تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : (قرمشة ) مشعل السديري الشرق الاوسط


مشهور
22/01/2008, 04:20 PM
(قريميشة)

في سنة من السنوات ذهبت مع مجموعة من الرفاق في رحلة صحراوية، وفي إحدى الليالي، وبينما كنا متحلقين حول النار خارج خيامنا ونتجرع كؤوس الزنجبيل، وإذا برجل طاعن بالسن، غير انه كان ممشوقاً كالرمح، ولم تستطع الأعوام أن تنال منه، توقف أمامنا وسلم علينا، ورحبنا به ودعوناه للجلوس.
والواقع أن ملامح ذلك البدوي الرائع الواثق بنفسه ذكرتني بملامح الممثل (انتوني كوين)، ورغم قسوة تلك الملامح، إلاّ أنها كانت مسالمة وأليفة.. تحدثنا معه طويلاً، وشرب هو من زنجبيلنا وقهوتنا كثيراً، وما هي إلاّ أقل من ساعة على استمتاعنا بسماع ذكرياته وأحاديثه التي لا تمل، حتى قام من مكانه مودعاً، حاولنا استبقاءه للعشاء غير انه اعتذر وأصر على الرحيل، رغم أنني كنت على يقين انه جائع، وهناك احتمال أن الزاد لم يطب جوفه قبل أكثر من يوم أو يومين.
وعرفت من كلامه انه عازب بعد أن توفيت زوجته التي لم تنجب له أي ولد أو بنت، لهذا فهو يعيش وحيداً مع قطيع من الخراف تقارب ثلاثمائة رأس، ويؤنس وحدته كذلك ثلاثة من الكلاب الأوفياء، وأربعة من البعارين ـ على حد قوله ـ وأنه الآن في مكان لا يبتعد عن مخيمنا أكثر من عشرة كيلومترات.
لم أنم تلك الليلة نوماً كاملاً، لأنني كنت خلالها أفكر في ذلك الرجل وأحسده في حياته الحرة تلك، وأقول في نفسي: يا ليتني كنت مكانه، وقبل أن تبزغ عين الشمس بساعة كاملة، وإذا بي ارمي باللحاف جانباً مثل (فرقع لوز)، واخرج من الخيمة حافياً لأرقب آخر نجوم السماء التي سوف تغيب.. وعقدت العزم على زيارة ذلك الرجل في (عقر خلائه).
وفعلاً امتطيت جيبي (اللاندكروز) ـ عطى الله ـ، وما هي إلاّ دقائق، وإذا بي أقول له: السلام عليكم، رحب بي، وصاح على أحد كلابه وأسكته عن النباح، قائلاً له بمزح: عندنا ضيف يا كلب وليس ذئب.
مد لي (جاعد) من الصوف جلست عليه، وأحضر لي (مركا) هو عبارة عن شداد بعير ارتكيت عليه، وجهز لي قهوة من دلة سوداء أكل عليها الدهر وشرب واسمها (قريميشة)، شربت قهوته وكأنني اشرب ماء السلسبيل ـ أقول هذا الكلام وأنا صادق ـ، لقد كنت في حضرة ذلك الرجل الأميّ البسيط سعيداً جداً، وكأنني في حضرة (بروفيسور) يلقي محاضراته في جامعة السربون أو كيمبردج.
وعندما سألته عن عيشته الضنكة هذه قال لي: إنني اعتمد على هذه الخراف في حياتي، كما أنها تعتمد عليّ أيضاً في حياتها، انها أكثر المخلوقات ضعفاً، انه قد تمر عليّ أيام طويلة لا أرى فيها أي مخلوق، ومع ذلك لم أشعر بالوحدة يوماً.. هل ترى هذه النعجات المنتفخات البطون ـ وأشار لهن ـ انهن على وشك الولادة، وفرحتي بولادتهن لا تعادلها فرحة أغنيائكم الذين يكسبون الملايين.
قام من مكانه، ثم أتى وهو يحمل في يديه حملين صغيرين لا يتعدى عمرهما أياما، وجلس ووضعهما في حضنه بكل حنان، وكأنه يحضن طفلين، ووضع إبهامه في فم احدهما وأخذ الحمل يرضعه بكل حماسة، والرجل يكاد يغشى عليه من شدة الضحك وفرط السعادة، وطلب مني أن أضع إبهامي في فم الحمل الآخر، ووضعته وأخذ يرضع، وقال لي يسأل: بالله عليك ما هو شعورك؟! قلت له: سعيد، قال: ألا استحق الحسد إذن في عيشتي المتواضعة هذه، من ساكن أكبر قصر في مدينتكم، ولا يستطيع هو النوم إلاّ بواسطة الحبوب؟! رفعت له حاجبي، ولم أرد عليه، وإنما قلت بيني وبين نفسي: (الله عليك يا قريميشة) ما أطعمك.. وانصح من الآن أي امرأة حبلى، إذا ولدت بنتاً عليها أن تسميها (قريميشة).. وأنا اضمن لها تلك البنت، إما أن تكون حولاء، أو عينها زائغة. m.asudairy@asharqalawsat.com

http://www.asharqalawsat.com/01buttons/icon-email.gif (http://javascript<b></b>:fnEmail('/email/default.asp?section=3&did=455040');) http://www.asharqalawsat.com/01buttons/icon-print.gif (http://javascript<b></b>:fnPrint('/print/default.asp?did=455040');) http://www.asharqalawsat.com/01common/icon-comment.gif (http://javascript<b></b>:fnComment('comment.asp?section=3&did=455040');)
التعليــقــــات



احمد علي، «السويد»، 21/01/2008الكاتب الساخر المبدع مشعل، لقد احسنت في جملتك: نتجرع كؤوس الزنجبيل. واتمنى ان تصل السخرية في هذه الجملة الى اكثر القراء. مودتي.




محمد أبوغالب ( أبو أمين )، «المملكة العربية السعودية»، 21/01/2008والله ما أروعها من حياة طبيعية يعيشها ذلك الرجل خالية من كُل زائفة نعتقد بأننا نتميزعنه بالإستمتاع بها..ألا ليت الزمن يرجع للوراء ونعدل من وضع عيشتنا كما علي بن محمد ولكن للأسف الزمن لا يرجع للوراء.


والله إنه صادق بأن حياتنا في المُدن أثرت كثيراً على عاداتنا وصحتنا وأشياء كثيرة لا حصر لها ونسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
مقال رائع ومن واقع حياة البادية ولكن كنت أتمنى أن تختمه بدون تلك الأمنية ... تحياتي.


محمد شعيب، «الهند»، 21/01/2008شكـرا جزيلا يا استاذ. مقال جيد جدا، وذكرتني حياة الناس فـي صحراء العرب التي لا يوجد فيها القتل والقتال والغارة بل يعيش البدويون كعيشة طيبة هادئة خالية من جميع الضجات التي يعاني منها المدنيون في كل طرف من اطراف حياته بينما تسود فضاء الصحراء الامن والسلام في الصباح والمساء. ولماذا لا نحسد مثل هذه الحياة؟




عمر العرابي، «المملكة العربية السعودية»، 21/01/2008مقال رائع تسلم يمينك .


نعم نحن نفتقر إلى مثل هذه الأجواء الصافية البريئة في عالم متزاحم ومتخم برفاهية وسرعة الحياة ومما مايدع مجالا لشك أننا لابد من زيارة هذه الاماكن والمكوث بها والتمتع بجمالها الساحر الأخاذ وصفاء الذهن وراحة البال .
ارجوا الا تطيل الغياب فمقالاتك تشعرنا بالسعادة أدام الله عليك الصحة والعافية وراحة البال .


رولا القحطاني، «لبنان»، 21/01/2008مقالتك اليوم سيدي اسعدتنا , فكل واحد يأتي عليه وقت يحنّ به الى الماضي ، والى الجذور ، فصدّق كلام البدوي عن ان فرحته اكبر من فرحة الاغنياء الذين يكسبون الملايين , فمنهم بصدق من يتحسّر ويتمنى العودة الى الصحراء وتلك الايام والعيش على التمر وحليب الناقة . ولا ننسى نفوس ابناء تلك المنطقة، فهم القادرون على تلوين الحياة هناك وجعلها افضل.




أسامة عبدالله، «المملكة العربية السعودية»، 21/01/2008ذكرتني يا استاذي العزيز بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما من نبي إلا ورعى الغنم, عجيبة هذه الحكمة الإلهية بجعل الأنبياء صفوة خلقه يمتهنون رعي الأغنام وما سر هذه المهنة في صقل وتعليم الأنبياء على الرحمة بالعباد الضعفاء بعد ذلك. سبحان الله.




طلال السلمي، «المملكة العربية السعودية»، 21/01/2008الاستاذ مشعل: حياة البادية أفضل حلاً مما تعيشه في عالمنا المليء بالصخب واللا احساس بطعم كل شيء حولنا. كاتبنا القدير كل ما ذكرت لا يخرج عن كونه مقالا أصاب الحقيقة، سواءً بتركيز منك، أو خبط عشواء. ومصداق ذلك ما ورد عن المصطفى، فعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله ؟ قال : (مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ) قال : ثم من؟


قال( رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه) فهنيئاً لكل بدوي خصص له كاتبنا العزيز مقالا يتحدث فيه عن حالة الأفضل والذي لا يستطيع أهل الحاضرة التلذذ بالحياة كما هو حال البدوي.


جابر سعد الجابرى، «السويد»، 21/01/2008أستاذي مشعل، هل كنت تتوقع أن الراعي أقل دراية من أهل المدن؟ هذا الرجل الذي تتحدث عنه سيموت دفاعا عن جاره وأهل بيته إذا حصل لهم سوء، وهل سيفعل ذلك أهل المدن يا أستاذ؟ وإذا كان جوابك نعم أين نحن من أهل غزة؟ وإذا كان جوابك لا، ما السبب في ذلك؟ السبب هو حب الدنيا والسلطة والمال يا أستاذ مشعل، وماذا قال عنك البدوي؟ الم يقل لك أنه أسعد من أصحاب الملايين؟ هذا البدوي الذي تتحدث عنه أقوى وأشجع من


خريجي الجامعات التي أشرت إليه. وهل العلم يجعل من الإنسان ذو شخصية قوية؟ لا أبدا، لا يفيد العلم من كان شخصيته ضعيفة، وجبانة، العلم نعمة بالنسبة للعاقل، ونقمة بالنسبة لغير العاقل. البدوي العاقل أفضل من المتعلم الذي يحمل أعلى درجة جامعية. أستاذي نحن بحاجة الى البدوي العاقل الذي يراعي مصلحة أمته. هل حكيت
له حال أمتنا في المدن لكي تتعرف إليه أكثر؟ هل حكيت له عن أهل غزة وما حل بهم، وموقف العرب عن قضيتهم؟ وهل حكيت له عن حال العراق؟ لو فعلت ذلك، لمنعك من العودة الي المدينة، وأعطاك قليلا
مما يملك هو. وربما أقنعك بالهجرة من المدينة الى البادية، بعيدا عن المذابح والحصار والإرهاب والغلاء.


عواطف علي احمد (الكويت )، «الكويت»، 21/01/2008شكرا أستاذ مشعل على هذا المقال الرائع وصحيح ما قاله الرجل البدوي انهم محسودين على هذه العيشة الرائعة فلا يوجد الحقد والحسد والقلق والخوف من الغد من كل قلبي أتمنى له ولك عمرا مديدا وصحة وعافية بطاعة الرحمن.




صالحة الكعبي، «المملكة العربية السعودية»، 21/01/2008لكل نمط من أنماط الحياة مميزات وعيوب ..


إننا قد نحن لحياة البادية بما فيها من بساطة وهدوء وبعد عن تقعيدات الحياة العصرية ..
ولكن هذا لا يعني أن العيش بهذه الطريقة المتطرفة أفضل من العيش في كنف الحضارة .. كما أنه لا شئ أصعب على النفس البشرية من الوحدة والعزلة .. وقطيع من الخراف لا يعادل أنيسا بشريا ينادمه ويستأنس به .. لأنه إن سقط على فراش المرض فلن ينفعه ثغاء الخراف ولا نباح الكلاب ..


صيته المشاري، «الولايات المتحدة الامريكية»، 21/01/2008شكرا ويعطيك العافيه..احب مقالاتك كثيرا.




خالد الفريدي، «المملكة العربية السعودية»، 21/01/2008اخي مشعل هل تعرف انني من عشاق المدن بصخبها ووهجها، وذلك لانني اجتماعي إلى درجة الجنون. ولكني لم اعرف شخصا اكثر منك تميزا بخياله الواسع.




علي الجابر المري، «الكويت»، 21/01/2008أستاذ مشعل أسعد الله وقتك بكل خير وأسقانا وإياك وكل مسلم من زنجبيل الآخرة، اما بخصوص صديقك البدوي فهو فعلا لا يحسد أهل القصور على ما هم فيه لأنه ذاق حلاوة بساطة العيش والغني ليس بالغني بالشيء لكن الغني عن هذا الشيء فهذا البدوي غني عن ما عندنا في المدينة من وسائل متقدمة وتكنولوجيا متطورة فهو لا يشغل باله بأخبار العالم السياسة ولا سعر الدولار مقابل الأسترليني ولا سعر برميل النفط ولا تداعيات فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية ولا استمرار الحزب الجمهوري ولا حتى سوق الأسهم المحلية وأتوقع أنه لا يشغل باله غير ما عنده من أغنام وهمه الوحيد هو رعايتها والمحافظة على إنتاجها خصوصا انه ليس له أبناء يرعاهم فهذه الأغنام بمثابة عائلته الوحيدة ومصدر رزقه في هذه الدنيا. أما بخصوص قريميشه فأنا متأكد ان طعمها رائع ومذاقها طيب ولكن لن يسمي أحد ابنته باسمها.



[/motr]
[/motr1]

رحاب الرحمن
22/01/2008, 05:44 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرا لك مديرنا العام مقال رائع جدا لللاستاذ مشعل السديرى
بارك الله فيك مديرنا العام و ننتظر مزيد من مواضيعك الطيبة