مشهور
13/11/2006, 02:07 AM
أميّة المشاعر... أصل الحكاية!
وجه الملك عبد الله بن عبد العزيز برصد أكثر من مليار ريال لإنشاء 11 مستشفى للصحة النفسية بمختلف مناطق السعودية، طبعاً هذا الاهتمام، وهذه الإمكانات المادية الكبيرة، ولو أنها خطوة في سبيل الشعور بالأمان الاجتماعي، ولكنها لن تؤتى أكلها بالطرق التقليدية المحفوظة سلفاً. فكم من مؤسسات وهيئات تم استحداثها، ولم تقنعنا سوى بضخامة مبانيها، فكيف بالمستشفيات التي تتعامل مع أمراض النفس وإدمانها! فأن يكون المرء قادراً على سياسة نفسه ومعرفة دواخلها ومتاهات عقدها، لهي مهارة عالية تتطلب قدراً معيناً من الوعي ونبوغ المشاعر، يفتقده أغلب الناس بصرف النظر عن مستواهم الاجتماعي أو الأكاديمي. وهو ما يعني أن وجود الطبيب النفسي في حياتنا أصبح ضرورة، لا يقترن الذهاب إليه بالرفاهية، ولا يدل على جنون صاحب العلة كما تعودنا أن نوصف السقيم النفسي. ففي حين عرف القرن العشرون بعصر القلق، أطلق على القرن الواحد والعشرين «عصر الاكتئاب». وهو وباء انتشرت عدواه مع تفشي أساليب الحياة الحديثة. وكل جيل يأتي يكون عرضة أكثر من سابقه للإصابة بالاكتئاب الذي هو ليس مجرد حزن، ولكنه الإحساس بالأسى على الذات وأحياناً بضآلتها، يصاحبه يأس طاغ معوق لاستمرار الحياة. باختصار، هو عطل نفسي مساو للموت وإن لم يكن كالموت، إنه داء لا يكون دواؤه بمجرد تناول أدوية أو استعمال أجهزة حتى نألف ما فينا على علاته، ولكن في تعلم الإجراءات العملية لتنفيس المشاعر السلبية من الغضب والحقد والغيرة، في التخفيف من التوتر وقلة القيمة الذي يبدأ من عملية التفكير، في المنظور الأوسع لتقبل مفاجآت الحياة غير السارة وأولها الفشل، في الاحتفاظ بالتوازن الداخلي مع تجارب الفقدان والنكران وتحلل نسيج المجتمع وأحداث العالم الدامية. يقول تعالى: «ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين»، فالله عز وجل لم يبتل الإنسان بالمرض، ولكنه ابتلاه بأمور أخرى، تكون أهليته وقدرته على التحمل من عدمه هي الفيصل له بين الصحة والمرض. فسيدنا أيوب عليه السلام امتحن بالحرمان من المال والولد أولاً، ونتيجة لفجعته في تلقي حكم القدر أصيب بالمرض لاحقاً الذي اختار أن يصبر عليه حتى ردت عليه بضاعته. فنحن من نتحكم بالمرض من خلال تكيّفنا مع أقدارنا بشرها قبل خيرها، ولكي نتدرب على المرونة في التحايل على ما يلم بنا، كثيراً ما نحتاج إلى أذن صاغية، ولسان حكيم يحكي لنا عن علم ومحايدة. وبما أن المرء قد وجهته دروس الحياة أن يكون حريصاً في استيداع ثقته، فلا يكون أمامه أفضل من الطبيب النفسي يبثه شكواه. وهنا يكون السؤال: هل سيأخذ في الحسبان سلوك هكذا طريق استرسالي في فهم الأحاسيس الذاتية والمصارحة النفسية بين الطبيب ومريضه عند تأسيس تلك المستشفيات المعنية! إن التطبيق العلمي ولكن الطويل الذي يتناسب والاعتلال النفسي والأخلاقي في مثل هذا الزمن الصعب، ثم المتابعة والضمير الحي لتفادي تكرار الخروقات والممارسات غير المهنية أو الإنسانية، هو المغزى من وجود مثل تلكم المباني، وليس في استعراض وجودها على أرضنا.
من يحصر الذكاء بالمنحة الفطرية وقدرات المولود التي لا تتغير بخبرات الحياة، يتجاهل بتضييقه هذا ما يمكن القيام به لتحسين مستقبل أبنائنا، ويتغافل عن مناقشة العوامل التي تجعل بعض أصحاب معدلات الذكاء المرتفع يتعثرون في مشوارهم، بينما يحقق الآخرون بالرغم من ذكائهم المتواضع النجاحات المتتالية!! إن المسألة وبصراحة، تكمن في المهارات الأخرى المساعدة في مواجهة الحياة، والتي هي في حجم التحكم بالذات، بامتلاك توقيت اندفاعها ودفعها، والبلاغة في قراءة مشاعر الآخرين وشخصياتهم للإمساك جيداً بحبال التواصل معهم وكيفية تحريكها. بعبارة أخرى: «ذكاء المشاعر» الذي كان أول من عبّر عنه عالم النفس والصحافي دانيال جولمان في «النيويورك تايمز» في أوائل التسعينات، أي إضافة الإدراك إلى عالم المشاعر الذي يكشف لنا عن عاداتنا الانفعالية التي كثيراً ما تعوق أفضل المزايا لدينا، وبالتالي ما نفعله لنتحكم في ردود أفعالنا المدمرة أو الخادعة للذات. فالعجز في ذكاء المشاعر إنما يؤدي إلى ارتفاع التعرض لمجموعة من المخاطر بدءاً بالاكتئاب مروراً بالعنف وانتهاء بالانحراف وتناول الخمور والمخدرات. وقد أخذت بعض مدارس الغرب الرائدة في تعليم أطفالها المهارات الانفعالية والاجتماعية لتكوين أساس قوي لبنيتهم النفسية، يحافظ على استقرارهم في حياتهم. فمن القصور أن نترك تربية مشاعر أبنائنا للصدفة تلعب بهم كيفما تشاء، إذ ينبغي على المدرسة إعادة تقييم دورها بالجمع بين القلب والعقل وبين التلقين والممارسة في تعليم النشء الذي نراهن عليه. فإلى جانب الإعلانات والبرامج التي تحذر من مخاطر الإدمان، ليكن هناك اتفاق تعاوني بين المدارس والمستشفيات النفسية مع بعض المتطوعين من أصحاب الإدمان السابقين في التحدث مباشرة عن تجربتهم القاسية مع الإدمان أمام الطلاب. ذلك أن الأميّة اليوم لا تعني عدم القدرة على الحساب أو القراءة، ولكنها الأميّة في ثقافة المشاعر. وبالرغم من حقيقة موروثنا الجيني الذي يمدنا بسلسلة من الاستعدادات الانفعالية التي تحدد أمزجتنا، إلا أنه قد ثبت علمياً أيضاً أن الدوائر العصبية المشاركة، هي من المرونة بدرجة لا تجعل هذا المزاج محتوماً إنما يمكن تعديله.
رضينا بأنه لم يعد في طاقتنا استيعاب الاختلاف مع الآخرين، توهمنا بأن غيرنا مصدر تهديد لنا، ولنقفز لإدانته قبل أن يبادر هو، قبلنا ألا يكفينا ما قدّر لنا من رزق، حتى استسهلنا الطلاق، وجمحنا إلى الاقتتال، والبحث عن المال بشتى السبل وأسرعها، فإذا بنا ننتهي بالخواء المعنوي يحاصرنا في كل زاوية، وبنفاذ مخزوننا من البدائل والخيارات التي تعيدنا إلى السلم والحياة المطمئنة!
جملة أخيرة: الحل يكمن في كلمتين: «امتلك نفسك».
وجه الملك عبد الله بن عبد العزيز برصد أكثر من مليار ريال لإنشاء 11 مستشفى للصحة النفسية بمختلف مناطق السعودية، طبعاً هذا الاهتمام، وهذه الإمكانات المادية الكبيرة، ولو أنها خطوة في سبيل الشعور بالأمان الاجتماعي، ولكنها لن تؤتى أكلها بالطرق التقليدية المحفوظة سلفاً. فكم من مؤسسات وهيئات تم استحداثها، ولم تقنعنا سوى بضخامة مبانيها، فكيف بالمستشفيات التي تتعامل مع أمراض النفس وإدمانها! فأن يكون المرء قادراً على سياسة نفسه ومعرفة دواخلها ومتاهات عقدها، لهي مهارة عالية تتطلب قدراً معيناً من الوعي ونبوغ المشاعر، يفتقده أغلب الناس بصرف النظر عن مستواهم الاجتماعي أو الأكاديمي. وهو ما يعني أن وجود الطبيب النفسي في حياتنا أصبح ضرورة، لا يقترن الذهاب إليه بالرفاهية، ولا يدل على جنون صاحب العلة كما تعودنا أن نوصف السقيم النفسي. ففي حين عرف القرن العشرون بعصر القلق، أطلق على القرن الواحد والعشرين «عصر الاكتئاب». وهو وباء انتشرت عدواه مع تفشي أساليب الحياة الحديثة. وكل جيل يأتي يكون عرضة أكثر من سابقه للإصابة بالاكتئاب الذي هو ليس مجرد حزن، ولكنه الإحساس بالأسى على الذات وأحياناً بضآلتها، يصاحبه يأس طاغ معوق لاستمرار الحياة. باختصار، هو عطل نفسي مساو للموت وإن لم يكن كالموت، إنه داء لا يكون دواؤه بمجرد تناول أدوية أو استعمال أجهزة حتى نألف ما فينا على علاته، ولكن في تعلم الإجراءات العملية لتنفيس المشاعر السلبية من الغضب والحقد والغيرة، في التخفيف من التوتر وقلة القيمة الذي يبدأ من عملية التفكير، في المنظور الأوسع لتقبل مفاجآت الحياة غير السارة وأولها الفشل، في الاحتفاظ بالتوازن الداخلي مع تجارب الفقدان والنكران وتحلل نسيج المجتمع وأحداث العالم الدامية. يقول تعالى: «ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين»، فالله عز وجل لم يبتل الإنسان بالمرض، ولكنه ابتلاه بأمور أخرى، تكون أهليته وقدرته على التحمل من عدمه هي الفيصل له بين الصحة والمرض. فسيدنا أيوب عليه السلام امتحن بالحرمان من المال والولد أولاً، ونتيجة لفجعته في تلقي حكم القدر أصيب بالمرض لاحقاً الذي اختار أن يصبر عليه حتى ردت عليه بضاعته. فنحن من نتحكم بالمرض من خلال تكيّفنا مع أقدارنا بشرها قبل خيرها، ولكي نتدرب على المرونة في التحايل على ما يلم بنا، كثيراً ما نحتاج إلى أذن صاغية، ولسان حكيم يحكي لنا عن علم ومحايدة. وبما أن المرء قد وجهته دروس الحياة أن يكون حريصاً في استيداع ثقته، فلا يكون أمامه أفضل من الطبيب النفسي يبثه شكواه. وهنا يكون السؤال: هل سيأخذ في الحسبان سلوك هكذا طريق استرسالي في فهم الأحاسيس الذاتية والمصارحة النفسية بين الطبيب ومريضه عند تأسيس تلك المستشفيات المعنية! إن التطبيق العلمي ولكن الطويل الذي يتناسب والاعتلال النفسي والأخلاقي في مثل هذا الزمن الصعب، ثم المتابعة والضمير الحي لتفادي تكرار الخروقات والممارسات غير المهنية أو الإنسانية، هو المغزى من وجود مثل تلكم المباني، وليس في استعراض وجودها على أرضنا.
من يحصر الذكاء بالمنحة الفطرية وقدرات المولود التي لا تتغير بخبرات الحياة، يتجاهل بتضييقه هذا ما يمكن القيام به لتحسين مستقبل أبنائنا، ويتغافل عن مناقشة العوامل التي تجعل بعض أصحاب معدلات الذكاء المرتفع يتعثرون في مشوارهم، بينما يحقق الآخرون بالرغم من ذكائهم المتواضع النجاحات المتتالية!! إن المسألة وبصراحة، تكمن في المهارات الأخرى المساعدة في مواجهة الحياة، والتي هي في حجم التحكم بالذات، بامتلاك توقيت اندفاعها ودفعها، والبلاغة في قراءة مشاعر الآخرين وشخصياتهم للإمساك جيداً بحبال التواصل معهم وكيفية تحريكها. بعبارة أخرى: «ذكاء المشاعر» الذي كان أول من عبّر عنه عالم النفس والصحافي دانيال جولمان في «النيويورك تايمز» في أوائل التسعينات، أي إضافة الإدراك إلى عالم المشاعر الذي يكشف لنا عن عاداتنا الانفعالية التي كثيراً ما تعوق أفضل المزايا لدينا، وبالتالي ما نفعله لنتحكم في ردود أفعالنا المدمرة أو الخادعة للذات. فالعجز في ذكاء المشاعر إنما يؤدي إلى ارتفاع التعرض لمجموعة من المخاطر بدءاً بالاكتئاب مروراً بالعنف وانتهاء بالانحراف وتناول الخمور والمخدرات. وقد أخذت بعض مدارس الغرب الرائدة في تعليم أطفالها المهارات الانفعالية والاجتماعية لتكوين أساس قوي لبنيتهم النفسية، يحافظ على استقرارهم في حياتهم. فمن القصور أن نترك تربية مشاعر أبنائنا للصدفة تلعب بهم كيفما تشاء، إذ ينبغي على المدرسة إعادة تقييم دورها بالجمع بين القلب والعقل وبين التلقين والممارسة في تعليم النشء الذي نراهن عليه. فإلى جانب الإعلانات والبرامج التي تحذر من مخاطر الإدمان، ليكن هناك اتفاق تعاوني بين المدارس والمستشفيات النفسية مع بعض المتطوعين من أصحاب الإدمان السابقين في التحدث مباشرة عن تجربتهم القاسية مع الإدمان أمام الطلاب. ذلك أن الأميّة اليوم لا تعني عدم القدرة على الحساب أو القراءة، ولكنها الأميّة في ثقافة المشاعر. وبالرغم من حقيقة موروثنا الجيني الذي يمدنا بسلسلة من الاستعدادات الانفعالية التي تحدد أمزجتنا، إلا أنه قد ثبت علمياً أيضاً أن الدوائر العصبية المشاركة، هي من المرونة بدرجة لا تجعل هذا المزاج محتوماً إنما يمكن تعديله.
رضينا بأنه لم يعد في طاقتنا استيعاب الاختلاف مع الآخرين، توهمنا بأن غيرنا مصدر تهديد لنا، ولنقفز لإدانته قبل أن يبادر هو، قبلنا ألا يكفينا ما قدّر لنا من رزق، حتى استسهلنا الطلاق، وجمحنا إلى الاقتتال، والبحث عن المال بشتى السبل وأسرعها، فإذا بنا ننتهي بالخواء المعنوي يحاصرنا في كل زاوية، وبنفاذ مخزوننا من البدائل والخيارات التي تعيدنا إلى السلم والحياة المطمئنة!
جملة أخيرة: الحل يكمن في كلمتين: «امتلك نفسك».