صقر الجنوب
04/03/2006, 08:21 PM
الموت وحيدا .. الموت غريبا ....
http://www.iraq4all.dk/sh3er/story/ligon.jpgها هو ذا سيقدم على مغامرة وهو على أعتاب السبعين من العمر .. لقد أقدم عليها غيره ونجحوا ..لِمَ لا يحاول هو أيضا ..ما تحتاجه المغامرة بعض المال ..والمال بالنسبة لموضوع كهذا يعتبرأمرا تافها ..أقترض .. لا بل ساعده البعض ولم يعتبروا ما يقدموه له دينا وتمّنوا له النجاح ..أنطلقت به السيارة .. نظر الى الخلف ,الى من ودعّه من الاصدقاء ..شعر بالحزن على فراقهم ولكنه سيلتقي بمن يحب ..فليعذروه ان لم يعد اليهم مرة أخرى ..وليسامحوه على كل شيء ..فهو على موعد مع اللقاء المرتقب منذ سنين ولم ييأس من انتظاره .. انه على موعد مع الاهل والاحباب ..ولكن اللقاء سيتم على الجانب الاخر من الحدود .. كا نمعه في السيارة بعض النسوة ممن قمن بزيارة بعض أهلهن في أيلام ..كن يتحدثن عن الصبايا اللواتي كبرن في الغربة ..عن الرجال الذين ماتوا في الغربة .. عن الاحياء ..عن كل شيء .. كانت معهم أمراءة تذرف الدمع .. لاتصدق أنها ستعود الى العراق .. الى بيت أهلها في العقاري شارع فلسطين .. ياترى من تبقّى من أهلها ..ثلاثة عشر سنة قضتها وأعتقدت أنها نسيت ولكن فسحة الامل هذه جعلت من الأشواق أمواجا تدفعها وتدفعها لتقدم على تلك المغامرة هي ايضا …تركت زوجها خلفها وهي تّعده بالعودة السريعة .. فيما كان يلوح بيده مودعا وهو يقول "لا تنسي الزيارة .. الكاظم والنجف و كربلاء …
كان يجول ببصره بين تلك النسوة و لم يتكلم.فبأي الكلمات سينطق ليصمت ان صمته يعبر عن ما يريد قوله.. كان بوّده ان يسأل النسوة العائدات الى العراق عن منطقته اما زالت قائمة وتحمل ذات الاسم .. امازالت (العوينة ,الصدرية، الدهانة ، الشورجة ، ابو سيفين ، طاطران , ابو دّودّو, وسوق حنون ) كل تلك المناطق التي يعشقها بدرابينها والتي تحمل كلها ذكريات عاشها وانغمس بها حتى باتت جزءا لا يتجزء من كيانه وشخصيته.. اسيعود اليها وتّتكحل عيناه برؤيتها ورؤية احب الناس اليه زوجته واولاده .
مازال ذلك الموقف ماثلا امامه لن ينساه ولم يفعل حين ارادوا اللحاق به الا انه صاح بهم ورجال الامن يحيطون به ...
- الى اين تاتون؟ الى المجهول الذي سيرموني فيه
خاف على اطفاله وزوجته وحين الحت بالذهاب معه هددها بالطلاق قائلاً..
- عليك برعاية الاطفال ورعاية ما في بطنك ...
فركنت الى التهديد وقالت بما يشبه القسم ...
- سألحق بك ...
ولكنها لم تفعل حيث فرقتهم الحدود والمعارك .. هاهو سيلتحق بعائلته ولن يهمه شيء .. من سيسأل عنه هذه المرة ..كان يملك بعض المال وبعض التجارة وكان في أتم الصحة .. طمعوا بماله وتجارته وصحته فبماذا سيطمعون هذه المرة ... لقد عاد اليهم عجوزا عليلا لايملك حتى أجرة العودة ان أراد ..لقد قرر البقاء ... وقطع المسافة الى بغداد من أيلام بلا توقف .. عليه المحافظة على صحته وقوته فسير الرحلة يقتضي المرور بالسليمانية وكركوك ومن ثم بغداد ..
وهاهو في بغداد .. لقد أجتاز المسافة صابرا متحاملا على آلامه ومرضه .. أجتازها وهو يضع يده على قلبه ويغمض عيناه عند كل نقطة تفتيش أو سيطرة .. ويدعو الله من كل قلبه أن ينجو .. ونجا ..وهاهو في بغداد .. في النهضة .. ما أن ترجّل من الحافلة حتى أغمض عيناه ..أنه يرى من مكانه هذا بيته .. ويرى المسار الذي عليه أتخاذه .. أنه يرى أهله زوجته وأطفاله .. لقد دنت ساعة اللقاء ..أقترب موعد العناق والقبل والدموع .. كان قلبه ينبض بقوة كلما أقترب من مبتغاه خطوة ويشعر بخور في قدميه ..حتى لم تعد تقويان على حمله وهو عند رأس الشارع المؤدي الى بيته .. جلس يستجمع قواه وينظر الى الناس .. لعله يعرف البعض منهم او ان يتعرف البعض اليه .. لقد وصل الى مبتغاه أخيرا ليجلس ويستجمع كل القوة الممكنة للقاء وحتى ذلك الحين ليمض الوقت في مراقبة الناس كما أن البعض كان يراقبه .. فبغداد لم تتغير ومازال البعض يتجسس ويتنصت ويكتب ليُرسل البسطاء والمساكين والطامحين الى التغيير نحو الافضل الى غياهب السجون والمعتقلات .. تلك الاعين ما فتأت تراقب وترقب أي تغيير أو أي جديد .. وهو جديد .
مازال يتمعن في الوجوه .. مضى بعض الوقت ولم يتعرف الى أحد ولم يتعرف عليه أحد .. فقال لنفسه ان الوقت يمضي وعليه قطع الامتار القليلة المتبقية للوصول الى البيت .. أستند الى الجدار الذي كان يتكأعليه ..ان الجدران هي من ستأخذه الى البيت .. لقد تعرفت عليه بعد أن جهله ونسيه الجميع .. ماهي الاخطوات حتى سمع صوت من خلفه متسائلا ...
- ابو حسن ؟
وما كاد يلتفت حتى هجم عليه صديقه بالعناق والقبل وأمطره بالأسئلة التي لم تنتهي بفسحة الوقت للجواب .. كان الشوق يدفعه الى ذلك دون الانتباه الى الحذر الواجب أتخاذه .. كان ابو حسن يبادله القبل ويجيب .. كان سعيدا بالاجابة على تلك الاسئلة لانه أعتقد أن الناس حين تسمع ما عانى حتى يعود لما تركته يسير على رجليه .. لحملته على الاعناق وأوصلته الى البيت ...
وسرعان ما شاع الخبر "أيراني عبر الحدود ووصل الى هنا .. ابو حسن الايراني الذي سفّر رجع ... "سمع الجميع الخبر الاأهله لأنهم تركوا المنطقة منذ سنين .. سمعه الجميع بوضوح كاف ٍ لتتحرك الأجهزة الأمنية لتطوق حالة أختراق ..ماهي الاساعات وجاء رجال الامن ليأخذوه .. ليأخذوه وهو يجيب على أسئلة الحاضرين ولكن لاأحد أجاب على سؤاله "أين أهلي ؟ ماذا حل بهم؟" توسمّ في رجال الامن المروءة ليتركوه وأحنى هامته ليقبل أيديهم .. فقال أحدهم ..
-انت أيراني ..من أين لك عائلة في العراق؟
حملوه الى غرف التحقيق .. وسألوه عن علاقاته بأيران وبمن يتصل والى من أُرسل .. أسئلة لم يعرف الاجابة عليها وان كانت رعشات جسده النحيل ودموعه نطقت لتخبرهم ان لاعلاقة له بأحد سوى عائلته التي جّد للوصول اليها .. أطمأن المحققون اليه .. وأحالوا أوراقه الى الشرطة اذ أعتبروا انحالته جنائية وليست أمنية .. وبعد تحقيق بسيط حُولت أوراقه الى المحكمة التي لم يجد القاضي الا أن يحكم بسرعة عليه وهو يرد على محامي الدفاع ..
-لاأملك الاأن أحكم ..لقد أعترف بتسلّله عبر الحدود ..
-ولكن ياسيدي القاضي نرجو مراعاة الجانب الانساني ..
-لاتقل لي أهله ... سيأتون لزيارته حالما يسمعون .. لن أتساهل في حكمي عليه لكي لايكون سابقة لغيري لمثل هذه الحالات وخصوصا من أيران .. حكمنا عليه بخمس سنوات وشهر مع مراعاة مدة التوقيف .. القضية الاخرى ..
وتناقلته الايادي حتى وصل الى سجن ابي غريب قسم الاجانب .. وأستقر به المقام على سرير الى جوار باكستاني متهم بقتل صديقه .. أيام لم يغادر فيها سريره ينظر الى الباب الموصد لعله يفتح ويطل منه أبنائه .. ينظر الى السقف ويتخيلهم .. كيف هي ملامحهم الان الجنين الذي تركه في بطن أمه أهو بنت كما كان يتمنى ام صبي يضاف الى الخمسة الذين تركهم .. يالقسوة الزمن .. بل يالقسوة الناس الذين خذّلوه وقت سفّر مكرها الى أيران .. وهاهم يخذّلوه حين عاد .. لايعلم ابو حسن أن الناس بقت على حالها من الخوف والجبن .. سكتت تلك الايام فلم تنطق ألسنتها وأعموا أعينهم كي لايروا الجريمة النكراء تحل بمن يحبون من أهل وأصدقاء وجيران .. ليصمتوا .. ليعموا .. مادامت الجريمة لاتمسهم .. ومرت الجريمة ولتمر بعدها جرائم أكبر وأفظع وهم كما هم يرتعدون خوفا .. تدثروا بدثار الذل و الاستكانة والخضوع ليحموا أنفسهم .. وأنتظروا الجريمة تلو الاخرى تمر من دون أن تمسهم ..ولكن من منا لم تمسه الجريمة بطريقة او أخرى وبأي مسمى كان ... تسفير ... حرب .. أعدام .. سجن .. وأخيرا غربة لاطائل منها سوى الغربة ... نسّي ابو حسن أن من خذلّه بالامس لن ينصروه اليوم
طال انتظاره .. ومازالت عيناه شاخصة نحو الباب الذي ظل موصدا امام أماله .. وظلت عيناه دامعة .. تنطق بما يعجز اللسان عن نطقه .. لم تغمض ولم تكف عن البكاء الا حين سبّلها الباكستاني حين أكتشف موته .. ويكاد يقسم ذاك أن كفّه ترطبت وهو يسبّل عينا ابو حسن بالدموع التي كانت ملتصقة بعينه .. مات وهو يبكي وحدته .. غربته .. بعيدا عن أهله.
أيران رفضت أستلامه مدّعية أنه كان ضيفا عليها وليس مواطنا فيها .. فأضطرت أدارة السجن الى تسليمه الى أمانة بغداد لتّدفنه في مقبرتها لمجهولي الهوية .. فحمل نعشه أثنان من الاجراء .. وضعوه في الحفرة التي أعدت له مسبقا .. ودفنوه ليسدلوا الستار على حياته وأمله برؤيه أهله ..
ابناء ابو حسن فلقد تشتتوا في الاصقاع باحثين عن حياة جديدة .. هوية جديدة .. ارضٍ جديدة .. غادروا العراق وأقسموا الا يعودوا اليه مجددا مالم يحدث تغيير ما .. غادروا العراق الذي غامر أباهم بحياته ليعود اليه .
(أنتهى)
علي الكلاواي
http://www.iraq4all.dk/sh3er/story/ligon.jpgها هو ذا سيقدم على مغامرة وهو على أعتاب السبعين من العمر .. لقد أقدم عليها غيره ونجحوا ..لِمَ لا يحاول هو أيضا ..ما تحتاجه المغامرة بعض المال ..والمال بالنسبة لموضوع كهذا يعتبرأمرا تافها ..أقترض .. لا بل ساعده البعض ولم يعتبروا ما يقدموه له دينا وتمّنوا له النجاح ..أنطلقت به السيارة .. نظر الى الخلف ,الى من ودعّه من الاصدقاء ..شعر بالحزن على فراقهم ولكنه سيلتقي بمن يحب ..فليعذروه ان لم يعد اليهم مرة أخرى ..وليسامحوه على كل شيء ..فهو على موعد مع اللقاء المرتقب منذ سنين ولم ييأس من انتظاره .. انه على موعد مع الاهل والاحباب ..ولكن اللقاء سيتم على الجانب الاخر من الحدود .. كا نمعه في السيارة بعض النسوة ممن قمن بزيارة بعض أهلهن في أيلام ..كن يتحدثن عن الصبايا اللواتي كبرن في الغربة ..عن الرجال الذين ماتوا في الغربة .. عن الاحياء ..عن كل شيء .. كانت معهم أمراءة تذرف الدمع .. لاتصدق أنها ستعود الى العراق .. الى بيت أهلها في العقاري شارع فلسطين .. ياترى من تبقّى من أهلها ..ثلاثة عشر سنة قضتها وأعتقدت أنها نسيت ولكن فسحة الامل هذه جعلت من الأشواق أمواجا تدفعها وتدفعها لتقدم على تلك المغامرة هي ايضا …تركت زوجها خلفها وهي تّعده بالعودة السريعة .. فيما كان يلوح بيده مودعا وهو يقول "لا تنسي الزيارة .. الكاظم والنجف و كربلاء …
كان يجول ببصره بين تلك النسوة و لم يتكلم.فبأي الكلمات سينطق ليصمت ان صمته يعبر عن ما يريد قوله.. كان بوّده ان يسأل النسوة العائدات الى العراق عن منطقته اما زالت قائمة وتحمل ذات الاسم .. امازالت (العوينة ,الصدرية، الدهانة ، الشورجة ، ابو سيفين ، طاطران , ابو دّودّو, وسوق حنون ) كل تلك المناطق التي يعشقها بدرابينها والتي تحمل كلها ذكريات عاشها وانغمس بها حتى باتت جزءا لا يتجزء من كيانه وشخصيته.. اسيعود اليها وتّتكحل عيناه برؤيتها ورؤية احب الناس اليه زوجته واولاده .
مازال ذلك الموقف ماثلا امامه لن ينساه ولم يفعل حين ارادوا اللحاق به الا انه صاح بهم ورجال الامن يحيطون به ...
- الى اين تاتون؟ الى المجهول الذي سيرموني فيه
خاف على اطفاله وزوجته وحين الحت بالذهاب معه هددها بالطلاق قائلاً..
- عليك برعاية الاطفال ورعاية ما في بطنك ...
فركنت الى التهديد وقالت بما يشبه القسم ...
- سألحق بك ...
ولكنها لم تفعل حيث فرقتهم الحدود والمعارك .. هاهو سيلتحق بعائلته ولن يهمه شيء .. من سيسأل عنه هذه المرة ..كان يملك بعض المال وبعض التجارة وكان في أتم الصحة .. طمعوا بماله وتجارته وصحته فبماذا سيطمعون هذه المرة ... لقد عاد اليهم عجوزا عليلا لايملك حتى أجرة العودة ان أراد ..لقد قرر البقاء ... وقطع المسافة الى بغداد من أيلام بلا توقف .. عليه المحافظة على صحته وقوته فسير الرحلة يقتضي المرور بالسليمانية وكركوك ومن ثم بغداد ..
وهاهو في بغداد .. لقد أجتاز المسافة صابرا متحاملا على آلامه ومرضه .. أجتازها وهو يضع يده على قلبه ويغمض عيناه عند كل نقطة تفتيش أو سيطرة .. ويدعو الله من كل قلبه أن ينجو .. ونجا ..وهاهو في بغداد .. في النهضة .. ما أن ترجّل من الحافلة حتى أغمض عيناه ..أنه يرى من مكانه هذا بيته .. ويرى المسار الذي عليه أتخاذه .. أنه يرى أهله زوجته وأطفاله .. لقد دنت ساعة اللقاء ..أقترب موعد العناق والقبل والدموع .. كان قلبه ينبض بقوة كلما أقترب من مبتغاه خطوة ويشعر بخور في قدميه ..حتى لم تعد تقويان على حمله وهو عند رأس الشارع المؤدي الى بيته .. جلس يستجمع قواه وينظر الى الناس .. لعله يعرف البعض منهم او ان يتعرف البعض اليه .. لقد وصل الى مبتغاه أخيرا ليجلس ويستجمع كل القوة الممكنة للقاء وحتى ذلك الحين ليمض الوقت في مراقبة الناس كما أن البعض كان يراقبه .. فبغداد لم تتغير ومازال البعض يتجسس ويتنصت ويكتب ليُرسل البسطاء والمساكين والطامحين الى التغيير نحو الافضل الى غياهب السجون والمعتقلات .. تلك الاعين ما فتأت تراقب وترقب أي تغيير أو أي جديد .. وهو جديد .
مازال يتمعن في الوجوه .. مضى بعض الوقت ولم يتعرف الى أحد ولم يتعرف عليه أحد .. فقال لنفسه ان الوقت يمضي وعليه قطع الامتار القليلة المتبقية للوصول الى البيت .. أستند الى الجدار الذي كان يتكأعليه ..ان الجدران هي من ستأخذه الى البيت .. لقد تعرفت عليه بعد أن جهله ونسيه الجميع .. ماهي الاخطوات حتى سمع صوت من خلفه متسائلا ...
- ابو حسن ؟
وما كاد يلتفت حتى هجم عليه صديقه بالعناق والقبل وأمطره بالأسئلة التي لم تنتهي بفسحة الوقت للجواب .. كان الشوق يدفعه الى ذلك دون الانتباه الى الحذر الواجب أتخاذه .. كان ابو حسن يبادله القبل ويجيب .. كان سعيدا بالاجابة على تلك الاسئلة لانه أعتقد أن الناس حين تسمع ما عانى حتى يعود لما تركته يسير على رجليه .. لحملته على الاعناق وأوصلته الى البيت ...
وسرعان ما شاع الخبر "أيراني عبر الحدود ووصل الى هنا .. ابو حسن الايراني الذي سفّر رجع ... "سمع الجميع الخبر الاأهله لأنهم تركوا المنطقة منذ سنين .. سمعه الجميع بوضوح كاف ٍ لتتحرك الأجهزة الأمنية لتطوق حالة أختراق ..ماهي الاساعات وجاء رجال الامن ليأخذوه .. ليأخذوه وهو يجيب على أسئلة الحاضرين ولكن لاأحد أجاب على سؤاله "أين أهلي ؟ ماذا حل بهم؟" توسمّ في رجال الامن المروءة ليتركوه وأحنى هامته ليقبل أيديهم .. فقال أحدهم ..
-انت أيراني ..من أين لك عائلة في العراق؟
حملوه الى غرف التحقيق .. وسألوه عن علاقاته بأيران وبمن يتصل والى من أُرسل .. أسئلة لم يعرف الاجابة عليها وان كانت رعشات جسده النحيل ودموعه نطقت لتخبرهم ان لاعلاقة له بأحد سوى عائلته التي جّد للوصول اليها .. أطمأن المحققون اليه .. وأحالوا أوراقه الى الشرطة اذ أعتبروا انحالته جنائية وليست أمنية .. وبعد تحقيق بسيط حُولت أوراقه الى المحكمة التي لم يجد القاضي الا أن يحكم بسرعة عليه وهو يرد على محامي الدفاع ..
-لاأملك الاأن أحكم ..لقد أعترف بتسلّله عبر الحدود ..
-ولكن ياسيدي القاضي نرجو مراعاة الجانب الانساني ..
-لاتقل لي أهله ... سيأتون لزيارته حالما يسمعون .. لن أتساهل في حكمي عليه لكي لايكون سابقة لغيري لمثل هذه الحالات وخصوصا من أيران .. حكمنا عليه بخمس سنوات وشهر مع مراعاة مدة التوقيف .. القضية الاخرى ..
وتناقلته الايادي حتى وصل الى سجن ابي غريب قسم الاجانب .. وأستقر به المقام على سرير الى جوار باكستاني متهم بقتل صديقه .. أيام لم يغادر فيها سريره ينظر الى الباب الموصد لعله يفتح ويطل منه أبنائه .. ينظر الى السقف ويتخيلهم .. كيف هي ملامحهم الان الجنين الذي تركه في بطن أمه أهو بنت كما كان يتمنى ام صبي يضاف الى الخمسة الذين تركهم .. يالقسوة الزمن .. بل يالقسوة الناس الذين خذّلوه وقت سفّر مكرها الى أيران .. وهاهم يخذّلوه حين عاد .. لايعلم ابو حسن أن الناس بقت على حالها من الخوف والجبن .. سكتت تلك الايام فلم تنطق ألسنتها وأعموا أعينهم كي لايروا الجريمة النكراء تحل بمن يحبون من أهل وأصدقاء وجيران .. ليصمتوا .. ليعموا .. مادامت الجريمة لاتمسهم .. ومرت الجريمة ولتمر بعدها جرائم أكبر وأفظع وهم كما هم يرتعدون خوفا .. تدثروا بدثار الذل و الاستكانة والخضوع ليحموا أنفسهم .. وأنتظروا الجريمة تلو الاخرى تمر من دون أن تمسهم ..ولكن من منا لم تمسه الجريمة بطريقة او أخرى وبأي مسمى كان ... تسفير ... حرب .. أعدام .. سجن .. وأخيرا غربة لاطائل منها سوى الغربة ... نسّي ابو حسن أن من خذلّه بالامس لن ينصروه اليوم
طال انتظاره .. ومازالت عيناه شاخصة نحو الباب الذي ظل موصدا امام أماله .. وظلت عيناه دامعة .. تنطق بما يعجز اللسان عن نطقه .. لم تغمض ولم تكف عن البكاء الا حين سبّلها الباكستاني حين أكتشف موته .. ويكاد يقسم ذاك أن كفّه ترطبت وهو يسبّل عينا ابو حسن بالدموع التي كانت ملتصقة بعينه .. مات وهو يبكي وحدته .. غربته .. بعيدا عن أهله.
أيران رفضت أستلامه مدّعية أنه كان ضيفا عليها وليس مواطنا فيها .. فأضطرت أدارة السجن الى تسليمه الى أمانة بغداد لتّدفنه في مقبرتها لمجهولي الهوية .. فحمل نعشه أثنان من الاجراء .. وضعوه في الحفرة التي أعدت له مسبقا .. ودفنوه ليسدلوا الستار على حياته وأمله برؤيه أهله ..
ابناء ابو حسن فلقد تشتتوا في الاصقاع باحثين عن حياة جديدة .. هوية جديدة .. ارضٍ جديدة .. غادروا العراق وأقسموا الا يعودوا اليه مجددا مالم يحدث تغيير ما .. غادروا العراق الذي غامر أباهم بحياته ليعود اليه .
(أنتهى)
علي الكلاواي