مشهور
01/07/2007, 02:02 AM
مر القطار" قصيدة الحداثة الرائدة
23 / 06 / 07
فوزي كريم
قد ينشغلُ مؤرخو الشعر بشأن الريادة في الانتقالة من وحدة البيت إلى وحدة التفعيلة، وبشأن الريادة بين السياب ونازك، أو بينهما وبين آخرين سبقوهما في محاولات فريدة ومعزولة. قارئ الشعر قد يجد الريادةَ تنحسر إلى مجرى أبعد من الشكل الظاهر، لأنها ترتبط بمعنى الحداثة، التي أعطت للشعر مهمة أكثر تعقيداً. وهذه المهمة معقدة لأنها تُعنى بالدلالات الغامضة في النفس، وفي المشاعر وفي الأفكار.
نازك الملائكة، وهي بعد في مطلع العشرينيات من عمرها، تنتبه لذلك في مقدمة ديوانها "شظايا ورماد"، وتعترف لنفسها بأن لغتها العربية "لم تكتسب بعد قوة الايحاء، لأن كتابها وشعراءها لم يعتادوا استغلال القوى الكامنة وراء الألفاظ استغلالاً تاماً، إلا حديثاً.."، فتحاول هي معالجة "حالات تتعلق بالذات الباطنية أحياناً، وباللاشعور أحياناً"، وتكتب عدداً من القصائد الحديثة والجديدة تماماً، وتنشرها في مجموعتها الأولى.
إن الجيل الذي أنتمي إليه قد لا يشعر بالجانب المدهش في قصيدة «مر القطار»، التي كتبتها نازك عام 1948، لأنه ألفَ محاولاتِ التركيب في الرؤى الشعرية، وغرق في التجريب، حتى أصبحا على عهده كياناتٍ شكلية، مستقلة عن الشعر، الذي يُفترض أنه كامن وراءهما. نازك الملائكة، وهي في الثانية والعشرين، لم تكن تألف ذلك، فهي نضجت مع الحداثة الغربية والعربية في مطلع القرن العشرين، وقطفت شيئاً من ثمارها. وحين تفجرت علينا سيول ما بعد الحداثة الغربية، كانت نازك ضائعة تماماً في بحران معتركها الداخلي، الذي توزع في متاهات الإيمان والتصوف. فهي مصونة، إذن، عن إغواء اللعب الشكلي. تحسن قراءة الموروث بحب، وتحسن الإنكليزية وتحب أدبها، وتحسن العزف على آلة العود وتحب الموسيقى الكلاسيكية.
في قصيدة "مر القطار" ما من شيء شكلي، في بناء البيت أو المقطع أو الفراغ. وكل كلمة تأخذ مكانها، وكذلك الصورة، لا في المجرى السائب المطواع، بل في البناء البصري المحدد في إطار، الذي تتشكل به الرؤيا الشعرية. قصائد نازك الأخرى في هذه المرحلة تأخذ الكلمات والصور مكانها في المجرى السائب المطواع، لأنها قصائد غنائية ورومانتيكية. على أنها هنا تبدو ثابتة، متجاوبة أو متقاطعة مع بعضها، لأنها كلمات وصور تريد أن تشكل لوحة، تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة بصورة جميلة تماماً.
لنقرأ القصيدة كما تلتقطها حواسنا البصرية والسمعية: ليلٌ ساكن، تقطعه أصواتٌ رتيبة لحمامة حيرى، ونباح كلب، وتكّات ساعة، ثم صوت قطار في جهة مجهولة سرعان ما يتلاشى في سكون الليل. هذا المشهد يرد على لسان الشاعرة، التي تبدأ في تخيّل عرباتِ القطار، والصفِّ الطويل من الساهرين والمتعبين، الذين سئمت عيونهم، وقد أثقلها الليل، النظر إلى وجوه الراكبين المتكررة، وهي تلوح باهتة تحت ضوء مصباح القطار، كما تتخيل الضجرَ المرير في النفوس التي ملّت وأتعبها الانتظار، هي والحقائب والغبار. نراها تغفو دقائق من تعب ثم يوقظها صوت القطار أو حركته. وهنا يطل رأس بعض الراكبين متثائباً، نعسان، من إحدى النوافذ، ليحدق في القفار، ثم يرجع ليتأمل وجوه الآخرين الغرباء حتى يجهد ويكاد يغفو. إلا أن صوتاً يغمغم يوقظه من غفوته: "هذي العقارب لا تسير!/ كم مرَّ من هذا المساء؟ متى الوصول؟». وتدقّ الساعة، ويرتفع صفير القطار، ويلوح عبر الظلام ضوءُ محطة وقوف. وهنا يُتيح لنا المشهد، بسبب وقوف القطار، أن نتبيّنَ فتىً داخل إحدى العربات، منطوياً، ساهراً، يتنهد، ويتأمل النجوم. في عينيه برودةٌ بفعل الوجوم الطويل، وفي ملامح وجهه لونٌ غريب مُشرّب بحمرة أملتها حرارةُ الأحلام، وفي شفتيه فتور، وفي عينيه نصفُ إطباقة "وكأنها تخشى فرارَ أشعةٍ خلفَ الجفون". وهنا يُقرّبُ مشهدُ "الفتى الضجر الحزين" أكثر:
"عبثاً يحاول أن يرى في الآخرين
شيئاً سوى اللغز القديمْ
والقصةَ الكبرى التي سئم الوجودْ
أبطالَها وفصولَها ومضى يراقب في برودْ
تكرارها البالي السقيم
هذا الفتى..."
ثم يُقطع المشهد فجأة على صوت ورؤية أقدام الخفير، وعلى وجهه العابس الذي يطل خلف النافذة من خارج العربة. يرفع السراج فتلوح على ضوئه: الوجوه المتعبة، النائمون، الأعين المترقبة. بعدها تختفي مع انسحاب الخفير ومصباحه في الظلام الراكد:
"مرّ القطارُ وضاع في قلب القفارْ
وبقيت وحدي أسأل الليلَ الشرودْ
عن شاعري ومتى يعود؟
ومتى يجيء به القطار؟
أتراه مرّ به الخفيرْ
ورآه لم يعبأ به.. كالآخرينْ
ومضى يسيرْ
هو والسراج ويفحصان الراكبينْ
وأنا هنا مازلت أرقبُ في انتظارْ
وأود لو جاء القطار."
صوت الشاعرة في هذه الخاتمة يذكر صراحةً ما لمّح له تلميحاً في أول القصيدة. هنا تسأل عن شاعرها متى يعود. وفي مطلع القصيدة تلمّح: "عجلاته غزلت رجاءً بتُّ انتظرُ النهار/من أجله..". فهي تعوّل على عودة القطار (أي قطار؟) في عودة شاعرها. ثم نستعيد مشهد "الفتى الضجر الحزين"، في منتصف القصيدة، داخل إطار نافذة القطار، ونراه يتداخل مع ذكر الشاعر والتلميح له. هذا التداخل تُقبل أطرافه من أزمنة وأمكنة مختلفة. ولكنها لا تتقاطع هنا، بل تتداخل. خاصة وأن الشاعرة تلح بالتذكير، إذ تتساءل: "أتراه مرّ به الخفير/ورآه لم يعبأ به."..
دقاتُ الساعة البلهاء تلتهمُ الدقائق، وكلُّ دقيقة مقبلة هي غد. ولكنها بعد حين، داخل مشهد القطار، عقارب لا تسير. زمنان يتقاطعان هنا، كما تتقاطع الأمكنة: الشاعرة في غرفتها تحلم بمجيء شاعرها، والشاعر الضجر الحزين في عربة القطار. ثم مشهد الراكبين في عزلة الليل وصمته. ثم يضاف مشهدُ الخفير بوجهه العابس وهو يطل خلف الزجاج، "ويهزّ في يده السراج /فيرى الوجوهَ المتعبة /والنائمين وهم جلوسٌ في القطارْ /والأعينَ المترقبة/في كلّ جفنٍ صرخةٌ باسم النهارْ"، حتى ليأخذ الخفيرُ ومصباحه معنى أبعدَ من الواقع، معنى ميتافيزيقياً!
ولكن ألا يبدو القطار كذلك؟ والراكبون المتعبون أيضاً؟
ألا تذهب القصيدة، بفعل بعض التلميحات، هذا المذهب الرمزي منذ القراءة الأولى؟
إن جملة ".. وكلب ينبحُ النجمَ البعيد" تشي بذلك، وكذلك جملة: "وهناك في بعضِ الجهاتْ /مر القطار.."، وجملة: "ويطل بعض الراكبينْ /متثائباً، نعسانَ، في كسل يحدق في القفارْ.."، وكذلك رؤية الفتى الضجر الحزين للغز القديم وللقصة الكبرى "التي سئم الوجود أبطالها وفصولها..."
أذكر أنني اعتدتُ قراءة هذه القصيدة كلما وقعتْ عيني على مجموعة نازك الملائكة الكاملة، ودائماً أشعر أنها قصيدة رائدة حقاً لحداثتها الشعرية، دون أن أقلل من شأن الانتقالة من وحدة البيت إلى وحدة التفعيلة.
والشاعرة نازك الملائكة لم تغفل الجديدَ في قصيدتها هذه. في مقدمتها لـ (شظايا ورماد) حاولت أن تنبه قارئها على جديدها، كما تراه، أو على الجديد الذي يتاح لقارئ تلك الأيام أن يراه. ولذلك كانت تكتفي، وهي متواضعة في ذلك، بالقليل من الاستجابة للدلالات الكثيرة في القصيدة. تكتب في مقدمتها:
"ولنْ يعثر القارئ على شيء مثير في قصيدة (مر القطار) إن هو توقع أن يجد فيها وصفاً لقطار أو لرحلة في القطار. فقد كان غرضي الأساسي من كتابتها أن أعبر عن الشعور الغامض الذي يحسه المسافر ليلاً بالدرجة الثالثة من القطار. فهناك حالة التعب الكلي التي يجد فيها المرء نفسه مشوبة بلون من الكسل والارتخاء. وهناك صوت عجلات القطار الرتيب الذي لا يتغير، ولون الغبار المتراكم على كل شيء، على الحقائب، وعلى الوجوه والثياب. ثم هناك منظر المسافرين الغرباء وقد جمعتهم عربة القطار صفوفاً. والقطار يصفر بين حين وحين فيثير إحساساً غريباً في النفس. كل ذلك والسكوت يغمر العربة، التي نام أغلب الموجودين فيها وهم جالسون على مقاعدهم. وبين فترة وأخرى، يصدف أن يتثاءب مسافر غريب لا نعرفه ويهتف بملل وبرود "كم الساعة الآن؟" أو "متى نصل؟" أو "أين نحن؟" أو مثل ذلك من العبارات. فإذا أحس قارئ "مر القطار" ببعض هذا الجو كان ذلك حسبي."
23 / 06 / 07
فوزي كريم
قد ينشغلُ مؤرخو الشعر بشأن الريادة في الانتقالة من وحدة البيت إلى وحدة التفعيلة، وبشأن الريادة بين السياب ونازك، أو بينهما وبين آخرين سبقوهما في محاولات فريدة ومعزولة. قارئ الشعر قد يجد الريادةَ تنحسر إلى مجرى أبعد من الشكل الظاهر، لأنها ترتبط بمعنى الحداثة، التي أعطت للشعر مهمة أكثر تعقيداً. وهذه المهمة معقدة لأنها تُعنى بالدلالات الغامضة في النفس، وفي المشاعر وفي الأفكار.
نازك الملائكة، وهي بعد في مطلع العشرينيات من عمرها، تنتبه لذلك في مقدمة ديوانها "شظايا ورماد"، وتعترف لنفسها بأن لغتها العربية "لم تكتسب بعد قوة الايحاء، لأن كتابها وشعراءها لم يعتادوا استغلال القوى الكامنة وراء الألفاظ استغلالاً تاماً، إلا حديثاً.."، فتحاول هي معالجة "حالات تتعلق بالذات الباطنية أحياناً، وباللاشعور أحياناً"، وتكتب عدداً من القصائد الحديثة والجديدة تماماً، وتنشرها في مجموعتها الأولى.
إن الجيل الذي أنتمي إليه قد لا يشعر بالجانب المدهش في قصيدة «مر القطار»، التي كتبتها نازك عام 1948، لأنه ألفَ محاولاتِ التركيب في الرؤى الشعرية، وغرق في التجريب، حتى أصبحا على عهده كياناتٍ شكلية، مستقلة عن الشعر، الذي يُفترض أنه كامن وراءهما. نازك الملائكة، وهي في الثانية والعشرين، لم تكن تألف ذلك، فهي نضجت مع الحداثة الغربية والعربية في مطلع القرن العشرين، وقطفت شيئاً من ثمارها. وحين تفجرت علينا سيول ما بعد الحداثة الغربية، كانت نازك ضائعة تماماً في بحران معتركها الداخلي، الذي توزع في متاهات الإيمان والتصوف. فهي مصونة، إذن، عن إغواء اللعب الشكلي. تحسن قراءة الموروث بحب، وتحسن الإنكليزية وتحب أدبها، وتحسن العزف على آلة العود وتحب الموسيقى الكلاسيكية.
في قصيدة "مر القطار" ما من شيء شكلي، في بناء البيت أو المقطع أو الفراغ. وكل كلمة تأخذ مكانها، وكذلك الصورة، لا في المجرى السائب المطواع، بل في البناء البصري المحدد في إطار، الذي تتشكل به الرؤيا الشعرية. قصائد نازك الأخرى في هذه المرحلة تأخذ الكلمات والصور مكانها في المجرى السائب المطواع، لأنها قصائد غنائية ورومانتيكية. على أنها هنا تبدو ثابتة، متجاوبة أو متقاطعة مع بعضها، لأنها كلمات وصور تريد أن تشكل لوحة، تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة بصورة جميلة تماماً.
لنقرأ القصيدة كما تلتقطها حواسنا البصرية والسمعية: ليلٌ ساكن، تقطعه أصواتٌ رتيبة لحمامة حيرى، ونباح كلب، وتكّات ساعة، ثم صوت قطار في جهة مجهولة سرعان ما يتلاشى في سكون الليل. هذا المشهد يرد على لسان الشاعرة، التي تبدأ في تخيّل عرباتِ القطار، والصفِّ الطويل من الساهرين والمتعبين، الذين سئمت عيونهم، وقد أثقلها الليل، النظر إلى وجوه الراكبين المتكررة، وهي تلوح باهتة تحت ضوء مصباح القطار، كما تتخيل الضجرَ المرير في النفوس التي ملّت وأتعبها الانتظار، هي والحقائب والغبار. نراها تغفو دقائق من تعب ثم يوقظها صوت القطار أو حركته. وهنا يطل رأس بعض الراكبين متثائباً، نعسان، من إحدى النوافذ، ليحدق في القفار، ثم يرجع ليتأمل وجوه الآخرين الغرباء حتى يجهد ويكاد يغفو. إلا أن صوتاً يغمغم يوقظه من غفوته: "هذي العقارب لا تسير!/ كم مرَّ من هذا المساء؟ متى الوصول؟». وتدقّ الساعة، ويرتفع صفير القطار، ويلوح عبر الظلام ضوءُ محطة وقوف. وهنا يُتيح لنا المشهد، بسبب وقوف القطار، أن نتبيّنَ فتىً داخل إحدى العربات، منطوياً، ساهراً، يتنهد، ويتأمل النجوم. في عينيه برودةٌ بفعل الوجوم الطويل، وفي ملامح وجهه لونٌ غريب مُشرّب بحمرة أملتها حرارةُ الأحلام، وفي شفتيه فتور، وفي عينيه نصفُ إطباقة "وكأنها تخشى فرارَ أشعةٍ خلفَ الجفون". وهنا يُقرّبُ مشهدُ "الفتى الضجر الحزين" أكثر:
"عبثاً يحاول أن يرى في الآخرين
شيئاً سوى اللغز القديمْ
والقصةَ الكبرى التي سئم الوجودْ
أبطالَها وفصولَها ومضى يراقب في برودْ
تكرارها البالي السقيم
هذا الفتى..."
ثم يُقطع المشهد فجأة على صوت ورؤية أقدام الخفير، وعلى وجهه العابس الذي يطل خلف النافذة من خارج العربة. يرفع السراج فتلوح على ضوئه: الوجوه المتعبة، النائمون، الأعين المترقبة. بعدها تختفي مع انسحاب الخفير ومصباحه في الظلام الراكد:
"مرّ القطارُ وضاع في قلب القفارْ
وبقيت وحدي أسأل الليلَ الشرودْ
عن شاعري ومتى يعود؟
ومتى يجيء به القطار؟
أتراه مرّ به الخفيرْ
ورآه لم يعبأ به.. كالآخرينْ
ومضى يسيرْ
هو والسراج ويفحصان الراكبينْ
وأنا هنا مازلت أرقبُ في انتظارْ
وأود لو جاء القطار."
صوت الشاعرة في هذه الخاتمة يذكر صراحةً ما لمّح له تلميحاً في أول القصيدة. هنا تسأل عن شاعرها متى يعود. وفي مطلع القصيدة تلمّح: "عجلاته غزلت رجاءً بتُّ انتظرُ النهار/من أجله..". فهي تعوّل على عودة القطار (أي قطار؟) في عودة شاعرها. ثم نستعيد مشهد "الفتى الضجر الحزين"، في منتصف القصيدة، داخل إطار نافذة القطار، ونراه يتداخل مع ذكر الشاعر والتلميح له. هذا التداخل تُقبل أطرافه من أزمنة وأمكنة مختلفة. ولكنها لا تتقاطع هنا، بل تتداخل. خاصة وأن الشاعرة تلح بالتذكير، إذ تتساءل: "أتراه مرّ به الخفير/ورآه لم يعبأ به."..
دقاتُ الساعة البلهاء تلتهمُ الدقائق، وكلُّ دقيقة مقبلة هي غد. ولكنها بعد حين، داخل مشهد القطار، عقارب لا تسير. زمنان يتقاطعان هنا، كما تتقاطع الأمكنة: الشاعرة في غرفتها تحلم بمجيء شاعرها، والشاعر الضجر الحزين في عربة القطار. ثم مشهد الراكبين في عزلة الليل وصمته. ثم يضاف مشهدُ الخفير بوجهه العابس وهو يطل خلف الزجاج، "ويهزّ في يده السراج /فيرى الوجوهَ المتعبة /والنائمين وهم جلوسٌ في القطارْ /والأعينَ المترقبة/في كلّ جفنٍ صرخةٌ باسم النهارْ"، حتى ليأخذ الخفيرُ ومصباحه معنى أبعدَ من الواقع، معنى ميتافيزيقياً!
ولكن ألا يبدو القطار كذلك؟ والراكبون المتعبون أيضاً؟
ألا تذهب القصيدة، بفعل بعض التلميحات، هذا المذهب الرمزي منذ القراءة الأولى؟
إن جملة ".. وكلب ينبحُ النجمَ البعيد" تشي بذلك، وكذلك جملة: "وهناك في بعضِ الجهاتْ /مر القطار.."، وجملة: "ويطل بعض الراكبينْ /متثائباً، نعسانَ، في كسل يحدق في القفارْ.."، وكذلك رؤية الفتى الضجر الحزين للغز القديم وللقصة الكبرى "التي سئم الوجود أبطالها وفصولها..."
أذكر أنني اعتدتُ قراءة هذه القصيدة كلما وقعتْ عيني على مجموعة نازك الملائكة الكاملة، ودائماً أشعر أنها قصيدة رائدة حقاً لحداثتها الشعرية، دون أن أقلل من شأن الانتقالة من وحدة البيت إلى وحدة التفعيلة.
والشاعرة نازك الملائكة لم تغفل الجديدَ في قصيدتها هذه. في مقدمتها لـ (شظايا ورماد) حاولت أن تنبه قارئها على جديدها، كما تراه، أو على الجديد الذي يتاح لقارئ تلك الأيام أن يراه. ولذلك كانت تكتفي، وهي متواضعة في ذلك، بالقليل من الاستجابة للدلالات الكثيرة في القصيدة. تكتب في مقدمتها:
"ولنْ يعثر القارئ على شيء مثير في قصيدة (مر القطار) إن هو توقع أن يجد فيها وصفاً لقطار أو لرحلة في القطار. فقد كان غرضي الأساسي من كتابتها أن أعبر عن الشعور الغامض الذي يحسه المسافر ليلاً بالدرجة الثالثة من القطار. فهناك حالة التعب الكلي التي يجد فيها المرء نفسه مشوبة بلون من الكسل والارتخاء. وهناك صوت عجلات القطار الرتيب الذي لا يتغير، ولون الغبار المتراكم على كل شيء، على الحقائب، وعلى الوجوه والثياب. ثم هناك منظر المسافرين الغرباء وقد جمعتهم عربة القطار صفوفاً. والقطار يصفر بين حين وحين فيثير إحساساً غريباً في النفس. كل ذلك والسكوت يغمر العربة، التي نام أغلب الموجودين فيها وهم جالسون على مقاعدهم. وبين فترة وأخرى، يصدف أن يتثاءب مسافر غريب لا نعرفه ويهتف بملل وبرود "كم الساعة الآن؟" أو "متى نصل؟" أو "أين نحن؟" أو مثل ذلك من العبارات. فإذا أحس قارئ "مر القطار" ببعض هذا الجو كان ذلك حسبي."