تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : دعوة إلى تأسيس شركات للقروض المتناهية الصغر


صقر الجنوب
26/11/2006, 12:36 PM
دعوة إلى تأسيس شركات للقروض المتناهية الصغر
http://www.aleqt.com/nwspic/53154.jpg
- "الاقتصادية" من الرياض - 06/11/1427هـ
طرح رجل الأعمال السعودي المهندس محمد عبد اللطيف جميل، برنامجا لمعالجة الفقر في السعودية يستشرف تجربة البنجالي محمد يونس الذي حاز جائزة نوبل للسلام هذا العام نظير جهوده في مكافحة الفقر في بلاده من خلال بنك جرامين.
ويتلخص برنامج جميل في تكوين شركات ذات مسؤولية محدودة في جميع الغرف التجارية في المملكة تحت اسم "وحدات الإقراض المتناهية الصغر" بين الغرف ورجال أعمال ويتولى إدارة كل شركة في كل غرفة تجارية مدير مسؤول قادر على الإنجاز المتميز. ويتضمن البرنامج إجراء مسح اجتماعي مبدئي محلي يبين عدد الأسر التي تنطبق عليها معايير القروض المتناهية الصغر.


في مايلي مزيداً من التفاصيل:


بادرت "الاقتصادية" بنشر هذه المحاضرة في عام 2004 إيمانا منها بالدور الكبير الذي تلعبه القروض المتناهية الصغر في التخفيف من حدة الفقر على المستوى العالمي خصوصا في الدول النامية، وتعيد نشرها اليوم بعد حصول المحاضر البروفيسور محمد يونس على جائزة نوبل للسلام لعام 2006. وقد كان برنامج عبد اللطيف جميل للأسر المنتجة سباقا في تبني هذا النوع من القروض منذ عام 2004، إذ استفاد منها حتى هذا الوقت أكثر من ثمانية آلاف امرأة في جميع أنحاء المملكة.


مقدمة
المعركة ضد الفقر قديمة قدم الإنسان عميقة عمق ما يكتنفه من آلام وآمال، وأحزان وأفراح، وأشواق وتطلعات، وهي معركة لا تهدأ إلا لتبدأ من جديد لأنها من الإنسان وإليه، ولا تقتصر على الفقير وحده بل هي تمس المجتمع بأسره بما فيه من مشاعر وعواطف، ومبادئ ومواقف، وعلاقات تعاون وعداوة.
ليس غريباً أن يكون من بين دعاء الرسول، صلى الله عليه وسلم، قوله: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر" فكأنه يؤاخي بين الكفر والفقر لأن الفقر قد ينسي الإنسان ربه سبحانه ويعطله عن واجباته ويصرفه عن شؤون كبيرة في حياته، وليس غريباً أيضاً أن يقول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"، تحذيراً من أخطاره وتنبيهاً إلى ما يجره على الأفراد والمجتمعات من بلاء، وما يسببه من تفرق وتمزق.
وحين نبحث في الآية الكريمة التي بينت مصارف الزكاة في الإسلام نجد أنها بدأت بنصيب الفقراء ضمن ثمانية أنواع من المصارف الزكوية المختلفة، وفتحت الباب واسعاً بعد ذلك للاهتمام بالفقير إما من الصدقات وإما من النذور وإما من الكفارات وفي ذلك من الحكمة ما يدفع كل ذي قلب رحيم ووجدان رفيق إلى أن يأخذ العظة والعبرة ويسعى إلى مواساة كل فقير بما استطاع وبما يستطيع.
وأفضل المواساة ليست في سد جوعته فقط أو ستر عورته فقط، بل لا بد من كسر أغلال الفقر من حوله وإخراجه منها حراً طليقاً يتحرك في إطار الحياة الرحب وينتشر في رحاب الإنتاجية الضاربة في الآفاق.
إن المطلوب هو إيجاد برامج وسياسات وأعمال تجعل الفقير منفقاً على نفسه وأسرته وأعضاء مجتمعه وهو خير من يحسن القيام بذلك لأنه عاش الحرمان وذاق مرارته وعانى البؤس وتجرع مذلته والشاعر يقول:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعـــانيها

ومن أعماق بنجلادش ومن بين أفقر المجتمعات على وجه البسيطة نشأت تجربة فريدة شدت إليها الأنظار وأقامت عندها الباحثين وحظيت باهتمام علماء الاقتصاد والاجتماع والسكان والأسرة والمجتمع حتى غدا اسمها معلماً من معالم القرن العشرين تلك هي تجربة "بنك جرامين" أو بنك القرويين، كما يحلو للبعض أن يسميها، وكانت تجربة قائدها وبطلها الدكتور محمد يونس مثار اهتمام ومناط إعجاب جعلته يطمح إلى المزيد في القرن الحادي والعشرين فيرتقي بتطلعاته إلى دعوة المجتمع الدولي إلى السعي نحو أفق أعلى في القضاء على الفقر بتقليص عدد الفقراء إلى النصف بحلول عام 2015م أي إخراج 500 مليون فقير من دائرة الفقر إلى دائرة العمل والإنتاج وكانت تلك محاضرته في معهد دول الكمنولث في لندن في آذار (مارس) 2003م ولأهميتها أو كثير منها في تأسيس برامج ناجحة رأيت أن أشارك القراء بترجمتها كاملة واستعراضها والبحث في برامج تبنى عليها.
* محمد عبد اللطيف جميل


خفض مستوى الفقر في العالم إلى النصف بحلول عام 2015م.. نستطيع تحقيق ذلك فعلا .. بإذن الله

أتشرف بدعوتكم لي لإلقاء هذه المحاضرة، التي توفر لي فرصة عظيمة انتهزها لأضع بين أيديكم خبراتي وتساؤلاتي وإحباطاتي وأفكاري لنبحثها معا (آملا اتخاذ ما بوسعكم حيالها إذا كانت مقنعة ومجدية وإن كانت غير ذلك فلن أخبركم بما يجب عليكم فعله كونكم جميعا خبراء في هذا المجال).
لقد اخترت الحديث حول هذا الموضوع "خفض مستوى الفقر إلى النصف بحلول عام 2015م" الذي هو الأهم والأكثر حساسية بين أهداف التطوير لهذه الألفية لسببين:
أولا: إنه يمثل الموضوع الأكثر جرأة الذي تحدده البشرية لنفسها. إنني أتحدث على مدى العامين الماضيين عن عالم خالٍ من الفقر، وذلك ليس لأنه من غير الإنصاف أن يكون العالم فقيرا - بالرغم من أن ذلك صحيح - ولكن ببساطة لأنني مقتنع تماما ومن خلال تجربتي في العمل مع الفقراء أنهم يستطيعون التخلص من فقرهم لو أننا أعطيناهم نفس الفرص التي نعطيها للآخرين أو فرصاً مماثلة لها. فالفقراء أنفسهم يستطيعون إيجاد عالم خال من الفقر وكل ما علينا عمله أن نحررهم من القيود التي أحطناهم بها.
ثانيا: شعوري المتزايد يوميا بأن القليل من الناس جاد فعلا في عملية خفض الفقر إلى النصف بحلول عام 2015م. فقد عاد القادة الذين أعلنوا هذه المبادرة الجريئة إلى التزاماتهم المهمة الأخرى وهم يشعرون بالسعادة لأنهم حازوا إعجاب العالم، وبما أن القرار قد اتخذ على أعلى المستويات فقد توقعوا أن التنفيذ سيأتي تلقائياً بعد ذلك وأنه سيتم تفعيل آلية منسقة ومؤثرة للقيام بالعمل المطلوب. ولكن لسوء الحظ لم يتم إنجاز أي عمل حتى الآن باستثناء عمل موظفي وكالة التبرع والنشاط الاستشاري المتحمسين، الذين مازالوا يحملون هذا الهم. وهذا يذكرنا بعقد التسعينيات حين وضعت أهداف العالم على شكل شعارات مثل "الصحة للجميع بحلول عام 2000" و"التعليم للجميع بحلول عام 2000". وهذا مصدر قلقي أن تصبح هذه الأهداف الجريئة مجرد نسخ معدلة لتلك الشعارات وذلك بمجرد استبدال عام "2000" بعام "2015" مع إجراء التعديلات المناسبة على النص.
أرجو المعذرة إن كنت أبدو متشائما جداً وأؤكد لكم بأنني سأبقى ملتزما بالتفاؤل بالرغم من جميع الإشارات السلبية التي أراها آملا أن تتغير إلى الأفضل.
إنني متفائل لأنني مقتنع بأن الفقر ليس موضوعاً مستحيلاً كما يحذرنا الخبراء، فهذا الموضوع لا يتحدث عن علم الفضاء أو عن تصميم صعب لآلة معقدة، إنه يتحدث عن البشر. ولا أرى إمكانية أن يصبح الإنسان "مشكلة" عندما يتعلق الأمر بسعادته ورفاهيته سواء كان ذكراً أو أنثى، إذ إن جميع المتطلبات اللازمة لإنهاء فقر الإنسان تولد مع الإنسان ذاته، كما أن الإنسان يولد كامل الإعداد ليس فقط ليهتم بنفسه (وهي المهمة التي يمارسها كل كائن حي) بل ليسهم أيضا في زيادة سعادة ورفاه العالم ككل (وهنا يكمن الدور الخاص للإنسان). ولماذا يجب أن يعاني أكثر من مليار إنسان على وجه الأرض خلال حياتهم من البؤس والهوان ويقضون حياتهم في البحث فقط عن لقمة العيش وإنقاذ البدن من الهلاك؟ يجب علينا أن نجد التفسيرات الضرورية حيـث إن ذلك سوف يسـاعدنا على تحقـيق الهدف بحلول عام 2015م .
الفقر ليس من صنع الفقراء

الفقر ليس من صنع الفقراء ويجب ألا نرمقهم بنظرات الاتهام لأنهم ضحايا الفقر. وتفسير ذلك أن الفقر هو نتيجة النظامين الاقتصادي والاجتماعي اللذين صممناهما للعالم. فالمؤسسات التي بنيناها ونفتخر بها هي سبب الفقر وكذلك فإن المفاهيم التي طورناها لنفهم من خلالها حقيقة ما حولنا هي التي جعلتنا نرى الأشياء بصورة خاطئة، مما جعلنا نهوي إلى الطريق الخطأ وسببت البؤس للبشر، حيث أدت سياساتنا التي نتجت عن تفكيرنا والأطر الفنية التي نفسر من خلالها التفاعل بين البشر والمؤسسات إلى مشكلات عديدة. فكان الفشل على مستوى القمة - وليس النقص في القدرة على مستوى الطبقة الدنيا - هو السبب الأساسي للفقر.
إن جوهر نقاشي هنا اليوم هو أننا وحتى نستطيع تقليص الفقر ومن ثم القضاء عليه في نهاية المطاف يجب علينا العودة إلى أساس المشكلة حيث إن المفاهيم والمؤسسات والشروط الهيكلية التحليلية، التي أوجدت الفقر لا تستطيع القضاء عليه بشكلها الحالي ومتى استطعنا إصلاح وتنقيح هذه الشروط الهيكلية فسوف ينتهي الفقر ويذهب إلى غير رجعة.
من خلال هذا العرض أود أن ألفت عنايتكم الكريمة إلى خمس قضايا يجب الرجوع إليها بشكل عاجل:
1) توسيع مفهوم التوظيف / العمل.
2) ضمان الخدمات المالية حتى لأشد الأشخاص فقراً.
3) الاعتراف بأن كل إنسان هو متعهد / مقاول محتمل.
4)الاعتراف بالمتعهدين/ المقاولين الاجتماعيين على أنهم وكلاء محتملون للوصول إلى عالم ينعم بالسلام والانسجام والتقدم.
5) الاعتراف بدور العولمة وتقنية المعلومات في تقليص الفقر.

دعوني أذكر لكم بالتفصيل مواجهتي لهذه القضايا وتأثيرها فيّ، لقد أصبحت طرفاً في موضوع الفقر ليس كباحث أو مقرر سياسات ولكن لأني وجدت نفسي محاطا به وليس بوسعي ألا تقع عليه عيني، ففي عام 1974 وجدت من الصعب تدريس نظريات الاقتصاد الرائعة في الفصول الدراسية على خلفية المجاعة الفظيعة التي حلت في بنغلادش مما جعلني أشعر بفراغ هذه النظريات وعدم جدواها في مواجهة الجوع الطاحن والفقر. ورغبت في أن أفعل شيئاً وبشكل فوري لمساعدة الناس حولي، ودون أن أعرف ماذا سأفعل قررت أن أجد طريقة تجعلني نافعا للناس وعلى أساس فردي أي خدمة شخص واحد في كل حالة. كما رغبت في أن أجد أمراً معيناً أقوم به لمساعدة شخص آخر بحيث يمر يوم آخر بشكل أفضل من اليوم السابق، مما قادني إلى موضوع سعي الفقراء الحثيث وعدم قدرتهم على الحصول على مبالغ بسيطة جدا من المال لمساعدتهم على تدبير معيشتهم إذ صدمت عندما اكتشفت أن امرأة اقترضت ربع دولار بشرط أن يكون للشخص الذي أقرضها الحق الحصري في شراء ما تنتجه وبالسعر الذي يحدده هو، فانظروا لهذه الطريقة للاستعباد من خلال العمل. عندها قررت أن أضع قائمة بضحايا هذا النوع من المقرضين في القرية المجاورة لحرم الجامعة حيث بلغ عددهم 42 ضحية وكان إجمالي المبلغ الذي اقترضوه 42 دولاراً فقط. ما هذا الدرس لأستاذ الاقتصاد الذي كان يدرس تلاميذه خطة التنمية الخمسية للبلاد والتي تخصص مليارات الدولارات لاستثمارها في مساعدة الفقراء ولم يخطر ببالي أفضل من أن أسدد هذا المبلغ من جيبي الخاص لتحرير هؤلاء الضحايا من براثن المقرضين. وكان من شأن الإثارة الناجمة عن هذا العمل أن دفعتني للمشاركة أكثر في هذا الوضع وكان السؤال الذي يدور في ذهني هو، إذا كنت تستطيع إسعاد الكثير من البشر بهذا القليل من المال فلماذا لا تعمل أكثر؟
من ذلك الحين وأنا أحاول تكرار الشيء ذاته حيث كان أول شيء قمت به هو التوسط بين البنك الموجود داخل الحرم الجامعي وبين الفقراء ولكن لم تنجح المحاولة لأن البنك كان يرى أن الفقراء ليس لهم قدرة على السداد وبالتالي لا مصداقية لهم، وبعد محاولاتي الفاشلة لعدة شهور عرضت أن أكون ضامنا لقروضهم ودهشت بالنتيجة حيث كان الفقراء يسددون قروضهم في كل مرة، ولكن استمرت مواجهة المشكلات مع محاولة توسيع البرنامج من خلال البنوك المحلية. وبعد عدة سنوات قررت تأسيس بنك مستقل للفقراء لتقديم قروض دون ضمان إضافي وقد تحقق ذلك في عام 1993م وأطلقت عليه اسم بنك جرامين أو بنك القرية وهو يعمل الآن في أنحاء بنجلادش كافة ويعطي قروضا لمليونين ونصف المليون من الفقراء منهم 95 في المائة من النساء. والبنك يملكه المقترضون ويبلغ مجموع ما قدمه من قروض نحو 3.75 مليار دولار وبلغت نسبة السداد 98 في المائة ويحقق ربحية وأصبح يعتمد من الناحية المالية على نفسه وتوقف عن قبول التبرعات منذ عام 1995 وتوقف عن أخذ القروض من السوق المحلية منذ عام 1998م وأصبحت لديه ودائع تكفي لتنفيذ برنامجه الإقراضي، كما يمول البنك قروضا لمشاريع تنمية الدخل والإسكان والدراسة لأبناء العائلات الفقيرة، حيث تم بناء أكثر من نصف مليون مسكن بتمويل من بنك جرامين وأظهرت الدراسات المستقلة بخصوص تأثير هذا البنك في المقترضين أن 5 في المائة من المقترضين من البنك يخرجون من دائرة الفقر سنوياً وأن الأطفال أصبحوا أكثر صحة وارتفع مستوى التعليم والتغذية وصارت ظروف السكن أفضل وتراجعت وفيات الأطفال بنسبة 37 في المائة وتحسنت مكانة المرأة وزادت ملكية المرأة الفقيرة للأصول الثابتة بشكل كبير، ولكن السؤال الذي قد يطرحه أي شخص الآن هو: إذا كان بإمكان الفقراء تحقيق كل هذا من خلال جهودهم الخاصة داخل بيئة السوق فلماذا لا يعمل العالم الكثير في هذا المجال؟ لقد تم تحقيق بعض التقدم بالرغم من أنه كان يمكن تحقيق الكثير لكن الصعوبات كانت تكمن في الخلط والتشويش.
أصبح أسلوب "جرامين" المصرفي يعرف بأسلوب "تقديم القروض الصغيرة" ولكن بالتدريج دخل عنوان "القروض الصغيرة" في الاستعمال العام ليشمل جميع القروض الصغيرة والتي تشمل القروض الزراعية والتعاونية وقروض بنك التوفير والقروض الريفية .. إلخ. مما أدى إلى تشويش وخلط في مجال تحديد السياسات وبناء المؤسسات وتصميم أطر العمل التنظيمية لكن إذا قمنا بتصنيف القروض الصغيرة ضمن فئات مختلفة لتمييزها فأعتقد أن بإمكاننا الخروج من هذا التشويش. (أعتقد أن بالإمكان تفادي هذا الخلط إلى حد ما لو أننا أطلقنا عليها اسم "رأس المال المتناهي الصغر" حيث إنها فعلا كذلك والمصطلح الذي أطلقته عليها باللغة البنغالية "رأس المال المتناهي أو الصغير" ترجمته الإنجليزية micro-capital أي "رأس المال المتناهي الصغر").
لقد انتشر أسلوب "جرامين" "للقروض المتناهية الصغر" في أنحاء العالم كافة على مدى العقدين الماضيين، والآن هنالك نحو 100 بلد في العالم لديها برامج قروض "متناهية الصغر" على غرار قروض بنك جرامين وقد عقد في عام 1997م مؤتمر القروض "المتناهية الصغر" في واشنطن دي سي والذي تبنى هدف الوصول بحلول عام 2005 إلى 100 مليون عائلة من العائلات الأفقر في العالم من خلال القروض "متناهية الصغر" والخدمات المالية المختلفة والتي يفضل تقديمها من خلال النساء في هذه العائلات حين كان عدد العائلات التي استفادت آنذاك من القروض "متناهية الصغر" في أنحاء العالم كافة 7.5 مليون عائلة فقط، منها خمسة ملايين عائلة في بنجلادش، أما اليوم فإنني أتوقع أن الرقم تـجاوز 35 مليـون عائلـة وآمـل أن يصـل إلى 50 مليونا في نهاية هذا العام (2003).
غير أن المشكلة الأكبر لتحقيق الانتشار لا تتمثل في نقص القدرة بل في قلة الأموال المتبرع بها للمساعدة في تقديم القروض متناهية الصغر خلال السنوات الأولى وإلى حين الوصول إلى مستوى تغطية النفقات حيث إن هذه البرامج وبعد الوصول إلى هذا الحد تستطيع الوصول إلى مداها من خلال الاقتراض من السوق أو من خلال الودائع. إذ إن معظم البلدان لا تسمح للمؤسسات غير الحكومية التي تقدم القروض متناهية الصغر بالحصول على ودائع من الجهات المنظمة ولو سمح لهذه المؤسسات بقبول الودائع العامة فإن التوسع والوصول إلى المدى المطلوب سيتم بشكل سريع، لأن ذلك يحررها من الاعتماد على أموال المتبرعين، إنها لظاهرة غريبة في العديد من البلدان أن تسمح للبنوك التقليدية التي لا تزيد فيها نسبة استرداد الديون عن 70 في المائة بالحصول على مبالغ ضخمة من الودائع العامة سنة بعد سنة في حين لا تسمح لمؤسسات القروض الصغيرة والتي تحقق نسبة استرداد تزيد عن 98 في المائة بقبول الودائع العامة حيث غالباً ما يقولون إنه طالما أن برامج القروض الصغيرة لا تخضع لأي قانون فإن من المخاطر الكبيرة السماح لها بقبول الودائع. ويبدو لي هذا أمراً مضحكا. فلماذا لا نضع قانوناً تخضع بموجبه هذه البرامج للتغطية القانونية ونشكل هيئة تنظيمية خاصة بها ومن ثم نسمح لها بقبول الودائع العامة؟ لأن هذا القانون سيتيح للودائع المحلية في كل قرية المساعدة في خدمة فقراء القرية بدلا من ذهابها إلى المدن الكبيرة لتمويل المشاريع الكبيرة، وهذا هو الشق المحبط من خبرتنا حيث يشعر الواحد منا وكأنه يرسل ذراعيه في الهواء ويصرخ محتجا.

التوظيف الذاتي (العمل الحر) هو الطريقة الأسرع

الخطوة الأهم للقضاء على الفقر تتمثل في توفير فرص العمل والدخل للفقراء غير أن الاقتصاد التقليدي لا يعترف إلا بالتوظيف مقابل راتب ولا مكان فيه للتوظيف الذاتي الذي يمثل الطريقة الأسرع والأسهل لإيجاد العمل للفقراء ومن ثم فإنني أطالب بقبول الاقتراض كحق من حقوق الإنسان لأن ذلك مهم جدا للشخص الذي يبحث عن الدخل، كما أن القرض يؤمن عملاً ذاتياً فورياً بدلاً من انتظار الآخرين حتى يجدوا له وظيفة في الوقت الذي يستطيع هو فيه أن يجد لنفسه العمل، وهذا الأمر ملائم بشكلٍ أكبر للمرأة التي لا ترغب في العمل خارج بيتها ولربما كنا متأثرين جداً بالاقتصاد التقليدي متناسين أن أجدادنا لم يكونوا ينتظرون أحداً آخر ليجد لهم عملا، فقد كانوا يمضون وبشكل روتيني ليجدوا عملاً ويحققوا دخلاً. فكانوا بذلك محظوظين لأنه لم يكن يتعين عليهم دراسة وتعلم النظريات الاقتصادية ولينتهي بهم الأمر إلى أن الطريق الوحيد لكسب عيشهم هو إيجاد وظيفة في سوق العمل وإن لم تتوافر هذه الوظيفة فستهيم على وجهك في الشوارع.
في دول العالم الثالث لن تجد عملا حتى وإن طفت كل شارع بحثاً عن العمل، ولذلك فإن الفقراء يجتهدون في إيجاد العمل الخاص بهم، وحيث إن مقررات كتب الاقتصاد الدراسية لم تعترف بهم بالحديث عنهم فلا توجد أي مؤسسات أو سياسات مساندة لهم ولهذا السبب يزدهر نشاط مقرضي الأموال، وهو نشاط عمره عمر النقد ذاته حيث قرأنا عن جشع مقرضي الأموال في كتبنا الدينية ونحن ندينهم كجزء من واجبنا الديني، كما إننا قرأنا القصة الكلاسيكية حين يكون سداد الدين رطلاً من لحم المدين وأفزعتنا تلك القصة إلا أننا لم نفعل شيئاً حيالها من حيث معالجة هذه المشكلة ولكننا بدأنا نتلمس حلاً في رأيي ـ منذ ظهر بنك جرامين.
وبالرغم من أننا سمعنا الكثير عن انتشار القروض الصغيرة حول العالم وعن نسبة السداد التي تزيد على 98 في المائة وعن الفقراء الذين خرجوا من دائرة الفقر نتيجة القروض متناهية الصغر وعن دور المرأة المؤثر إلا أن كل هذه الأمور لم تؤثر في البنوك التقليدية فهي ما زالت تطبق السياسات المصرفية القديمة نفسها التي كانت تعمل بها منذ بداية عملها وكأنه لم تحدث تطورات جديدة في العالم ومن المحتمل أنهم ما يزالون يتذرعون بمقولة أن الفقراء ليس لهم قدرة على السداد وبالتالي لا مصداقية لهم.

إنه لعالم غريب!

(إن الخطوة الأولى للقضاء على الفقر هي التأكد من تقديمنا الخدمات المالية للفقراء بحيث لا يرفض أي بنك إقراض أي شخص بحجة أنه شخص فقير).

كل شخص بمثابة متعهد / مقاول محتمل
كان تصميمنا للأطر النظرية للاقتصاد وتشوهاته مسؤولاً وبشكل مهم عن إطالة أمد الفقر حيث إن مفهوم أو فكرة أن كل فرد "إنسان" ما هو الا مجرد "عمل" أخذ ببقية النظرية إلى المسار الخاطئ. كما أن الدور المحدد للإنسان في النظرية ليس بالشيء الذي يقبله الإنسان الذي يحترم نفسه حيث إن النظرية الاقتصادية بشكلها المبسط تصور البشر على أنهم مجرد مستخدمين وأنهم مولودون لتلقي الأوامر من مجموعة صغيرة ذات صفة خاصة جدا من البشر يعرفون "بالمقاولين" وهؤلاء هم وحدهم القادرون على التفكير والتنظيم والعمل بينما جميع البشر الآخرون وببساطة يشغلون الشواغر التي يوجدها أولئك المفكرون والقادة. ويظل مستوى سعادة ورفاه البشر العاملين يعتمد على مستوى رواتبهم .
بعد إيجاد عالم تتم عمارته بالبشر العاملين غير المهتمين حينئذ تنشغل النظرية الاقتصادية بالبشر المهتمين، أي المتعهدين / المقاولين لأنهم هم الذين يحركون الاقتصاد، وإذا أخذنا الإشارة أو الدليل من النظرية فإن المؤسسات القوية والفعالة قد بنيت أو أعيد بناؤها وطورت وإن نظم المعلومات قد أوجدت وأن النظم القانونية المفصلة قد طورت، وأن السياسات والإرشادات قد وضعت، وأن الأبحاث أجريت فقط لتضمن أن محركي الاقتصاد يتهيأ لهم الظرف المناسب للمضي في الاتجاه الذي يرغبون الذهاب إليه وأنهم قادرون على الاستفادة من كل ذرة من مواهبهم دون عائق.
حاول هنا أن تتخيل كيف كان الاقتصاديون سيبنون نظرياتهم لو أنهم انطلقوا من بدهية أن الرجال والنساء خلقوا متساوين وأن كلاً منهم قد وهبه الله قدرة غير محدودة على الإبداع وإن كلاً منهم بمثابة متعهد / مقاول محتمل، إنني متأكد من أنكم تتفقون معي على منطلقي هذا وبأنهم (أي الاقتصاديون) كانوا سيؤسسون نظرية اقتصادية مختلفة وأننا كنا قد وصلنا من ثم إلى عالم مختلف وبالتأكيد أفضل بكثير مما نحن فيه نتيجة لهذا التكييف.
إن القضاء على الفقر سيظل عملا عسيرا ما لم نؤسس تفكيراً اقتصادياً جديداً ونتخلص من الانحياز في مفاهيمنا ومؤسساتنا وسياساتنا وفوق ذلك كله عاداتنا ومواقفنا الناجمة عن التقليدية الحالية، وما لم نغير مواقفنا ومفاهيمنا فلن نستطيع تغيير عالمنا.

فرصة عظيمة مفقودة

ارتكبت النظرية الاقتصادية خطأ ثانياً أكثر ضرراً عندما فسرت القوة المحركة للمنافسة بين المتعهدين بأنها تكمن في حافز الربحية، وأنها الوحيدة وراء تلك المنافسة واعتبرت زيادة الربحية لأعلى حد ممكن هي صيحة الحرب، ويمثل هذا التفسير وضعاً مركزياً في النظرية الاقتصادية وكل ما هو خلاف لذلك تمت إحاطته بتفاصيل معقدة وصعبة التحليل بحيث لا يجرؤ أحد على إثارة أي تساؤل بشأنه على أن قبول مثل هذا الأمر باعتباره حقيقة مطلقة عن الرأسمالية من قبل الناس غير المهتمين بكسب المال جعلهم يبتعدون عن السوق والعالم الرأسمالي، وللسبب نفسه فإن الراغبين من الناس في جمع المال تقدموا مباشرة نحو السوق ولذلك أصبحت السوق ناديا مقصورا على الباحثين عن الحظ فقط وإنها لخسارة كبيرة!
لقد خسرت النظرية الاقتصادية الفرصة الأكثر إثارة من أجل تغيير مصير العالم بتجاهلها التام عدد وقدرة البشر الذين يهتمون بالمكاسب الاجتماعية أكثر من المكاسب المالية الشخصية وبتجاهلها أولئك الذين يهتمون بشغف بجعل العالم مكاناً لحياةٍ أفضل بدلا من الاهتمام الضيق بمصالحهم الشخصية.
وعندما حصرت القوة المحركة للسوق في الاهتمامات الذاتية الضيقة خسر الاقتصاد أيضا الفرصة الأكبر ليصبح بحق علما اجتماعيا وليس علم دولار وسنت مكررا وروتينيا إذ لا يشك أحد في أن بوسع المتعهد / المقاول أن يؤسس شركة صيدلة ليجني أرباحاً عالية ولكنه أيضاً سوف يلقى الترحيب وبالقدر نفسه متى استطاع توفير أدوية ذات نوعية ممتازة وبأدنى الأسعار وتكون في متناول العائلات الفقيرة، ولأمكن للاقتصاد أن يتصور فئتين من المتعهدين/ المقاولين: فئة تحركها المكاسب الشخصية فقط وفئة أخرى تحركها الأهداف الاجتماعية فلن يكون واقعياً حينئذ فقط بل سوف يساعد العالم في حل الكثير من المشكلات التي لم تقدر على حلها اليوم السوق التي تحركها الربحية فقط.

النموذج السلوكي للمتعهد / المقاول الاجتماعي

إن النمط السلوكي للمتعهد / المقاول الذي تحركه الأهداف الاجتماعية أي المتعهد الاجتماعي سيكون على النحو التالي:
ينافس جميع المتعهدين / المقاولين الآخرين في السوق محفوزا بمجموعة من الأهداف الاجتماعية وهذا هو السبب الأساس لوجوده في السوق.
يحقق أرباحا شخصية أيضاً قد تصل إلى مبالغ كبيرة وربما تفوق ما يحققه المنافسون الذين تحركهم المكاسب الشخصية غير أنه يختلف عنهم في أن أرباحه الشخصية تأتي في الاعتبار الثاني وليس في الاعتبار الأول. ومن جهة أخرى، فإن المتعهد الذي تحركه الربحية الشخصية ربما يسهم في تحقيق بعض الأهداف الاجتماعية من خلال عمله ولكن بطريقة عفوية أو كاعتبار ثانوي، غير أن هذا لن يجعل منه متعهدا اجتماعيا.
يعتمد تقدير المتعهد الاجتماعي للسوق على مدى التأثير الاجتماعي للدولار المستثمر، والسوق هنا تتكون من المستثمرين المحتملين الذين يبحثون عن فرص لاستثمار أموالهم في مشاريع تحركها الأهداف الاجتماعية. وعليه فإن دولارات الاستثمارات الاجتماعية سوف تنتقل من المشاريع ذات التأثير الاجتماعي القليل إلى المشاريع ذات التأثير الاجتماعي العالي ومن المشاريع ذات التأثير العام إلى المشاريع ذات التأثير المحدد والملموس ومن المشاريع الاجتماعية التقليدية إلى المشاريع عالية الإبداع والكفاءة.
يحتاج المستثمرون الذين تحركهم الأهداف الاجتماعية إلى سوق أسهم (اجتماعية) مستقلة وإلى وكالات تقييم مستقلة وإلى مؤسسات مالية وصناديق اجتماعية تعاونية ورؤوس أموال ذات أخطار .. إلخ مستقلة، وبشكل عام كل شيء متوافر للمشاريع التي تحركها الربحية يلزم توفير مثلها للمشاريع التي تحركها الأهداف الاجتماعية مثل شركات التدقيق ومنهجيات تقييم التأثير والجهد المناسب والأطر التنظيمية وتوحيد المقاييس..إلخ، ولكن بسياق وبيئة مختلفين وبمنهجيات مختلفة.
بسبب الطريقة التي رسم بها الاقتصاد التقليدي شكل العالم فإن جميع أموال الاستثمار يتم النظر إليها من زاوية واحدة فقط وهي الاستثمار من أجل تحقيق الأرباح الشخصية، وقد حدث هذا لأن الناس لم يقدم لهم أي خيار ولأنه ليست هناك إلا منافسة واحدة هي جمع أكبر قدر من الثروة الشخصية والأرباح، غير أنه وفي الوقت الذي نفتح فيه الأبواب للتأثير الاجتماعي من خلال الاستثمارات فان المستثمرين سوف يدخلون أيضا من هذه الأبواب. في البداية قد يحول بعض المستثمرين جزءا ربما كان صغيراً من استثماراتهم للمشاريع الاجتماعية ولكن إذا أبدى المتعهدون الاجتماعيون تأثيرا ملموسا فإن تدفق الاستثمارات سوف يتزايد شيئا فشيئا، وبعد ذلك سوف تظهر فئة من المستثمرين في الساحة لتقوم بوضع جميع أموالها المستثمرة أو معظمها في الاستثمارات الاجتماعية، كما أن بعض المتعهدين / المقاولين قد يبدأون باكتشاف أبعاد أخرى لقدراتهم العملية بحيث يعملون وبنجاح في كلا الجانبين، أي لأغراض الربح وللأغراض الاجتماعية.
ولو نجحت المشاريع والشركات الاجتماعية أن تبدي تأثيرا كبيرا ونماذج مبدعة فقد يأتي اليوم الذي تجد فيه المشاريع التي يحركها الربح الشخصي نفسها مضطرة إلى حماية حصتها في السوق. وتكون مضطرة إلى محاكاة المشاريع الاجتماعية في لغتها وأسلوبها من أجل البقاء في السوق.
لا أعتقد أنني بحاجة إلى كثير من الجهد لإقناع شخص ما أن هنالك الملايين من المستثمرين الذين يسرهم أن يضعوا الآن أموالهم في مشاريع اجتماعية إذا حصلوا على تأكيد بأن استثماراتهم على الأقل ستحافظ على قيمتها الأساسية في الوقت الذي يكون لها تأثير مهم على حياة الفقراء والمحرومين. بل إنني تلقيت رسائل من العديد من الناس حول العالم يعرضون فيها الاستثمار في بنك جرامين، ومن الواضح أنهم لا يتطلعون لكسب المال من استثمارهم في هذا البنك، لماذا إذاً فشلت جهودنا في إعطاء الفرصة للأشخاص الذين يرغبون في الاستثمار لصالح البشر؟
إذا تم حفز الناس اجتماعيا فإنهم يستطيعون تكريس حياتهم لصياغة سياسات تعمل على تغيير مجتمعاتهم وبلدانهم والعالم أيضاً، وكذلك لا أجد سببا يمنع الأشخاص المحفوزين اجتماعيا من تكريس حياتهم لبناء وتشغيل مشاريع وأعمال تحركها الأهداف الاجتماعية إذ إن ما يمنعهم من ذلك هو عدم وجود الفرص والأطر الهيكلية، ومن ثم فإن علينا تغيير هذا الوضع.
يمكن الوصول إلى عالم جديد من خلال إفساح المجال للمتعهدين والمستثمرين الاجتماعيين في عالم الأعمال، وهذه الأجندة مهمة جدا لنا جميعاً، كما أن القضاء على الفقر سوف يصبح عملا يسيرا إذا استطاع المتعهدون الاجتماعيون قبول هذا التحدي وإذا وضع المستثمرون الاجتماعيون استثماراتهم في مساعدة المتعهدين الاجتماعيين.

مَن هو المتعهد / المقاول الاجتماعي؟
دعوني أعرف المتعهد / المقاول الاجتماعي بشكل عام ثم أصنفهم في فئتين هما: الموجودون في السوق وغير الموجودين في السوق.
المتعهد الاجتماعي هو أي شخص يقدم وقته وجهده لمعالجة وتناول أي مشكلة اقتصادية يعانيها المجتمع أو شريحة منه، وقد تكون المشكلة التي يتم تناولها مشكلة محلية صغيرة أو عالمية كبيرة، وقد يحتاج عمل المتعهد الاجتماعي إلى المال أو لا يحتاج إليه وقد يكون عمله على شكل حملة شخصية لصالح شيء ما أو ضده وقد يحتاج إلى التعاون والتنسيق مع الآخرين.
كذلك قد يحتاج عمله إلى جمع الأموال وقد يتم تنظيمه كعمل مستقل (التوظيف الذاتي) يضمن استعادة التكلفة بنسبة 100 في المائة. كما أنه قد يحقق أرباحاً مجزية على الرغم من أن المشروع لا يهدف إلى الربح، ومن حيث استعادة التكلفة فان المتعهد الاجتماعي يستطيع أن يعمل ضمن مقياس يراوح ما بين الصفر و100 في المائة أو أكثر من استعادة التكلفة، فإذا كان المتعهد يوزع الطعام على الجياع فإن نسبة استعادة التكلفة ستكون صفراً أما إذا كان يقدم الخدمات الصحية مقابل رسوم بسيطة تغطي جزءا من التكلفة فإنـه يعمل في نقطه موجبة من مقياس استعادة التكلفة ولكن عندما يصل إلى نسبة 100 في المائة من استعادة التكلفة فإنه يصبح متعهداً اجتماعياً معززاً للسوق أو متوافقا معها. وهذه هي النقطة الأهم (النقطة الحرجة) في مقياس استعادة التكلفة، فإذا استطاع المتعهد الاجتماعي البقاء على يمين هذه النقطة فإنه سوف يصبح لاعباً مؤثراً في السوق ويستطيع النمو بقدر ما يرغب وبقدر نجاحه ويستطيع سحب موارد السوق. وبقدر ما يوجد المتعهدون الاجتماعيون ضمن فئة المتعهدين المعززين للسوق (المستقلين) بقدر ما تكون قوتهم مؤثرة ويشكلون مجتمع أعمال ويصبح باستطاعتهم البدء بالوصول إلى تريليونات الدولارات من رأسمال السوق حيث إن جزءاً منها سيجد لديهم النوع الأفضل من الاستثمار.
أما المتعهدون الاجتماعيون الذين يعملون يسار تلك النقطة الحرجة فإنهم يعتمدون على الإعانات والأموال الخيرية للقيام بأعمالهم النبيلة ويمكننا تسميتهم المتعهدين الاجتماعيين خارج السوق، ويكون حجم عملياتهم مرتبطا بحجم التبرعات التي يحصلون عليها، ومن الواضح أن أموال التبرعات لا تشكل إلا جزءاً بسيطا من إجمالي الأموال العاملة في السوق، إضافة إلى ذلك فإن عدم التأكد من الحصول على التبرعات وتغير إجراءات وأولويات المتبرعين تبقى دائما مشكلة كبيرة لهذه الفئة من المتعهدين الاجتماعيين.


التحول من متعهد غير موجود في السوق إلى متعهد موجود فيها
يجب الاعتراف بأن المتعهدين غير الموجودين يتمتعون بالتقاليد والخبرات الأطول في الأعمال الاجتماعية التي تمتد على مدى وجود البشرية على هذا الكوكب، وقد تعلمت الفئة الأخرى (الموجودون في السوق) الكثير منهم، ويمكن للفئتين معا أن تشكلا ائتلافاً قوياً جداً لتغيير الطرق التي يعالج بها الناس الأشياء التي توضع بها السياسات والتي تعامل بها المؤسسات الناس، كما يستطيع كل منهما العمل في جانبي المقياس لإيجاد أنواع مختلفة من البرامج ذات التوجه الاجتماعي، حيث إن بعض المتعهدين غير الموجودين في السوق يستمرون في العمل في الجهة نفسها من المقياس في جميع الأوقات بسبب فلسفتهم أو توافر التمويل أو لاعتبارات أخرى. أما البعض الآخر فسيجد أن من المفيد أن يتحرك تدريجيا نحو اليمين للسيطرة وبشكل أفضل على مواردهم المالية ويقللون من الاعتماد على العون الخارجي، كما أن البعض يبذل جهداً متعمداً لعبور النقطة الحرجة ويصبح معتمداً على ذاته، ومن ثم فإن التحول من وضع غير الموجود في السوق إلى وضع الموجود في السوق يشبه إلى حد ما تحويل الدراجة الهوائية إلى سيارة سباق، وهذا يعني سرعة الوصول إلى الهدف.
لكن قد يكون هنالك بعض التكلفة لهذا التحول حيث إنك قد تكسب شيئا وفي المقابل تخسر شيئاً آخر، لذا يجب على المتعهد الاجتماعي أن يكون ماهراً جداً ومبدعاً في عملية التحول هذه ليحتفظ بأكبر عدد من أجندته الاجتماعية في الوقت الذي يكسب فيه القوة الاقتصادية ليطور أداءه ويضمن انتشارا أوسع.
يجب تنظيم الجهود العالمية لمساعدة وتشجيع المهتمين من غير الموجودين في السوق للتحرك إلى الجهة اليمنى من النقطة الحرجة وذلك بإعطائهم الدعم القانوني ومساعدتهم في الوصول إلى الأموال العاملة في السوق وتقديم مهارات التسويق والتقنية لهم وربطهم مع المرشدين من بين المتعهدين الاجتماعيين الناجحين الموجودين في السوق وتقديم الخدمات الإرشادية لهم.
إن المتعهدين الاجتماعيين ليسوا شخصيات في رواية خيالية اقتصادية ولكنهم موجودون في العالم الحقيقي غير أننا نرفض الاعتراف بهم، فنحن لا نرى لهم مكاناً في أطر عملنا التحليلي، فهم ينفذون مهامهم كشخصيات غير سوية لا تستطيع الانسجام معنا. لذا كان لزاما علينا أن نغير هذه النظرة فورا وننظر إليهم على أنهم أبطال يقودون جهودنا ومحاولاتنا الاقتصادية.
إن مستقبل العالم في أيدي المتعهدين الاجتماعيين الموجودين في السوق لأن ترك عالم الأعمال حصرا في أيدي المستثمرين والمتعهدين الذين تحركهم الربحية الشخصية سوف يخلق المزيد والمزيد من التوتر السياسي والاجتماعي داخل البلدان المختلفة وفيما بينها أكثر من أي وقت مضى، ومع تقدم التكنولوجيا فقد أصبح العالم صغيرا والأعمال أصبحت أكبر وأكثر قوة في حين تنكمش قوة ومكانة الحكومات، ومن خلال العولمة تحول العالم كله إلى طاولة لعب يحيط بها أغنياء غير عاديين ودول غنية غير عادية.
لا نستطيع التغلب على مشكلة الفقر من خلال التقليدية الرأسمالية التي يتم التبشير بها وتطبيقها اليوم، ومع فشل العديد من حكومات العالم الثالث في إدارة برامج التعليم والصحة والأعمال وبرامج الرعاية الاجتماعية بفعالية فإن الجميع يسارع بالتوصية بتسليمها للقطاع الخاص. وإنني أقر هذه التوصية ولكني أرفق معها هذا السؤال: عن أي قطاع خاص نتحدث؟ إن القطاع الخاص المبني على الربح الشخصي لديه أجندته الواضحة الخاصة به التي تتعارض بشكل مباشر مع أجندة أنصار البيئة والمرأة ومحاربة الفقر لأن النظرية الاقتصادية لم تزودنا بأي بديل لهذا القطاع الخاص التقليدي، وأرى أن بإمكاننا إيجاد بديل فعال عبر قطاع خاص يخدم الوعي الاجتماعي ويؤسسه المتعهدون الاجتماعيون.

العولمة ودور المتعهدين الاجتماعيين

لقد أصبح دور المتعهدين الاجتماعيين مهما جداً في سياق السباق نحو العولمة. مع الحرص على ألا تتحول العولمة إلى منزل مفتوح لتدخل الثيران إلى الدكان الصيني. ومع أنني مساند متحمس لعملية العولمة أعتقد أن العولمة ستجلب المزيد من الفوائد والمزايا للفقراء أكثر من أي بديل آخر لها. فإن من السذاجة أن نعتقد أن العولمة لها أسلوب بناء واحد فقط إذ يمكن بكل سهولة تقسيم جميع خيارات العولمة إلى فئتين عامتين:(1) العولمة الصحيحة و(2) العولمة الخاطئة وذلك في سياق مجموعة الأهداف، فإذا كان أحد أهدافنا الرئيسة الحصول على خفض للفقر فعلينا اختيار أسلوب البناء الذي يضمن ذلك، وما لم نسلك هذا الطريق ونبذل جهوداً جادة لبناء هذا الخيار فإن أسلوب البناء الذي سوف يظهر قد يكون ضد الفقراء وعولمة اقتصاد الفقراء وهذه النتيجة يجب فحصها والتحقق منها فوراً، وهذا هو ما تحاول المظاهرات المناهضة للعولمة إخبارنا به، وإن أقل ما يمكن أن يفعله العالم هو إنشاء جهاز تنظيمي يمنع العولمة من السير في الاتجاه الخاطئ ويشجعها على السير في الاتجاه الصحيح ويسهله لها، ومن ثم تحتاج الطرق السريعة للعولمة إلى قواعد مرور وشرطة سير وبدون ذلك ستكون مليئة بالمشاهد القبيحة.
علينا أن نبدأ بنقاش عالمي ونتفق وبشكل عام على معالم وخصائص أسلوب البناء "الصحيح" للعولمة بدلا من الانزلاق في عولمة خاطئة جداً وذلك في غياب إطار عمل واضح، قد يكون هنالك العديد من المعالم لأسلوب البناء هذا، ولكنني أود أن أشدد على المعالم التالية:
1) أن يكون هناك متسع للبلدان الغنية والفقيرة والمؤسسات الكبيرة الفاعلة والمؤسسات الصغيرة الضعيفة.
يجب استبدال قاعدة أن "الأقوى يأخذ كل شيء" بقاعدة تضمن مكاناً لكل واحد مع جزء من العمل دون إخراجه من قبل اللاعبين الأقوياء، والتجارة الحرة يجب أن تعني حرية الأضعف وجعل الفقير لاعبا فاعلا في عملية العولمة بدلا من جعله ضحية سلبية، ويجب أن تعزز العولمة مبدأ الانسجام والشراكة بين الاقتصادات القوية والضعيفة بدلا من أن تصبح مركبة تتجاوز بواسطتها الاقتصادات القوية الاقتصادات الأخرى.
2) أن تضمن العولمة حركة الناس عبر الحدود.
3) أن تبذل كل أمة جهوداً حقيقية ومتواصلة لإيصال تكنولوجيا المعلومات للفقراء لتمكنهم من الاستفادة القصوى من العولمة. وهذا الأمر مهم جدا على وجه الخصوص بالنسبة للبلدان الفقيرة.
4) أن تتم مساندة المتعهدين الاجتماعيين وتشجيعهم على المشاركة في عملية العولمة لتكون ودية وصديقة للفقراء مع إعطائهم مزايا خاصة تمكنهم من التقدم والتوسع.




العولمة واقتصاد المعرفة وبعثات "جرامين" وقروض الطلبة
الفقراء مثلهم مثل أشجار البونساي، فهي يمكن أن تصبح أشجارا عملاقة إذا توافرت لها البيئة المناسبة لنموها، غير أن حجم الأوعية التي تزرع فيه هو الذي يحولها إلى صورة مختزلة مقارنة بحجمها الحقيقي، وبالطريقة نفسها فإن الفقراء يمثلون نماذج مطابقة ومختزلة لتلك الكامنة داخلهم، إذ إنهم لا يستطيعون النمو حتى يصلوا إلى أحجامهم الممكنة لأن المجتمع لا يوفر لهم الأسس الاجتماعية والاقتصادية اللازمة للنمو الحقيقي، فقد حكم على الفقراء أن يعيشوا مثل أقزام جزيرة ليليبوت في بلاد كبار العمالقة.
يجب أن ننظر لاقتصاد المعرفة الناهض الذي تدعمه عملية العولمة كفرصة غير مسبوقة للفقراء والبلدان الفقيرة، حيث إن مستقبل الأمم لم يعد يقرره حجم ثروتها ولكن تحدده الموارد البشرية التي تملكها الأمة وسوف يكون لتقنية المعلومات والتعليم الأثر الأكبر على قدرة الفقراء والبلدان الفقيرة في تغيير وضعهم الاقتصادي. وهذا ما دعا إلى تأسيس مجموعة من شركات جرامين لإيصال تقنية المعلومات والتعليم إلى فقراء بنجلادش، فمثلا تأسست شركة جرامين فون، جرامين ستار إيديوكيشن، جرامين سايبرنيت، جرامين إنفورميشن هاي واي، جرامين سوفت وير، وجرامين آي تي بارك لإيصال تقنية المعلومات للفقراء وبناء قدرات تكنولوجيا المعلومات في بنجلادش.
توفر "جرامين فون" هواتف جوالة مربوطة بالإنترنت للمقترضات من "جرامين" وتجعل منهن سيدات يقدمن خدمات الهاتف في القرى. ويوجد اليوم أكثر من 21 ألف سيدة يبعن خدمات الهاتف في نصف مجموع قرى بنجلادش. والعديد من هذه الهواتف يعمل بالطاقة الشمسية حيث لا تتوافر الكهرباء في تلك القرى، وقريباً تصبح هذه السيدات "سيدات إنترنت"، فقد استطعنا تصميم خدمات مناسبة لهن بحيث أصبحت التقنية بين أيديهن، وفي الوقت الذي تقدم فيه "جرامين فون" خدمات الاتصال الهاتفية للفقراء فقد أبلت هذه الشركة بلاء حسنا في مجال عملها، حيث وسعت خدماتها خلال خمس سنوات من تشغيلها لتصبح أكبر شركات الهاتف الجوال في جنوب آسيا.
لا يركز بنك جرامين فقط على الخدمات المالية بل عزز وقدم أجندة اجتماعية قوية، حيث إن القرارات الستة عشر المتعلقة بالاقتراض من بنك جرامين تلزم المقترضين القيام بالعديد من التغييرات غير الاقتصادية في حياتهم مثل المحافظة على عائلات صغيرة وإرسال أطفالهم إلى المدارس والتأكد من استمرارهم في الدراسة والتخلي عن عادة دفع المهر لعائلة العريس والتأكد من أنهم لا يشربون إلا الماء النظيف .. إلخ. ونتيجة لهذه القرارات الستة عشر يهتم المقترضون من بنك جرامين كثيرا بإرسال أطفالهم إلى المدارس واليوم ليسوا جميعاً في المدارس فقط، بل إن بعضهم في الكليات والجامعات والمدارس المتخصصة، ويتطلع بنك جرامين إلى أن يتطور الجيل الثاني من مقترضيه ليستفيدوا من اقتصاد المعرفة ويخرجوا للأبد من دائرة الفقر، هذا ويقدم بنك جرامين سنويا نحو أربعة آلاف بعثة للمتفوقين من أبناء العائلات المتعاملة مع البنك وبنسبة 100 في المائة من تكاليف دراستهم الجامعية، وتقدم إحدى شركات جرامين الأخرى وتسمى جرامين إيديوكيشن برنامجاً لإدارة خدمة البعثات، فمثلا إذا قدم متبرع منحة مستردة بقيمة 100 ألف تكا (1724 دولارا) تقدم الشركة بالمقابل مصروفات بعثة بقيمة 500 تكا شهريا (8.62 دولار) أو ما نسبته 0.5 في المائة من قيمة المنحة لأي طالب فقير سواء كان من المقترضين أو غير المقترضين من "جرامين" وتستمر المنحة للأبد أو طيلة بقاء المبلغ لدى الشركة، وتأمل الشركة أن يتقدم مئات الآلاف من المتبرعين بهذه المنح وذلك من أجل إعداد أبناء وبنات الفقراء في بنجلادش لاقتصاد المعرفة وتقنية المعلومات.
تمثل تقنية المعلومات عونا كبيرا وبرفدها بالقروض الصغيرة تستطيع فتح الأبواب لفرص التمويل المبدع والربط بالسوق والحصول على معلومات مباشرة والتخلص أيضا من طبقات الوسطاء بين الفقراء والسوق، حيث يمثل الشخص الفقير وحده جزيرة معزولة، في حين أن تقنية المعلومات تستطيع القضاء على هذه العزلة فوراً. مما ييسّر للفقير أن يكون في وسط السوق العالمية ويصل ليس فقط إلى مراكز التمويل والسوق، بل أيضا مراكز الصحة والتعليم والحصول على الأفكار والصداقات، كما تستطيع تقنية المعلومات مع القروض الصغيرة أن تأتي بنتائج سريعة تقضي على الفقر إذا تمكنا من تصميم تقنية معلومات تناسب الفقراء. إن هذا العمل يمكن إنجازه وتحقيقه بسهولة.
بإمكان المتعهدين الاجتماعيين وتقنية المعلومات والقروض الصغيرة أن تلعب دورا أساسيا في توجيه العولمة في الاتجاه الصحيح والمساعدة في خفض مستوى الفقر إلى النصف بحلول عام 2015م.

دور دول رابطة الكومنولث

تشكل دول رابطة الكومنولث التي تضم في مجموعها 1.6 مليار نسمة شبكة غير واضحة المعالم من الأمم والدول، ومع هذا فإنه مازال بإمكانها أن تجد لنفسها المكان اللائق، وكعائلة تتألف من دول غنية جدا وأخرى فقيرة جداً فإن بإمكانها أن تتبنى مبدأ خفض مستوى الفقر إلى النصف بحلول عام 2015 م فيما بين دول الرابطة كأجندة ذات أولوية قصوى، كما أن بإمكانها جمع وتصنيف الخطط في كل دولة من دولها من أجل تحقيق هذا المبدأ ومن ثم تقاسم المعلومات وتبادل الخبرات مع جميع الدول الأخرى.
تستطيع رابطة الكومنولث أن تطور وتنفذ نظامها الخاص بالنسبة للدول الغنية والفقيرة ضمن عائلتها للتأكد تماما من أن أعمال العولمة هي في صالح الفقراء والدول الفقيرة تماما كما هي في صالح الأغنياء والدول الغنية. وكذلك بإمكان عائلة الكومنولث أن توضح بجلاء أن هذا المبدأ يمكن تحقيقه وأنه ليس صعبا كما يبدو للبعض.
كما تستطيع دول الرابطة أيضا أن تتبنى برنامجاً واسعاً لتشجيع المتعهدين الاجتماعيين وأن تؤسس سياسات وتشريعات مساندة لهم وهذا هو المجال الذي تستطيع الرابطة فيه تحقيق التأثير الأكبر بالنسبة للعالم أجمع، إذ إن لدى هذه الدول تقاليد وخبرات عريقة في مجال المتعهدين الاجتماعيين وهذا الأمر ليس بالجديد عليها، والمطلوب هو قبولهم كبناة جادين للمستقبل الاجتماعي والاقتصادي لبلداننا وشعوبنا. وبدلا من التفكير بمفهوم القطاع العام والقطاع الخاص علينا أن نفكر بمفهوم القطاع الاجتماعي العام والقطاع الاجتماعي الخاص، حيث إن رابطة الكومنولث تمثل عائلة من الدول فإن عليها أن تقدم نموذجا لكيفية عمل أعضاء العائلة الواحدة معا في سبيل الهدف المشترك وتقاسم النجاح والرخاء. إن العالم اليوم بحاجة إلى نماذج وأمثلة تحتذى ورابطة الكومنولث هي الأجدر بتقديم مثل هذه النماذج والأمثلة .
تستطيع دول الكومنولث أن تقدم مثالا للتوسع الكبير والجماعي للخدمات المالية بالنسبة للفقراء من حيث إيجاد العمل الذاتي وإعداد الفقراء لتقديم مزايا العولمة لبلدانهم وشعوبهم كما أن باستطاعتها مساعدة الدول الأعضاء فيها على فتح قطاعي الاتصالات وتقنية المعلومات وتوفير هذه الخدمات للفقراء، كما يمكنها تقديم المثال والنموذج في إعداد شباب العائلات الفقيرة لاقتصاد المعرفة وفتح الأبواب للتعليم المتميز والخبرات العملية، وعلى خلفية أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) فإن أبواب الدول الغنية إما أغلقت تماما أمام الشباب من الجنوب وإما أصبحت شبه مغلقة، وهذا الأمر يمثل نذير شؤم بالنسبة للأقطار الفقيرة التي تعد نفسها للعولمة.
وفي الوقت الذي نقف فيه بثبات في وجه الإرهاب فإن دول الكومنولث يجب أن تبين بوضوح أن الإرهاب لا يمكن هزيمته في ساحات القتال، بل بالبحث عن أسبابه واجتثاثها من جذورها، علماً بأن الفقر هو أحد الدوافع التي تغذي الإرهاب، وعليه فإن تحقيق مبدأ خفض مستوى الفقر إلى النصف بحلول عام 2015 م يعتبر الأهم في هذا السياق. إنني أود أن أرى دول الكومنولث تقف دائما إلى جانب السلام وترفع صوته وتستخدم تأثيره وقوته لتفادي الحروب ولنتذكر أن الطريق إلى السلام بطيء ومؤلم ومحبط ولكنه يأتي بحلول دائمة وحقيقية كما أنه يعزز الانسجام بين الشعوب، والسلام يكشف أفضل ما في الإنسان في حين أن الحروب تكشف أسوأ ما فيه.

نعم نستطيع
والآن نعود إلى السؤال موضع النقاش، هل نستطيع فعلا خفض مستوى الفقر المدقع إلى النصف بحلول عام 2015؟. إن جوابي الأكيد والنهائي هو نعم نستطيع ذلك، بل نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك: نستطيع أن نضع لأنفسنا برنامجا نقضي من خلاله على الفقر في العالم وإلى الأبد، كما نستطيع أن نستعد لوضع الفقر في المتحف حيث هناك مكانه الطبيعي. إن كل إنسان أذكى من أن يعاني من بؤس الفقر، والفقر والإنسان لا يتعايشان معا. لقد حصل ذلك (أي الفقر) في واقعنا لأننا أوجدنا مفاهيم ومواقف خاطئة لم تتح للفقراء معرفة طاقاتهم الكامنة وكل ما علينا فعله هو إزالة القشرة السميكة التي تحول بينهم وبين معرفة قدراتهم وإمكانياتهم الحقيقة.
إن تمكين البشر من اكتشاف طاقاتهم الكاملة هو أجندتنا التي يجب أن نتبناها بجدية تامة، وذلك لنتأكد من نجاح جهودنا للوصول إلى هدفنا الأساسي والذي يجب تحقيقه بحلول عام 2015م إذا كنا حقا نفخر بأننا أصحاب إحساس مرهف وإبداع متميز.

* ألقى د. محمد يونس هذه المحاضرة في معهد رابطة دول الكومنولث
في لندن بتاريخ 11/03/2003م


خاتـمة .. وبرنامج عمل:
ونحن ..
ألا نسعى إلى خفض مستوى الفقر لدينا،
إن العرض الذي قدمه الدكتور/ يونس جدير بالتفكير فيه والخروج منه بتوصيات محددة تصلح أن تكون برنامج عمل يسهم فيه المجتمع في بناء مقاولين اجتماعيين والتشجيع لمقاولين محتملين لأخذ دور في هذا السبيل.
وهذا لا يغفل الدور الذي يقوم به الصندوق الذي أنشأه الملك عبد الله بن عبد العزيز لمكافحة الفقر ولا يغفل الدور الذي تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية وكذلك الجمعيات الخيرية، ولكن المطلوب تحقيق برنامج يتفق وروح القطاع الخاص في الإنتاجية وبحث البدائل ومعرفة الإمكانات الفردية والسوقية ويختلف عنه في أن الأولوية في اهتمامات القطاع الخاص التقليدية هي في الربحية فقط، أما هنا فإن الاهتمام منصب على تحقيق أعلى عائد اجتماعي بتقليص عدد الفقراء وإخراجهم إلى مجالات العمل والإنتاج.
ويتلخص البرنامج في:
1) تكوين شركات ذات مسؤولية محدودة في جميع الغرف التجارية في المملكة تحت اسم "وحدات الإقراض المتناهية الصغر" بين الغرف ورجال أعمال ويتولى إدارة كل شركة في كل غرفة تجارية مدير مسؤول قادر على الإنجاز المتميز.
2) تحدد لكل وحدة ميزانية تقديرية سنوية بناءً على مسح اجتماعي مبدئي محلي يبين عدد الأسر التي تنطبق عليها معايير الإقراض.
3) تتم توعية الأسر بأهمية القيام بعمل ما مثل:
أعمال نسيج تقليدية أو حديثة، صناعات غذائية شعبية أو حديثة، تربية دواجن، تربية أغنام، صناعات جلدية (أحذية، حقائب، .....) بحيث يوضع دليل يبين أنواع الأعمال التي تغطيها القروض، وكذلك مناهج التدريب على القيام بها إن كانت هناك حاجة لذلك.
4) الاستعانة بمراكز التدريب المحلية أو بالجامعات في الدراسات الإنسانية والاجتماعية وكذلك منظمات الأمم المتحدة مثل الإسكوا من أجل تحقيق فاعلية أعلى لهذه البرامج.
5) يتولى مجلس من رجال الأعمال في كل منطقة الإشراف على تطبيق المعايير أو تعديلها لتحقق أفضل العائدات الممكنة. ويتم رصد النتائج بشكل دوري (ربع سنوي مثلاً) لتكون هناك مقارنات على مستوى الغرف التجارية، وتنشأ ثلاث جوائز سنوية لأفضل الشركات تطبيقاً وإشرافاً.
6) مساعدة الأسر المنتجة في تسويق منتجات هذه الأسر ضمن المعارض المحلية أو الوطنية أو حتى الإقليمية من أجل تشجيع هذه الأسر والارتقاء بطموحاتها وإمكاناتها لتنتقل إلى مستوى أفضل من الإنتاج ومن العمل والتحسين.
7) يتم اختيار أفضل الأسر إنتاجاً وتطويراً لتدريبها على مهارات أعلى وعلى برامج أوسع ليتحقق بذلك إنشاء طبقة اجتماعية ذات قدرات اقتصادية أفضل حتى يكسب المشروع ثقة المساهمين به وينال اهتمامهم.
8) يقتطع جزء من أرباح كل شركة في كل غرفة لتكوين رأسمال يتم الإنفاق منه على برامج التدريب والتعليم والتوعية الاجتماعية والصحية والبيئية حتى ينشأ بذلك فهم متميز لدى أعضاء هذا الكيان الجديد ويحقق تسارعاً في التطبيق الواسع على المديين المتوسط والطويل.
9) يظل باب التبرع مفتوحاً باستمرار لتغذية برامج الشركات والتنويع فيها والارتقاء بها على أن تكون هناك شفافية عالية في كل جوانب الشركات هذه تشعر المستفيدين والمتبرعين والمتابعين أن جميع الجزئيات تخضع للمتابعة والاهتمام وحسن الرقابة.
10) يمكن أن تنشأ في مرحلة لاحقة أكاديمية تتبعها أكاديميات أخرى لتعميق هذا النوع من النشاط والبحث فيه وتكوين الدراسات بشأنه حتى تكون هناك نظريات في اقتصاديات معالجة الفقر تتحول تدريجياً إلى نظريات اقتصاد اجتماعي وإنساني موازية أو مرادفة لنظريات الاقتصاد التقليدي.
11) من الضروري أن تبدأ كل غرفة في العمل بسرعة وذلك بإنشاء الشركة وتُكوّن صندوق لدعمها، والاستفادة من التجربة التي تحققت في مدينة جدة ضمن برامج عبد اللطيف جميل بالتنسيق مع الغرفة التجارية الصناعية، إذ إن أي تأخير لن يفيد إلا في إضافة المزيد من المعاناة والحرمان لكثير من الأسر.
وبالمقاييس المتعارف عليها فإن بداية جدة تعتبر مشجعة إلى درجة كبيرة مما يبعث على الطمأنينة إلى أن قطار الأسر المنتجة قد بدأ التحرك وسوف يأخذنا بإذن الله إلى محطة الكفاية الاقتصادية الشاملة.
* محمد عبد اللطيف جميل