تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : من عادات بابل **سمير عطالله


مشهور
13/01/2007, 12:56 AM
من عادات بابل

أعتذر عن تكرار الرواية، فقط لمتطلبات الموضوع. بعد انتهاء ولاية الرئيس إلياس سركيس جاء يرتاح في باريس، وجئت من لندن إلى باريس لكي اقدم واجب الاحترام والتقدير لمواطن لبناني صادق وحر وأمين. النوع النادر. وقلت له، من باب المجاملة واحكام المقابلة، هل ستكتب مذكراتك عن هذه المرحلة التاريخية العاصفة؟ وكان الرجل دائم الابتسام قليل الضحك. وهذه المرة ضحك طويلا وقال «لو كتبت مذكراتي لافتضح أمر عدد هائل من الناس».

كانت تربطني بالعميد ريمون اده علاقة تقدير كبرى، احتراما لنزاهته في واقع سياسي يزداد تمادياً في الإجرام والفساد وتجارة الارض. وكنت اعرف انه لا يجيد العربية الفصحى. ومن قبيل اللياقة، قلت له ذات يوم، اذا ما خطر لك ان تكتب مذكراتك في بعض الأيام، فاعلم انني حاضر في أي وقت. وضحك ايضا. وقال: ما أريد ان اكتبه لا يكتب، وما لا أريد أن اكتبه لا قيمة له.

كنت اتحدث أمس الى الشيخ محمد منصور الرميح، أبو منصور، الذي كان سفيراً للسعودية في لبنان عام 1975. وجاءني صوته من الرياض متعبا. ولم يقل ماذا يحدث «عندكم» بل ماذا يحدث «لكم»؟ ماذا تفعلون؟ والى متى؟ والى أين تأخذون هذا البلد الجميل؟

وروى أبو منصور ان الملك فيصل بن عبد العزيز استدعاه من بيروت. ووصل الرياض في المساء، لكن الملك الراحل طلب رؤيته في المساء. وذهب إليه. وقال له الملك: «عد غداً إلى بيروت. وانقل الى الرئيس سليمان فرنجية رسالة شخصية باسمي: اما ان تتفقوا فيما بينكم واما الخراب. ان اخطار الارض كلها تتربص بكم ورياح الشر تنتظر اي نافذة تفتح لكي تدخل منها. لا بديل لكم عن الاتفاق فيما بينكم. لا تدعوا الامم تدمر بلدكم».

يتابع السفير الرميح: «في اليوم التالي قمت استعد للسفر إلى بيروت. وفي التاسعة صباحاً جاءنا خبر اغتيال الملك فيصل رحمه الله. وعندما عدت إلى بيروت توجهت الى القصر الجمهوري، وقلت للرئيس فرنجية، كان يفترض ان أحمل إليك رسالة شخصية من الملك فيصل، لكنني بدل ذلك احمل إليك وصيته الأخيرة: اذا لم تتفقوا فيما بينكم فإن اخطار الارض ستقتحم دياركم. والشرق والغرب يتربصان بكم. ثم خرجت من عند الرئيس فرنجية فوجدت نحو 30 صحافياً يريدون معرفة المحادثات، فقلت لم تكن هناك محادثات. لقد نقلت وصية اخيرة».

اعتقد ان المشكلة الحقيقية لم تتغير. ما زالت في لبنان. ولأنها كذلك، يبدو الحل صعباً وبعيداً، فالحل في يد اللبنانيين، واللبنانيون ليسوا في لبنان. كل واحد منهم في مكان. وفي الظاهر يبدو انهم يتكلمون لغة واحدة، لكن الحقيقة ان بابل لا تغير عاداتها القديمة بسهولة. لذلك يسهل على الدوام تحويل لبنان من وطن الى ساحة متنقلة ترفع علماً واحداً ورايات كثيرة. والأمم تتربص.