات غير مفهومة .
تحرك باب الزنزانة ، صمت الجميع ، لأن صرير البوابة الحديدية في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل يشير إلى وصول رفيق جديد.
سحب الحراس رجلا أشعث أغبر ودفعوه إلى الداخل ثم انصرفوا ، وقد ظل الرجل ممدا على الأرض وهو يصدر أنينا متواصلا.. اقترب السجناء من هذا الرجل الغريب ، تفحصوا ملامحه ، وسط الظلام ، لم يتعرفوا عليه ، فتراجعوا إلى أماكنهم ، وبدءوا يتدثرون بالأغطية .
قال أحدهم محتجا : هزلت والله .. أصبحت هذه الزنزانة مأوى للمشردين والمعتوهين القذرين، رغم أنها من المفروض أن تكون مخصصة فقط لمسؤولين سابقين محترمين، كانوا يحكمون دولة عظيمة.
قال سجين آخر : لا تسيء الظن بالرجل .. ربما يكون من رجال المقاومة .
علق السكرتير السابق لرئيس الدولة: وربما يكون سكيرا فقد وعيه على قارعة الطريق ، فوضعوه معنا حتى يحققوا معه عند الصباح .
قال رئيس الوزراء: ألا توجد رحمة في نفوسكم .. بدلا من هذه المناقشة الفارغة ضعوا بطانية على الرجل .
أجاب السكرتير متهكما: إذا كانت لديك بطانية زائدة فامنحها لهذا المتشرد الوضيع.. وسوف تحصل على عشر بطانيات في الآخرة عندما تذهب إلى الجحيم قريبا.
ضحك بعضهم وامتعض آخرون ، في حين ظل سجينان صامتان طوال الوقت ، ولا يعلقان أو يشاركان في هذه الحوارات التي تفتقد ، في أغلب الأحيان ، إلى اللياقة والأدب.وقد كان كل من هذين الرجلين العجوزين يحمل لقب نائب رئيس الجمهورية، لكنهما في الواقع لا يتمتعان بصلاحيات جندي بسيط من حراس رئيس الجمهورية.لذلك كان السكرتير الوقح يحاول إذلالهما، ويوجه إليهما عبارات الازدراء، كلما حاولا المشاركة في الحديث.
انقطع أنين الرجل الغريب البشع ، ثم صحا من غفوته القصيرة وجلس متربعا على البلاط البارد ، وراح ينظر في أنحاء الزنزانة ويمسح عينيه ولحيته العفنة ..أطلق فجأة ضحكة مدوية جعلت بعض المساجين يقفز من الفراش مرعوبا..عندما وقف الرجل على قدميه كان الجميع يحيطون به مذهولين .. صرخ أحدهم:سيدي..سيدي!
اندفع الجميع بسرعة يهتفون بصوت واحد وهم يقفزون ويدورون حوله: سيدي الله ينصرك .. سيدي ويدوم نصرك.
سحب الرجل نفسا عميقا وبدأ يلوح بيده الطويلة ويردد: حياكم الله.. ما قصرتم .. هذا يومكم، لقد انتصرتم، وليخسأ الخاسئون.
ازداد الحماس وتفجرت المشاعر وتصاعدت الهتافات والتكبيرات عندما استمعوا إلى هذه البشارة السعيدة، في حين اندفع الحراس لمراقبة الضجيج من وراء القضبان الحديدية، دون أن يفهموا ما يجري في داخل الزنزانة.
حاول صنخاريب تهدئة مشاعر زبانيته الهائجين الفرحين وطلب منهم الجلوس على الأرض لكي يشرح لهم آخر تطورات الموقف خارج الزنزانة،وكان الجميع في الواقع متلهفين لسماع حديث سيدهم الذي فارقهم لمدة ثمانية أشهر، وهو اليوم يقف بينهم ويبشرهم بالنصر العظيم.. قال:لقد اندحر الباطل وانتصر الحق..وأشرقت شمس الحرية التي وعدتكم بها طوال خمسة وثلاثين عاما.. انتصر الأيمان كله على الكفر كله..صفق الجميع..هتف الكيمياوي : الله أكبر.. ثم اقترب ليقبل يد سيده ، ويسأله :
ــ سيدي .. هل سنخرج من هذه الزنزانة.. ومتى؟
أجابه صنخاريب باستنكار وغضب شديد: عيب والله .. عيب أن تطرح مثل هذا السؤال السخيف قبل أن أشرح لكم تفاصيل الموقف الستراتيجي وتطورات المعركة العظيمة المتواصلة!
سكت الجميع ، أصابتهم كلمات سيدهم بالحيرة والارتباك..أضاف موضحا:لقد أخبرتكم ،مرات عديدة، إن أم المهالك وأخواتها وبناتها سوف لا تنتهي ، فهي غير محددة بزمان أو مكان، وعلى هذا الأساس فأنني أعتبر وجودنا في هذه الزنزانة نصرا لكل الشرفاء والخيرين ،وعلينا منذ هذه اللحظة أن نعيد تشكيل حزبنا من جديد تحت إسم (حزب العودة)، ومثل ما دخلنا السجن سابقا وهربنا منه، نستطيع بإرادتنا الثورية الفولاذية أن نحطم أسوار السجون ونعود إلى ساحات النضال!!
صفق أحدهم وأراد أن يهتف ، لكن الآخرين أجبروه على السكوت ، لكي يفهموا هذه الألغاز التي يرددها سيدهم في هذيان غير مفهوم.. كان صنخاريب يتحدث سابقا ، من فوق كرسي الحكم ، ويجبر الآخرين على الاستماع فقط، أما اليوم فقد وجدوا أنفسهم مع سيدهم في زنزانة واحدة، ولم يعد ثمة خوف من المناقشة أو السؤال.
قال وزير النفط السابق بجرأة غير معهودة: نريد أن نعرف أولا أين اختفيت خلال الأشهر الماضية ، وكيف استطاعوا اعتقالك أخيرا؟
نظر صنخاريب بغضب مكبوت إلى الوزير الذي لم يخاطبه، لأول مرة، بكلمة( سيدي)، لكنه تجاوز هذه الوقاحة وأجاب: تعلمون أنني وضعت خططا مسبقة ومحكمة لما قبل السقوط وبعده ، وعندما غادرت العاصمة بعد أن دخل إليها المحتلون، لجأت إلى شبكة من المخابئ الستراتيجية والحفر التكتيكية،وكنت أقود من هناك عمليات التفجير والتدمير، لأنني سبق أن أعلنت أن من يريد أن يأخذ السلطة مني سوف يتسلم أرضا بلا شعب ، ونحن ماضون في تطبيق هذه الخطة ، والحمد لله!..ولكن في إحدى الأمسيات، سمعت أصوات القوات المعادية تطوق المنطقة التي كنت موجودا فيها، فنزلت إلى الحفرة التكتيكية المجهزة بالمعدات التكنولوجية المتطورة مثل السطل والإبريق والطاسة والقدر والبطانيات وأنابيب التنفس عن بعد ، لكن الأعداء كانوا قد وصلوا إلى المكان بسرعة،فسحبوني من تحت الأرض وأخرجوني ،وقد طلبت منهم التفاوض لكنهم رفضوا، واعتقد أنهم خسروا فرصة عظيمة.
ضحك السكرتير باستهزاء وسال سيده : إذا كنت قد جئت من الحفرة إلى الزنزانة، فهل تستطيع أن تخبرنا كيف سنخرج من هنا .
تصاعدت أصوات الآخرين وهم يؤيدون زميلهم ويعبرون عن زوال فرحتهم المؤقتة وتفجر سخطهم على سيدهم، فحاول هذا الأخير أن يهدئ من روعهم، فقال :السجون للرجال.. والسيوف للأبطال، ونحن لا نذل ولا نخضع أبدا.
صرخ وزير سابق ذو ملامح شيطانية: ما شاء الله..كلام كبير.. ولكنك لم تستخدم السيوف ولا المسدسات ولا البنادق عندما امسك الأعداء برقبتك ، وكتفوك كالأرنب وجلبوك إلى هنا.
أصيب صنخاريب بالصدمة من كلام هذا الرجل الذي كان كل طموحه سابقا أن يقوم بدور القواد لإرضاء نزوات سيده.. وتساءل مع نفسه :كيف تغيرتم يا سفلة بهذه السرعة.. لقد زالت السلطة والمال وبدأت الكلاب المسعورة تنبح !
تلفت يمينا ويسارا، ثم أشار إلى أحد رفاقه ، وطلب منه التقدم نحوه فحضر الرجل ذليلا منكسرا ووقف إلى جانب سيده ، فأمسك صنخاريب بيد الرجل وهزها بعنف وهو يقول :أخبرهم يا همهام، كم كنا نحتاج من الوقت لنصنع القنبلة النووية، لقد رأيتم بأنفسكم القداحات التي صنعناها ، لكن القنبلة تأخرت، ومن ثم تكالب الأعداء علينا، وعندما هددتهم بالكيمياوي المزدوج ارتعدت فرائص الأعداء، لكن الأشقاء خذلونا، فغيرنا خطة التحرير واتجهت قواتنا جنوبا، وكنا نريد مواصلة الزحف من هناك نحو الغرب، وقد غدر الغادرون.. وحصل الذي حصل!
ارتبك همهام الذي كان مجرد صبي في خدمة سيده ، وقد قلده مناصب وزارية خطيرة ..ومع ذلك لم يتردد في استهجان أقوال صنخاريب ، فقال: هذا كلام ليس وقته الآن يا سيدي، نحن نريد فقط أن نخرج من هذا المكان .. فهل تستطيع بعبقريتكم المعروفة أن تخبرنا عن المصير المجهول الذي ينتظرنا؟
دفعه صنخاريب بعنف، فسقط على وجهه، وألحقه الكيمياوي بركلة على مؤخرته، وهو يقول:هؤلاء كلهم خونة ومتخاذلون.. لا تهتم سيدي.. سوف ننتصر ونخرج ، وأتولى بنفسي مسؤولية الطاقة الذرية، وساكون عند عيناك عندما تأمرني ، فأحرق الكرة الأرضية ، ونحسم المعركة نهائيا ضد الأوغاد الدوليين، وقد سبق أن جربتني سيادتكم في حلبجه والأنفال والأهوار.
وضع صنخاريب يده على كتف الكيمياوي ، وقال: عفيه..عفيه..هؤلاء هم رجالي الحقيقيون.
اندهش الجميع من نفاق زميلهم الذي كان يشتم سيده ، قبل لحظات فقط!
التفت صنخاريب إلى جهة اليمين. وأشار إلى الرجلين الصامتين ، وقال :حيا الله الرفاق .. ما دام الجميع موجودين يعني النصاب كامل ومجلس القيادة يستطيع أن يجتمع ، وأن يصدر قرارات جديدة.
قال السكرتير: سيدي ..لكن عندنا واحد غائب.
سأله : من هو ؟
أجاب: الرفيق النائب عزوز الجربوري.
رد صنخاريب: لا..لا ..هذا نسجله غائبا بعذر مشروع..وسوف يصل قريبا إن شاء الله.
قال السكرتير مستهزئا ساخرا: يبدو أن حفرته أعمق من حفرتكم سيدي.
أجاب: أبدا ..لكن هو يقود المقاومة من تحت، وأنا كنت أقودها من فوق.. ولكن ما يقلقني أن الرفيق عزوز ينبغي أن يغير دمه ، كل بضعة أشهر، فكيف يدبر أموره في ظل هذه الظروف؟
رد السكرتير: بالعكس سيدي ..لا توجد مشكلة، الدماء متوفرة في الشوارع ، هذه الأيام ، وذلك بفضل السيارات المتفجرة التي يقودها أشقاؤنا المجاهدون الذين يرغبون في إرسال جثثهم المتفحمة إلى الجنة!!
التفت صنخاريب إلى جهة اليسار فلاحظ وجود أثنين من أخوته غير الأشقاء ، فتبسم لهما ، ودعاهما لحضور الاجتماع ، وقد أوضح قائلا : والله أنا في حيرة من أمركما ..لقد توليتما كل المناصب المهمة في الدولة، رغم أنكما أميان ولا تعرفان حتى كتابة اسميكما، ومع ذلك كنتما تطلبان المزيد حتى تجرأتما على المطالبة بالكرسي الذي أجلس عليه..وها نحن جميعا نجلس على الأرض ، فهل أنتما راضيان ألان؟
لم يجيبا وانصرفا إلى زاوية الزنزانة بعيدا عن المكان المفترض لعقد الاجتماع.. نظر إليهما باشمئزاز وغضب، وطلب من السكرتير ترتيب إجراءات عقد الجلسة ودعوة الأعضاء إلى الحضور، فلم يتورع السكرتير عن الاستمرار في سخريته .. حيث قال:سيدي شروط عقد الاجتماع غير متوفرة حسب تعليمات سيادتكم .. فالرفاق لا تتوفر لديهم بدلات عسكرية ورتب ونياشين وبيريات، والمكان غير مناسب، حيث فقدنا القصور والقاعات الفخمة والمقاعد المطلية بالذهب، والأدهى من ذلك لا تتوفر كاميرات ولا محطات إذاعية وتلفزيونية ولا وكالة أنباء ولا وزارة للإعلام..وحتى بيت الغناء والطرب أصبح مأوى للعجزة والمشردين.
قاطعه صنخاريب قائلا:وأين أصبح السخاف.
أجاب السكرتير: هناك إشاعات تقول أنه ذهب مع العائلة إلى مهرجان دبي للتسوق.
قال صنخاريب غاضبا: عظيم.. يتركنا في هذه الورطة، ويذهب للتسوق!.. ولكن ماذا عن لطوف أبو المهرجانات؟
رد السكرتير: سيدي لا تزعج نفسك، نحن لا نحتاج هؤلاء الوزراء التافهين حاليا ..سوف نتصل بالرفاق عبد الباري بكران ومصطفى عطوي ونطلب منهما تصعيد حملاتهما من خلال الصحف والمحطات الفضائية للمطالبة بعودتكم إلى السلطة واستمرار المقاومة حتى آخر دولار.
سأل صنخاريب سكرتيره:هل تستطيع أن تحضر لي بدلة عسكرية ، حتى لو كانت من بقايا الحروب ، مع رتبة مهيب ركن ، وبسطال أحمر،من سوق مريدي ،وذلك من أجل اكتمال مظهر الاجتماع؟
ضحك السكرتير وقال : سيدي هذه طلبات مستحيلة.
اندهش صنخاريب ورد قائلا:طلباتي المتواضعة أصبحت مستحيلة يا عبود.. كيف تقول ذلك ؟..هل نسيت أنني كنت أوفر لأبناء الشعب طوال ثلاثين عاما البدلات العسكرية والبساطيل والقنادر والنعل بدون مقابل، بعد أن كانوا حفاة عراة بسبب المستعمرين.
قال السكرتير : لقد تغيرت الأمور خلال الأشهر الماضية .. ويبدو أن سيادتكم لم تشاهد محطات التلفزيون ، في المدة الأخيرة ، فقد استخدم أبناء الشعب القنادر والنعل في ضرب صور وتماثيل سيادتكم..وهناك رجل عجوز يسمونه صاحب ( الشبشب) هو الذي ابتكر هذه الحملة الشعبية!
صرخ صنخاريب : كفى .. كفى ..هؤلاء مجرد غوغاء..إن شعبنا الحقيقي هم رجال الحزب والمخابرات وجهاز الأمن الخاص والحرس الجمهوري.. فأين اختفى هؤلاء يا عبود.. اخبرني الحقيقة.
أجاب السكرتير: لقد تبخروا يا سيدي ، بعد هروبكم من العاصمة .. ويقال أن القوات المعادية استخدمت قنابل متطورة في ضربهم فاصبحوا هباء منثورا!
قال صنخاريب : لا أصدق ذلك .. هذه إشاعات..على كل حال يا عبود سوف تظهر أسرار الحرب فيما بعد ..وعلينا الآن أن نبدأ الاجتماع بالممكن ولكن لا ننسى الطموح.
نهض السكرتير وبدأ بمناداة أعضاء القيادة الذين تفرقوا مبتعدين في أنحاء الزنزانة.. لم يرد على النداء أحد منهم .. بل جاءت من طرف الزنزانة فردة حذاء طائرة وسط الظلام، وصفعت وجه صنخاريب بشدة .. أطلق الرجل صرخة مدوية، وتمدد على الأرض، في حين انبطح السكرتير إلى جانب سيده وراح يحمي رأسه بذراعيه، ويصيح: سيدي لا تهتم .. غارة جوية.. الحرب بدأت ، من جديد.. اصمد سيدي!
وبلحظة واحدة ، كان حشد من السجناء الهائجين يقفز بهستيرية وجنون فوق الرجلين ، وقد راحت الأقدام تسحقهما بعنف ، وهما يصرخان ويبكيان..كانت دبكة دموية غريبة ، وركلات قاسية ..والحشد يصرخ ويردد أهزوجة وحشية:
يا حوم اتبع لو جرينا صرنا قشامر وانذلينا
فزع الحراس ، خارج الزنزانة ، وبدءوا يفتحون البوابة الحديدية الغليظة، لمعرفة معنى هذه الرقصة الجنونية،التي انتهت بعد بضع دقائق، حيث سحب الحراس من تحت الأقدام جثتين ممزقتين ومسحوقتين ، وأخرجوهما من الزنزانة ، في حين تجدد الصراخ ، مرة أخرى ، بعد لحظات،عندما اشتبك السجناء مع بعضهم بوحشية غريبة.
* كاتب وأستاذ جامعي عراقي
بقلم : د. محمد فلحي*
http://www.iraq4all.dk/sh3er/story/ligon.jpg
(( أصبح الواقع السياسي، في هذه الأيام ، أغرب من الخيال..لذلك تبدو هذه القصة حقيقية، ولكنها خيالية تماما، والكاتب غير مسؤول عن أي تشابه مع الأسماء والأحداث الجارية حاليا!!))
في ليلة شتائية باردة ، كانت الريح تعزف لحنا حزينا ، عبر النوافذ الضيقة ، في حين تزدحم تلك القاعة المظلمة بمجموعة من الرجال الذين تحولوا بين ليلة وضحاها من طغاة وجلادين إلى سجناء أذلاء يلوذون كالجرذان في زوايا المعتقل الذي سبق أن شيدوه لدفن ضحاياهم من الأرواح البريئة .
كان الحراس يجلبون ، بين يوم وآخر ضيفا جديدا ، يفتحون باب الزنزانة ويرمونه بين زملائه الذين وضعت أسماؤهم في قائمة المطلوبين ، أحياء أو أمواتا، بعد أن فروا مع صنخاريب الكبير في اليوم الأخير من المعركة الأخيرة .
كان أحدهم يصرخ ويشتم سيده الذي أوصلهم إلى هذا الوضع الحقير، ثم تركهم و فر إلى مخبأ مجهول وتوارى عن الأنظار، وراح يكتفي بإرسال أشرطة صوتية يحرض فيها بقايا فلوله المهزومة على قتل الناس بدون تمييز من أجل أن يظل شبحه المخيف مرعبا ، ويبشر أتباعه بالعودة إلى كرسي الحكم ، مرة أخرى .
كان هؤلاء السجناء يشتركون في صفة واحدة وهي الطاعة العمياء لسيدهم الذي كان يقودهم من معركة إلى أخرى ، بلا مبرر معقول ، ومن يحاول الاعتراض أو يتجرا على السؤال عن الأسباب والدوافع يكون مصيره الموت باعتباره خائنا أو جبانا أو متآمرا.
هؤلاء السجناء ليس أوفر حظا من أولئك الأموات ، والفرق الوحيد بينهم أن هؤلاء يتمنون الموت ألف مرة يوميا ،بسبب الشعور بالعار والخديعة التي اكتشفوها متأخرين ، بعد أن تركهم سيدهم وهرب لإنقاذ نفسه، وظل هؤلاء هائمين على وجوههم ، مذعورين.
كان صنخاريب يروي لأتباعه وغلمانه قصصا مسلية ، كل يوم ، عن بطولاته وانتصاراته الوهمية ، رغم أن الجميع يعرفون أن المعارك التي ورط بلاده فيها كانت تنتهي دائما بهزيمة ساحقة لجيوشه المليونية ،وفي المعركة ما قبل الأخيرة قال لقادة الجيوش التي دفعها لغزو بلد مجاور: لا تتراجعوا عن جبهة القتال ، حتى لو سمعتم صوتي عبر المذياع يأمركم بالرجوع إلى الوراء، لأن الأعداء سوف يفبركون شريطا يشبه صوتي من أجل الحرب النفسية.
وبعد أيام قليلة ، سمع الجميع قائدهم يدعوهم إلى الهرب أمام جيوش الأعداء.
وفي المعركة الأخيرة قال إن أم المهالك حملت لمدة ثلاثة عشر عاما وأنجبت أم المهازم، وفي هذه المعركة سوف نجعل المحتلين ينتحرون عند أبواب العاصمة،وليس أمام الشعب سوى القتال حتى الموت أما قيادتكم العظيمة المجاهدة فسوف تختبئ تحت الأرض ،حتى ينجلي غبار المعركة ، ومن ثم نظهر لنعلن لكم النصرالنهائي .. وليخسأ الخاسئون.
قال أحد السجناء لزميله: كيف تشتم القائد العظيم وهو الذي جعلك وزيرا بعد أن كنت راعيا حقيرا؟
أجابه الآخر: وما شأنك أنت يا تافه.. إن هذا الذي تسميه قائدا هو ابن عمي ، لكنه ضحك علينا جميعا، وأوصلنا إلى هذا المكان!
قال سجين ثالث : إذا كنت أنت من أقربائه وتتحدث عنه بهذه الطريقة ، فماذا نقول نحن الذين كنا وزراء ومستشارين وكنتم تعاملونا كأننا عبيد مملوكين لكم .
أجابه الشرس بحدة : سوف أمسح بك الأرض وأسحق رأسك إذا لم تكف عن التدخل فيما لا يعنيك يا وزير الخيبة ومستشار العار.
نهض رجل ضئيل محطم الجسم من طرف الزنزانة ، واقترب من المتخاصمين في محاولة لتهدئة النزاع المستمر طوال الليل والنهار.. بلع رئيس الوزراء السابق ريقا جافة وقال: يا جماعة يبدو أن المعركة لم تنتهي ، وأن القائد يقود المقاومة من داخل مخبأه السري ، وسوف نتحرر من السجن على أيدي رفاقنا الأبطال.. فاستعينوا بالصبر ، وإن النصر قريب .
ضجت الزنزانة بالتصفيق و بالضحكات التي اختلطت مع أصوات الغازات المندفعة من الكروش الخاوية ، وامتلأت القاعة بروائح كريهة خانقة، فوضع رئيس الوزراء كفه على طرف أنفه ، وقال بامتعاض شديد : لعنك الله يا مزربان لقد فعلتها ، مرة أخرى ، ألم أنصحك مرارا بعدم تناول البصل مع الفاصولياء في ظل هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة .
تصاعد الضحك وتراجع الرجل ليندس في فراشه ، وهو يردد كلمات غير مفهومة .
تحرك باب الزنزانة ، صمت الجميع ، لأن صرير البوابة الحديدية في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل يشير إلى وصول رفيق جديد.
سحب الحراس رجلا أشعث أغبر ودفعوه إلى الداخل ثم انصرفوا ، وقد ظل الرجل ممدا على الأرض وهو يصدر أنينا متواصلا.. اقترب السجناء من هذا الرجل الغريب ، تفحصوا ملامحه ، وسط الظلام ، لم يتعرفوا عليه ، فتراجعوا إلى أماكنهم ، وبدءوا يتدثرون بالأغطية .
قال أحدهم محتجا : هزلت والله .. أصبحت هذه الزنزانة مأوى للمشردين والمعتوهين القذرين، رغم أنها من المفروض أن تكون مخصصة فقط لمسؤولين سابقين محترمين، كانوا يحكمون دولة عظيمة.
قال سجين آخر : لا تسيء الظن بالرجل .. ربما يكون من رجال المقاومة .
علق السكرتير السابق لرئيس الدولة: وربما يكون سكيرا فقد وعيه على قارعة الطريق ، فوضعوه معنا حتى يحققوا معه عند الصباح .
قال رئيس الوزراء: ألا توجد رحمة في نفوسكم .. بدلا من هذه المناقشة الفارغة ضعوا بطانية على الرجل .
أجاب السكرتير متهكما: إذا كانت لديك بطانية زائدة فامنحها لهذا المتشرد الوضيع.. وسوف تحصل على عشر بطانيات في الآخرة عندما تذهب إلى الجحيم قريبا.
ضحك بعضهم وامتعض آخرون ، في حين ظل سجينان صامتان طوال الوقت ، ولا يعلقان أو يشاركان في هذه الحوارات التي تفتقد ، في أغلب الأحيان ، إلى اللياقة والأدب.وقد كان كل من هذين الرجلين العجوزين يحمل لقب نائب رئيس الجمهورية، لكنهما في الواقع لا يتمتعان بصلاحيات جندي بسيط من حراس رئيس الجمهورية.لذلك كان السكرتير الوقح يحاول إذلالهما، ويوجه إليهما عبارات الازدراء، كلما حاولا المشاركة في الحديث.
انقطع أنين الرجل الغريب البشع ، ثم صحا من غفوته القصيرة وجلس متربعا على البلاط البارد ، وراح ينظر في أنحاء الزنزانة ويمسح عينيه ولحيته العفنة ..أطلق فجأة ضحكة مدوية جعلت بعض المساجين يقفز من الفراش مرعوبا..عندما وقف الرجل على قدميه كان الجميع يحيطون به مذهولين .. صرخ أحدهم:سيدي..سيدي!
اندفع الجميع بسرعة يهتفون بصوت واحد وهم يقفزون ويدورون حوله: سيدي الله ينصرك .. سيدي ويدوم نصرك.
سحب الرجل نفسا عميقا وبدأ يلوح بيده الطويلة ويردد: حياكم الله.. ما قصرتم .. هذا يومكم، لقد انتصرتم، وليخسأ الخاسئون.
ازداد الحماس وتفجرت المشاعر وتصاعدت الهتافات والتكبيرات عندما استمعوا إلى هذه البشارة السعيدة، في حين اندفع الحراس لمراقبة الضجيج من وراء القضبان الحديدية، دون أن يفهموا ما يجري في داخل الزنزانة.
حاول صنخاريب تهدئة مشاعر زبانيته الهائجين الفرحين وطلب منهم الجلوس على الأرض لكي يشرح لهم آخر تطورات الموقف خارج الزنزانة،وكان الجميع في الواقع متلهفين لسماع حديث سيدهم الذي فارقهم لمدة ثمانية أشهر، وهو اليوم يقف بينهم ويبشرهم بالنصر العظيم.. قال:لقد اندحر الباطل وانتصر الحق..وأشرقت شمس الحرية التي وعدتكم بها طوال خمسة وثلاثين عاما.. انتصر الأيمان كله على الكفر كله..صفق الجميع..هتف الكيمياوي : الله أكبر.. ثم اقترب ليقبل يد سيده ، ويسأله :
ــ سيدي .. هل سنخرج من هذه الزنزانة.. ومتى؟
أجابه صنخاريب باستنكار وغضب شديد: عيب والله .. عيب أن تطرح مثل هذا السؤال السخيف قبل أن أشرح لكم تفاصيل الموقف الستراتيجي وتطورات المعركة العظيمة المتواصلة!
سكت الجميع ، أصابتهم كلمات سيدهم بالحيرة والارتباك..أضاف موضحا:لقد أخبرتكم ،مرات عديدة، إن أم المهالك وأخواتها وبناتها سوف لا تنتهي ، فهي غير محددة بزمان أو مكان، وعلى هذا الأساس فأنني أعتبر وجودنا في هذه الزنزانة نصرا لكل الشرفاء والخيرين ،وعلينا منذ هذه اللحظة أن نعيد تشكيل حزبنا من جديد تحت إسم (حزب العودة)، ومثل ما دخلنا السجن سابقا وهربنا منه، نستطيع بإرادتنا الثورية الفولاذية أن نحطم أسوار السجون ونعود إلى ساحات النضال!!
صفق أحدهم وأراد أن يهتف ، لكن الآخرين أجبروه على السكوت ، لكي يفهموا هذه الألغاز التي يرددها سيدهم في هذيان غير مفهوم.. كان صنخاريب يتحدث سابقا ، من فوق كرسي الحكم ، ويجبر الآخرين على الاستماع فقط، أما اليوم فقد وجدوا أنفسهم مع سيدهم في زنزانة واحدة، ولم يعد ثمة خوف من المناقشة أو السؤال.
قال وزير النفط السابق بجرأة غير معهودة: نريد أن نعرف أولا أين اختفيت خلال الأشهر الماضية ، وكيف استطاعوا اعتقالك أخيرا؟
نظر صنخاريب بغضب مكبوت إلى الوزير الذي لم يخاطبه، لأول مرة، بكلمة( سيدي)، لكنه تجاوز هذه الوقاحة وأجاب: تعلمون أنني وضعت خططا مسبقة ومحكمة لما قبل السقوط وبعده ، وعندما غادرت العاصمة بعد أن دخل إليها المحتلون، لجأت إلى شبكة من المخابئ الستراتيجية والحفر التكتيكية،وكنت أقود من هناك عمليات التفجير والتدمير، لأنني سبق أن أعلنت أن من يريد أن يأخذ السلطة مني سوف يتسلم أرضا بلا شعب ، ونحن ماضون في تطبيق هذه الخطة ، والحمد لله!..ولكن في إحدى الأمسيات، سمعت أصوات القوات المعادية تطوق المنطقة التي كنت موجودا فيها، فنزلت إلى الحفرة التكتيكية المجهزة بالمعدات التكنولوجية المتطورة مثل السطل والإبريق والطاسة والقدر والبطانيات وأنابيب التنفس عن بعد ، لكن الأعداء كانوا قد وصلوا إلى المكان بسرعة،فسحبوني من تحت الأرض وأخرجوني ،وقد طلبت منهم التفاوض لكنهم رفضوا، واعتقد أنهم خسروا فرصة عظيمة.
ضحك السكرتير باستهزاء وسال سيده : إذا كنت قد جئت من الحفرة إلى الزنزانة، فهل تستطيع أن تخبرنا كيف سنخرج من هنا .
تصاعدت أصوات الآخرين وهم يؤيدون زميلهم ويعبرون عن زوال فرحتهم المؤقتة وتفجر سخطهم على سيدهم، فحاول هذا الأخير أن يهدئ من روعهم، فقال :السجون للرجال.. والسيوف للأبطال، ونحن لا نذل ولا نخضع أبدا.
صرخ وزير سابق ذو ملامح شيطانية: ما شاء الله..كلام كبير.. ولكنك لم تستخدم السيوف ولا المسدسات ولا البنادق عندما امسك الأعداء برقبتك ، وكتفوك كالأرنب وجلبوك إلى هنا.
أصيب صنخاريب بالصدمة من كلام هذا الرجل الذي كان كل طموحه سابقا أن يقوم بدور القواد لإرضاء نزوات سيده.. وتساءل مع نفسه :كيف تغيرتم يا سفلة بهذه السرعة.. لقد زالت السلطة والمال وبدأت الكلاب المسعورة تنبح !
تلفت يمينا ويسارا، ثم أشار إلى أحد رفاقه ، وطلب منه التقدم نحوه فحضر الرجل ذليلا منكسرا ووقف إلى جانب سيده ، فأمسك صنخاريب بيد الرجل وهزها بعنف وهو يقول :أخبرهم يا همهام، كم كنا نحتاج من الوقت لنصنع القنبلة النووية، لقد رأيتم بأنفسكم القداحات التي صنعناها ، لكن القنبلة تأخرت، ومن ثم تكالب الأعداء علينا، وعندما هددتهم بالكيمياوي المزدوج ارتعدت فرائص الأعداء، لكن الأشقاء خذلونا، فغيرنا خطة التحرير واتجهت قواتنا جنوبا، وكنا نريد مواصلة الزحف من هناك نحو الغرب، وقد غدر الغادرون.. وحصل الذي حصل!
ارتبك همهام الذي كان مجرد صبي في خدمة سيده ، وقد قلده مناصب وزارية خطيرة ..ومع ذلك لم يتردد في استهجان أقوال صنخاريب ، فقال: هذا كلام ليس وقته الآن يا سيدي، نحن نريد فقط أن نخرج من هذا المكان .. فهل تستطيع بعبقريتكم المعروفة أن تخبرنا عن المصير المجهول الذي ينتظرنا؟
دفعه صنخاريب بعنف، فسقط على وجهه، وألحقه الكيمياوي بركلة على مؤخرته، وهو يقول:هؤلاء كلهم خونة ومتخاذلون.. لا تهتم سيدي.. سوف ننتصر ونخرج ، وأتولى بنفسي مسؤولية الطاقة الذرية، وساكون عند عيناك عندما تأمرني ، فأحرق الكرة الأرضية ، ونحسم المعركة نهائيا ضد الأوغاد الدوليين، وقد سبق أن جربتني سيادتكم في حلبجه والأنفال والأهوار.
وضع صنخاريب يده على كتف الكيمياوي ، وقال: عفيه..عفيه..هؤلاء هم رجالي الحقيقيون.
اندهش الجميع من نفاق زميلهم الذي كان يشتم سيده ، قبل لحظات فقط!
التفت صنخاريب إلى جهة اليمين. وأشار إلى الرجلين الصامتين ، وقال :حيا الله الرفاق .. ما دام الجميع موجودين يعني النصاب كامل ومجلس القيادة يستطيع أن يجتمع ، وأن يصدر قرارات جديدة.
قال السكرتير: سيدي ..لكن عندنا واحد غائب.
سأله : من هو ؟
أجاب: الرفيق النائب عزوز الجربوري.
رد صنخاريب: لا..لا ..هذا نسجله غائبا بعذر مشروع..وسوف يصل قريبا إن شاء الله.
قال السكرتير مستهزئا ساخرا: يبدو أن حفرته أعمق من حفرتكم سيدي.
أجاب: أبدا ..لكن هو يقود المقاومة من تحت، وأنا كنت أقودها من فوق.. ولكن ما يقلقني أن الرفيق عزوز ينبغي أن يغير دمه ، كل بضعة أشهر، فكيف يدبر أموره في ظل هذه الظروف؟
رد السكرتير: بالعكس سيدي ..لا توجد مشكلة، الدماء متوفرة في الشوارع ، هذه الأيام ، وذلك بفضل السيارات المتفجرة التي يقودها أشقاؤنا المجاهدون الذين يرغبون في إرسال جثثهم المتفحمة إلى الجنة!!
التفت صنخاريب إلى جهة اليسار فلاحظ وجود أثنين من أخوته غير الأشقاء ، فتبسم لهما ، ودعاهما لحضور الاجتماع ، وقد أوضح قائلا : والله أنا في حيرة من أمركما ..لقد توليتما كل المناصب المهمة في الدولة، رغم أنكما أميان ولا تعرفان حتى كتابة اسميكما، ومع ذلك كنتما تطلبان المزيد حتى تجرأتما على المطالبة بالكرسي الذي أجلس عليه..وها نحن جميعا نجلس على الأرض ، فهل أنتما راضيان ألان؟
لم يجيبا وانصرفا إلى زاوية الزنزانة بعيدا عن المكان المفترض لعقد الاجتماع.. نظر إليهما باشمئزاز وغضب، وطلب من السكرتير ترتيب إجراءات عقد الجلسة ودعوة الأعضاء إلى الحضور، فلم يتورع السكرتير عن الاستمرار في سخريته .. حيث قال:سيدي شروط عقد الاجتماع غير متوفرة حسب تعليمات سيادتكم .. فالرفاق لا تتوفر لديهم بدلات عسكرية ورتب ونياشين وبيريات، والمكان غير مناسب، حيث فقدنا القصور والقاعات الفخمة والمقاعد المطلية بالذهب، والأدهى من ذلك لا تتوفر كاميرات ولا محطات إذاعية وتلفزيونية ولا وكالة أنباء ولا وزارة للإعلام..وحتى بيت الغناء والطرب أصبح مأوى للعجزة والمشردين.
قاطعه صنخاريب قائلا:وأين أصبح السخاف.
أجاب السكرتير: هناك إشاعات تقول أنه ذهب مع العائلة إلى مهرجان دبي للتسوق.
قال صنخاريب غاضبا: عظيم.. يتركنا في هذه الورطة، ويذهب للتسوق!.. ولكن ماذا عن لطوف أبو المهرجانات؟
رد السكرتير: سيدي لا تزعج نفسك، نحن لا نحتاج هؤلاء الوزراء التافهين حاليا ..سوف نتصل بالرفاق عبد الباري بكران ومصطفى عطوي ونطلب منهما تصعيد حملاتهما من خلال الصحف والمحطات الفضائية للمطالبة بعودتكم إلى السلطة واستمرار المقاومة حتى آخر دولار.
سأل صنخاريب سكرتيره:هل تستطيع أن تحضر لي بدلة عسكرية ، حتى لو كانت من بقايا الحروب ، مع رتبة مهيب ركن ، وبسطال أحمر،من سوق مريدي ،وذلك من أجل اكتمال مظهر الاجتماع؟
ضحك السكرتير وقال : سيدي هذه طلبات مستحيلة.
اندهش صنخاريب ورد قائلا:طلباتي المتواضعة أصبحت مستحيلة يا عبود.. كيف تقول ذلك ؟..هل نسيت أنني كنت أوفر لأبناء الشعب طوال ثلاثين عاما البدلات العسكرية والبساطيل والقنادر والنعل بدون مقابل، بعد أن كانوا حفاة عراة بسبب المستعمرين.
قال السكرتير : لقد تغيرت الأمور خلال الأشهر الماضية .. ويبدو أن سيادتكم لم تشاهد محطات التلفزيون ، في المدة الأخيرة ، فقد استخدم أبناء الشعب القنادر والنعل في ضرب صور وتماثيل سيادتكم..وهناك رجل عجوز يسمونه صاحب ( الشبشب) هو الذي ابتكر هذه الحملة الشعبية!
صرخ صنخاريب : كفى .. كفى ..هؤلاء مجرد غوغاء..إن شعبنا الحقيقي هم رجال الحزب والمخابرات وجهاز الأمن الخاص والحرس الجمهوري.. فأين اختفى هؤلاء يا عبود.. اخبرني الحقيقة.
أجاب السكرتير: لقد تبخروا يا سيدي ، بعد هروبكم من العاصمة .. ويقال أن القوات المعادية استخدمت قنابل متطورة في ضربهم فاصبحوا هباء منثورا!
قال صنخاريب : لا أصدق ذلك .. هذه إشاعات..على كل حال يا عبود سوف تظهر أسرار الحرب فيما بعد ..وعلينا الآن أن نبدأ الاجتماع بالممكن ولكن لا ننسى الطموح.
نهض السكرتير وبدأ بمناداة أعضاء القيادة الذين تفرقوا مبتعدين في أنحاء الزنزانة.. لم يرد على النداء أحد منهم .. بل جاءت من طرف الزنزانة فردة حذاء طائرة وسط الظلام، وصفعت وجه صنخاريب بشدة .. أطلق الرجل صرخة مدوية، وتمدد على الأرض، في حين انبطح السكرتير إلى جانب سيده وراح يحمي رأسه بذراعيه، ويصيح: سيدي لا تهتم .. غارة جوية.. الحرب بدأت ، من جديد.. اصمد سيدي!
وبلحظة واحدة ، كان حشد من السجناء الهائجين يقفز بهستيرية وجنون فوق الرجلين ، وقد راحت الأقدام تسحقهما بعنف ، وهما يصرخان ويبكيان..كانت دبكة دموية غريبة ، وركلات قاسية ..والحشد يصرخ ويردد أهزوجة وحشية:
يا حوم اتبع لو جرينا صرنا قشامر وانذلينا
فزع الحراس ، خارج الزنزانة ، وبدءوا يفتحون البوابة الحديدية الغليظة، لمعرفة معنى هذه الرقصة الجنونية،التي انتهت بعد بضع دقائق، حيث سحب الحراس من تحت الأقدام جثتين ممزقتين ومسحوقتين ، وأخرجوهما من الزنزانة ، في حين تجدد الصراخ ، مرة أخرى ، بعد لحظات،عندما اشتبك السجناء مع بعضهم بوحشية غريبة.
* كاتب وأستاذ جامعي عراقي