تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : المكان الذي لا أستطيع تحديده مشعل السديري الشرق الاوسط


مشهور
13/11/2006, 02:09 AM
المكان الذي لا أستطيع تحديده

في بريد القراء كتب أحد الأخوة من (ماليزيا) ينتقدني لأنني ذكرت حادثة مرت عليّ عندما كنت جالساً في مقهى بباريس، وكأني بالقارئ الكريم يعتقد أنني ذكرت اسم (باريس) من باب (الفشخرة أو المنظرة)، ولا ادري إذا كان يصدقني أم لا يصدقني، إنني أبعد ما أكون عن ذلك، بل انه لم يخطر على بالي قط أن يلحظ أو يعتقد أي إنسان أنني بهذه العقلية أو النفسية التي ذكر ـ ولكن سامحه الله على كل حال ـ فقد كتبت عن تلك الواقعة عندما كنت فعلاً في ذلك المكان، فهل يريدني أن أزيف واخترع مكانا آخر، وكيف لي إلاّ أن اذكر المكان وكل معطيات الحدث وظروفه وملابساته وجغرافيته وناسه، كلها تشير إليه؟! ثم انه ولله الحمد لا يوجد عندي في هذه النقطة بالذات لا مركب نقص ولا عدم ثقة بالنفس، بأن احكي وأقول ما عشته وشاهدته بكل شفافية وتلقائيه، ولو أنني كنت في ماليزيا مثلاً لقلت إنني في ماليزيا، (وفيها إيه)؟!.

ومنذ كنت طفلاً في مرحلتي الابتدائية سافرت إلى خارج حدود بلادي ولا زلت إلى الآن لا يمر شهر أو شهران إلاّ وكنت عائداً أو مغادراً إلى بلاد الله الواسعة، وما أكثر ما كتبت وأنا معلق بين السماء والأرض، وأنا أنهب المحطات بالقطار، وأنا جالس على مقعدي بالمقهى أو أنا جالس بغرفتي بالفندق.. إنني أعايش الناس طويلاً، غير أنني إذا أردت أن اكتب فلا افعل ذلك إلاّ إذا كنت وحيداً.

ليس اكبر همي أن أكون في روما أو باريس أو لندن أو واشنطن أو موسكو، ولا يزيدني أو ينقص مني إن ذكرت ذلك أو لم اذكر.. ولم أسافر لكي أعبث ـ مع أن بعض العبث البريء مستحب ـ ولكنني غالباً ما سافرت، والى الآن لا أسافر إلاّ لطلب شيء من العلم أو التعلم أو لحضور مناسبات لمعارض تستحق أن تُشد لها الرحال، أو للهروب فقط لا غير.. وأحظى عندها بالمتعة قليلاً، وبغسل الفكر قليلاً، وبالضياع قليلاً، وبالأكل والشرب قليلاً، وبالسهر قليلاً، وبالطرب قليلاً، وبالنوم قليلاً، وبزيارة المتاحف قليلاً، وفي النبش برفوف المكتبات قليلاً، وبالمقارنات قليلاً، وبالنقد قليلاً، وبالأحلام قليلاً، وبالآلام كذلك قليلاً.

ولو أنني وزعت هذه (القليلات) كلها على (24) ساعة فماذا يتبقى لي لكي أكون (ساذجاً ومغروراً).

إن أسفاري لم تتوقف على المدن والعواصم، كما أنها ليست هي التي تستأثر بغرامي لكي افخر بها، فرحلة صحراوية قد أسف بها التراب والعجاج أحياناً لهي عندي أروع من ساعات اقضيها في غابة (بولونيا) أو في حديقة (الهايدبارك) أو في (فيلا بورغيزي).

وان إطلالتي على قمة من قمم جبال (السروات) تبيع كل جبال (الألب) ومعها جبال (روكي) ومن فيها وان توغلي في قرى الحجارة والطين في بعض الأرياف تأسرني وتشدني أكثر من جمالات الأكواخ على سفوح التلال السندسية في النمسا.

أقول كلامي هذا لا من باب (الاستعراض والتظاهر) كذلك، ولكنه (قول على فعل).

فالأيام بقدر ما عركتني عركتها أنا كذلك، والأرض بقدر ما دوختني دوختها حسب استطاعتي كذلك.. ولن أتوقف عن اللف والدوران، والمكان الوحيد الذي لم استطع تحديد موقعه مع الأسف حتى الآن هو المكان الذي سوف أقبر أو اغرق فيه وأنا (غير مرتاح البال).