تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : والله زمان يا حب زمان! **انيس منصور


مشهور
13/01/2007, 12:57 AM
والله زمان يا حب زمان!

لكل زمن حب. ولكل حب زمان. كنا نقنع بالنظرة ونحلم بالقبلة. واليوم لا قبلة ولا نظرة ولا أمل في ذلك! كانت هناك بنت الجيران. صغيرة حلوة. وكانت بعيدة عن العين وعن اليد. ولكنها استقرت أملا ووهما في القلب. وكانت قادرة على أن تلتهم كل شيء في حياتي كأنها عصا موسى.. واليوم في حياتي زحام من الوجوه والأصوات والألوان والآمال والآلام وعواصف من الناس وطوفان من الأمل. وتسونامي من السخط على ما كان وما هو كائن وما سوف يكون..

أول فتاة صغيرة كانت تسكن بالقرب مني لم أعرف ملامحها في ذلك الوقت. رأيتها ألف مرة. ولكن لم استطع ان اتبين معالمها ولا أقدر على التفرقة بينها وبين أية تلميذة اخرى. لا مشيت الى جوارها ولا سمعت صوتها. وإنما أراها قادمة أو عائدة.. وأدرك خطوطها الخارجية. شيء واحد كان يميزها: مشيتها. فهي تمشي كالبطة مفتوحة القدمين كأنها راقصة باليه. وبس. وفي يوم اقتربت مني وسألتني: الساعة كام؟ فقلت: معك ساعة! ومضت ومضيت. ولم افهم انها حاولت عبور المسافة القلقة بيننا. واذكر ان أول قصة كتبتها في بداية حياتي الأدبية كانت عن هذه الواقعة. وقد غيرت في احداث القصة بما يستر عجزي ويخفي سذاجتي.. فالقصة تحكي بأنني الذي تقدمت اليها وحدثتها وأسمعتها شعري.. ثم غنيت لها. ودرت حولها. وكانت سعادتها غامرة والابتسامة لم تفارق شفتيها. وأنهيت هذه القصة بأن الفتاة كانت عمياء. وأنها سمعت ولم تر.. مع ان الذي لا سمع ولا رأى ـ في الحقيقة ـ هو أنا!

وتعددت الوجوه وفشلت المحاولات من جانب واحد. وتغيرت الافكار في رأسي عندما قابلت فتاة ايطالية ظننتها اسبانية فتحدثت اليها بالفرنسية. وكانت مثلي قد درست الفلسفة.. وكان ما كان.. وفي يوم قالت لي أنا من أقارب بابا الفاتيكان. وانه سوف يلقانا معا ويباركنا.. يبارك حبنا ويدعو لنا بالنجاح والسعادة. ما رأيك؟ هي سألتني. وهززت رأسي موافقا. فهي فرصة نادرة ان أرى البابا يوحنا الثالث والعشرين. وذهبت ورأيته وباركنا. ولكن يبدو ان بركته هذه كانت ضعيفة المفعول. فقلت لها: اسمعي، انت أجمل من رأيت، وأفضل من عرفت، وأنت وأنت.. ولكن انا لا قيمة لي في بلدي.. فأنا لم احقق اي شيء. وأنا مثل واحد ركب طائرة فقالوا له: اربط الحزام اطفئ السيجارة.. لماذا؟ لأننا سوف نرتفع.. وأنا كذلك.. فيجب ان امتنع عن اشياء كثيرة لأنني اريد ان ارتفع لأكون شيئا يستحقك اذا انتظرت عشر سنوات!

ولا اعرف كم مرة تكرر هذا الموقف في باريس وبرلين وبورتوفينو الايطالية وفي بلباو الاسبانية.. وفي الطائرة الكونكورد بين لندن ونيويورك. ثم نسيت كل شيء بعد ذلك.. فقد توارى القلب في ضوء العقل.. فالقلب حيوان ليلي يعيش وينتعش في الظلام والضباب.. وهكذا نفذت سهام العقل فقضت اول ما قضت على الدفء والوهم والخيال والشفق والغسق.. فقد قررت ان أعيش في قرص الشمس، لا أرى ولا يراني احد، فألف رحمة على خيالات وأوهام زمان!