صقر الجنوب
17/03/2008, 01:47 AM
http://www.saaid.net/wahat/mhajjad/mhajjad.jpg
الأخلاق بين السائل والمجيب
http://www.al-mahmoud.net/mohammad/photos/15985.jpg
فضيلة الشيخ / موسى محمد هجاد الزهراني
مشرف منتديات رباع
قال الشاعر :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يعجبني أحد مشايخي الكرام (1)؛ ويدهشني خلقه العظيم؛ وعدم استخفافه بعقل من يكلمه أو يستصغره أبداً، بل يعظمه ويجله حتى لو علم أنه من صغار طلبة العلم.. فتراه عندما تسأله عن مسألةٍ ما؛ يعطيك أولاً جوابها؛ ثم يقرن إجابته بالدليل؛ وربما ذكر لك أقوال المخالفين والرد عليهم بإيجاز غير مُخل؛ وربما احتاج إلى ذكر رأيه وما ترجح لديه هو فيذكره بكل أدب وتقوى – أحسبه كذلك – دون تجريح لأحدٍ أو تسفيه لأقوال المخالف أو التشنيع عليه.. ثم هو قبل ذلك يبدؤك بأحسن تحية؛ وكأنه يعرفك منذ زمن بعيد؛ ثم تكتشف بعد قليل أن لا يعرفك. ولم تصدر تحيته تلك عن سابق معرفة وإنما هو طبعٌ طبعه الله عليه فزاده العلم توهجاً.. وهو مع ذلك من أعمدة العلم في هذا الزمان على الأقل في نظري أنا أو من يُعتد بشهادته في المدينة التي يعيش بها؛ من أهل العلم وطلابه من هم أفضل وأتقى وأعلم من كاتب هذه السطور – إن كان لديه مما كتب شيء- وأعجب من هذا أنه كثير الزيارة لتلاميذه والتفقد لهم والتودد إليهم مع كثرة أشغاله ودروسه؛ وله كتاب... (قواعد التفسير!) لو ألفَّه أحد العلماء السابقين لطار صيته في الأمصار ولسارت بذكره الركبان..ولكنه أُلِّفَ في زمنٍ غلب عليه تمجيد السافل؛ وتهميش الماجد!.ولست أغلو فيه ولكنني أذكر فضله.
تراه إذا ما جئته متهللاً *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
الشاهد!.. أنني اتصلت به مرة لأسأله عن مسائل في المناسك؛ وكنت بين الناس في (مِنى) قرب الجمرات؛ وكان الصوت في الهاتف يذهب ويأتي.. فرحّب بي وأطال الترحيب والسؤال عن أحوال الناس في الحج.. ثم أجابني عن أسئلتي.. فقلت له: هذا رقم هاتفي إذا أردتني.. قال بكل أدب: لكنني لم أعرفك! فقلت: أنا فلان.. فازداد ترحيباً بي وسؤالاً عني وعن الإخوة في حملة الحج فازداد عجبي منه.. وقلت في نفسي.. لو يعلم – حفظه الله – أنني اتصلت مرة بمن يُشار إلى أشرطته وكتاباته بالبنان فسألته سؤالاً فأجابني؛ ثم طلبت منه طلباً يقدر عليه؛ فأحالني على شخصٍ ما؛ فقلت له: وهل يحتاج ورقة منكم؟ فرد عليّ (خليك واقعي.. ورقة بالتلفون؟)..فاستأتُ جداً؛ وتضاءلت في نفسي؛ وتمنيت أني لم أتصل به ولم أكلمه؛ مع أنه كان يمكنه أن يقول لي إحدى كلمتين: إما نعم أو لا! ولا يجرحني. وكان الكلام في سياق الجد لا الهزل.. فلم أكلمه بعدها مستفتياً إلاَّ مسلّماً حق المسلم على المسلم. أعرف أنني مخطأ ولكن نفسي تأبى الذل. وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم؛ ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق) رواه البزار عن أبي هريرة مرفوعاً بسند حسن..
وقديماً قال المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليُسعدِ النطقُ إن لم يسعد الحال
وآخر.. اتصلت به لأنقل له رؤيا ابتلاني بها أحد المصلين... فقال لي (بسرعة لو سمحت) فأسمعته الرؤيا فردّ رداً لا أعرف هل هو لي أم للذي يجلس بجواره؛.. ثم أردت أن أستفهم؛ فقال لي بلهجة حادة: (أنا مشغول الآن؛ عندي درس للشباب..) وأغلق الخط والله في وجهي.. فالتفتُّ حولي لأرى هل رآني من أحدٍ؛ لأن وجهي من الخجل أصبح كمؤخرة القرد في اليوم الصائف إذا وضعها على صخرة من صخور تهامة!؛ مع أنني أخبرته _ أعني الأخ وليس القرد!_ أنني إمامٌ وخطيبٌ في الناس بجامع كذا في مدينة كذا وأنني تعبت حتى حصلت على رقمه وتعبت أخرى حتى رد عليَّ ذلك الرد الذي فاح عبيره حتى أزكمكم! وأخبرته أن السائل يهمه تعبير رؤياه أكثر من حكم أي مسألة فقهية؛ هكذا هم العوام.
وآخر.. إذا قلت السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ قال (..كُم السلام!..)...فإذا قلت: كيف حالك؛ رد عليك (عطني السؤال لو سمحت بسرعة) عندها تنفتح نفسك؛ وينشرح صدرك لسؤاله جداً!. فإذا قدر الله وصافحته؛ مدَّ إليك طرف أصابعه؛ مع أنه يملك يداً – ما شاء الله – طولها 50 سنتيمتراً فلماذا يبخل بـ 48 سنتيمتراً ويمد إليك 2 سنتيمترات فقط؛ ونسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس أخلاقاً؛ وكان إذا صافح أحداً لم ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها.
وثالث.. أو رابع نسيت العدد! يُحب إحراج السائل أمام الناس في المجلس أو المسجد لأحد أمرين: إما ليواري جهله وراء وقاحته ولعجزه عن الإجابة؛ وإما لتعاليه عن مستوى السائل واغتراره بعلمه الجم حتى يتمنى السائل أنه سأل شارون! أو أخاه من الرضاعة إبليس ولم يسأل هذا. والمشكلة الشائكة أن كثيراً من تلاميذ هذا الزمان فُتنوا بتقليد معلميهم حتى في النحنحة والمشي والسعال.
نعم إن جاء التقليد تلقائياً لا متكلفاً فهذا أمرٌ آخر؛ لكن القضية أنهم يقلدونهم في هذه الأخلاق ظناً منهم أن الهيبة إنما تكتسب من جراء ذلك؛ ونسوا أنها هبة من الله - تعالى - يهبها الأتقى لله؛ فيظن العوام أن هذه هي الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام وما ينبغي أن يكون عليه كل الملتزمين وطلبة العلم.
رحمة الله على ابن باز وابن العثيمين! كان الرجل منهم يُسئل المسألة الواحدة عشرات المرات ولا سيما في موسم الحج فيجيب عنها بكل أريحية؛ دون اقتضاب ولا إسهاب ولا ملل ولا ضجر.
ولماذا ابن باز والعثيمين - رحمهما الله -؟.. لأنهما كبرا في السنِّ جداً ولا سيما الشيخ / عبد العزيز؛ حتى أنه قارب التسعين:
تسعون عاما مضت بالخير ليس بها *** إلا التقرب للرحمن بالحَسن
وكبير السن تزداد مع مرور الوقت أمراضه؛ وتضيق نفسه ويزداد ضجره وملله ويكثر انتهاره لمن حوله ويغضب لأتفه الأسباب.. أما هما فلا! سبحان من أكرمهما بحُسن الخُلُق وتحمُّلِ الخَلْقِ. ثم إنهما قد بلغا شأواً في العلم لم يبلغه أحد في هذا الزمان؛ فكانا كلما عَلَيَا في مدارك الكمال البشري؛ دَنَيَا من الناس.. بعكسنا تماماً؛ فكلما ظننا أننا ازددنا علماً؛ ازددنا من الأخلاق اللينة تجافيا؛ وعلى الناس تعالياً؛ وكأن الواحد منا سيحتاجه الناس حاجتهم إلى الليث بن سعد وابن المبارك وابن تيمية وابن حجر رحمهم الله! فيتحملون جفوتنا مقابل علمنا.
الناس اليوم حاجتهم إلى الأدب وحسن الخلق أكثر من حاجتهم إلى العلم كما قال ابن المبارك - رحمه الله -(نحن إلى قليل من الأدب أحوج إلى كثير من العلم).. وكم من مستفتٍ سأل عن عويص المسائل؛ عن مسألة تتعلق بأشد الحرام؛ فجاءه الجواب بالكفارة المغلظة مثلاً أو أشد العقوبات؛ فقبلها بصدر رحيب؛ وربما يفرح بها؛ أتعرف لماذا؟ لأنه سمع الجواب من الشيخ فأحس أنه أحرص عليه من نفسه وأنه تفاعل معه ومع قضيته فأعطاه الجواب من نفسٍ دمثة وبخلقٍ عالٍ سامٍ.. فقبلها السائل رغم تبعاتها الصعبة جداً!. بينما العكس قد يقع لمن يسأل عن مسألة أستحي من ذكرها.. فيجد الجواب المميت؛ وكأنه ألحد في الحرم أو نبش قبور الأنبياء! فيكره العلم وأهله ومجالسَه ما بقي؛ إن لم يكن لديه إيمان صادق وعقل راجح.. والحمد لله أن الأعرابي الذي وقع على امرأته في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في نهار رمضان لم يسأل (..بعض) من ذكرنا في هذا الزمان وإلاَّ لجاءه الجواب: (يا فاجر!.. ما تخاف الله؟.. تجامع في رمضان؟.. تستهزئ بالدين؟.. عندك ثنتا عشرة ساعة من المغرب إلى الفجر جامع فيها حتى تدوخ!).. لكنه سمع الفتوى من أرأف الخلق بالخلق - صلى الله عليه وسلم - بصيغة عجيبة ليس فيها إلزام لفظي؛( هل تجد رقبة تعتقها.. هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين.. هل تستطيع إطعام ستين مسكيناً...) ثم لما راجعه الأعرابي وقال في آخر كلامه (والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا) ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال خذه فأطعمه أهلك.
لم ينتشر العلم في زمنٍ مثلما انتشر في هذا الزمان؛ من إنترنت أو قنوات فضائية أو كتب وكتيبات أو أشرطة؛ والناس سيحصلون على ما يريدون منها غالباً.. لكن سوء الخلق لم يكن في زمنٍ أسوأ منه في هذا الزمان..
ونسي هؤلاء الأحاديث الكثيرة التي تدل عل حسن الخلق وأهميته؛ وأن صاحبه يبلغ درجة الصائم القائم؛ وأنه من أحب الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة وأقربهم إليه مجلساً؛ وأن حسن الخلق ذهب بخيري الدنيا والآخرة وأن ابتسامتك في وجه أخيك المسلم صدقة. يقولونها في خطبهم ويأمرون بها الناس وينسون أنفسهم؛ وكأنهم مستثنون من تلك الأوامر..
وإن شئت المزيد من هذه المآسي.. فافتح الإذاعة لتسمع الصراخ ورفع الصوت حتى تكاد تنقطع عروق الرقبة؛ وتبح الحبال الصوتية.. بين جمع من الناس في برنامج علمي؛ كُلُّهم ضد شخص واحد يسومونه سوء العذاب.. تحت مسمى (مناقشة رسالة علمية.. ماجستير أو دكتوراه) حتى إنك تسمع من بعضهم الاستهزاء الصريح بمقدم الأطروحة إذا نسي حرفاً أو نصب مرفوعاً تكرم به من طبع الرسالة!. وكلٌ يريد أن تأتي الرسالة كما يتصورها هو لا كما يريدها البحث العلمي... وبعد أن يستنزفوا كل قطرة عرق في جسم المسكين ويمسحوا بعزته الأرض.. يقولون (وبعد المداولة.. قررنا منح الطالب المسكين درجته التي كان يحلم بها منذ أن ولدته أمه.. بتقدير (.......) ونوصيه بتقوى الله و...حُسن الخلق.. وألاّ يأكل الدنيا بالدين...).
ولا أستطيع أن أتحدث عن (بـعــض)! الأخلاق العظيمة التي يتمتع بها (بـعــض) القضاة.. كي لا يصدر ضدي حكم يقضي بتفسيقي وتبديعي وخروجي عن الطاعة.. ولا أستطيع أن أذكر أنني دخلت مع أحد الإخوة وكان له منصب في عمله كبير؛ وله في العلم اليد الطولى.. على أحد كبار القضاة..لنرجوه التوسط والشفاعة لدى التجار! ليتبرعوا..بفرش مسجد جامع كبير لم يفرش من العهد الأموي!.. فخاطبنا والله وأقدامه على الطاولة لم ينزلها؛ وقال: سهل.. صلوا على البلاط الله يبارس! فيك.
فكدت أتكلم.. فغمزني صاحبي أن اسكت قبل أن يُحنطنا في السجن.. ولا يسأل عنا أحد!.
* * *
عموماً (الدنيا فيها خير.. ولا يزال الناس بخير) حتى أخرج من الحرج؛ وأتقي سياط أَلسنة أصحاب الفكر السطحي؛ والتهم الجُزاف.. الذين يلصقونها بكل من أراد نقد شيء لإصلاحه؛ ويرمونه ببغض الدين – أعوذ بالله – والملتزمين وطلبة العلم.. والله - تعالى - من وراء القصد..
(1) – لا يعني هذا انتقاص الآخرين معاذ الله ؛ فلا يوجد مسلم في الدنيا ينتقص مسلماً فضلاً عن كونه ينتقص عالماً.. ولكنها خواطر أبت أن تظل حبيسة الصدر.
الأخلاق بين السائل والمجيب
http://www.al-mahmoud.net/mohammad/photos/15985.jpg
فضيلة الشيخ / موسى محمد هجاد الزهراني
مشرف منتديات رباع
قال الشاعر :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يعجبني أحد مشايخي الكرام (1)؛ ويدهشني خلقه العظيم؛ وعدم استخفافه بعقل من يكلمه أو يستصغره أبداً، بل يعظمه ويجله حتى لو علم أنه من صغار طلبة العلم.. فتراه عندما تسأله عن مسألةٍ ما؛ يعطيك أولاً جوابها؛ ثم يقرن إجابته بالدليل؛ وربما ذكر لك أقوال المخالفين والرد عليهم بإيجاز غير مُخل؛ وربما احتاج إلى ذكر رأيه وما ترجح لديه هو فيذكره بكل أدب وتقوى – أحسبه كذلك – دون تجريح لأحدٍ أو تسفيه لأقوال المخالف أو التشنيع عليه.. ثم هو قبل ذلك يبدؤك بأحسن تحية؛ وكأنه يعرفك منذ زمن بعيد؛ ثم تكتشف بعد قليل أن لا يعرفك. ولم تصدر تحيته تلك عن سابق معرفة وإنما هو طبعٌ طبعه الله عليه فزاده العلم توهجاً.. وهو مع ذلك من أعمدة العلم في هذا الزمان على الأقل في نظري أنا أو من يُعتد بشهادته في المدينة التي يعيش بها؛ من أهل العلم وطلابه من هم أفضل وأتقى وأعلم من كاتب هذه السطور – إن كان لديه مما كتب شيء- وأعجب من هذا أنه كثير الزيارة لتلاميذه والتفقد لهم والتودد إليهم مع كثرة أشغاله ودروسه؛ وله كتاب... (قواعد التفسير!) لو ألفَّه أحد العلماء السابقين لطار صيته في الأمصار ولسارت بذكره الركبان..ولكنه أُلِّفَ في زمنٍ غلب عليه تمجيد السافل؛ وتهميش الماجد!.ولست أغلو فيه ولكنني أذكر فضله.
تراه إذا ما جئته متهللاً *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
الشاهد!.. أنني اتصلت به مرة لأسأله عن مسائل في المناسك؛ وكنت بين الناس في (مِنى) قرب الجمرات؛ وكان الصوت في الهاتف يذهب ويأتي.. فرحّب بي وأطال الترحيب والسؤال عن أحوال الناس في الحج.. ثم أجابني عن أسئلتي.. فقلت له: هذا رقم هاتفي إذا أردتني.. قال بكل أدب: لكنني لم أعرفك! فقلت: أنا فلان.. فازداد ترحيباً بي وسؤالاً عني وعن الإخوة في حملة الحج فازداد عجبي منه.. وقلت في نفسي.. لو يعلم – حفظه الله – أنني اتصلت مرة بمن يُشار إلى أشرطته وكتاباته بالبنان فسألته سؤالاً فأجابني؛ ثم طلبت منه طلباً يقدر عليه؛ فأحالني على شخصٍ ما؛ فقلت له: وهل يحتاج ورقة منكم؟ فرد عليّ (خليك واقعي.. ورقة بالتلفون؟)..فاستأتُ جداً؛ وتضاءلت في نفسي؛ وتمنيت أني لم أتصل به ولم أكلمه؛ مع أنه كان يمكنه أن يقول لي إحدى كلمتين: إما نعم أو لا! ولا يجرحني. وكان الكلام في سياق الجد لا الهزل.. فلم أكلمه بعدها مستفتياً إلاَّ مسلّماً حق المسلم على المسلم. أعرف أنني مخطأ ولكن نفسي تأبى الذل. وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم؛ ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق) رواه البزار عن أبي هريرة مرفوعاً بسند حسن..
وقديماً قال المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليُسعدِ النطقُ إن لم يسعد الحال
وآخر.. اتصلت به لأنقل له رؤيا ابتلاني بها أحد المصلين... فقال لي (بسرعة لو سمحت) فأسمعته الرؤيا فردّ رداً لا أعرف هل هو لي أم للذي يجلس بجواره؛.. ثم أردت أن أستفهم؛ فقال لي بلهجة حادة: (أنا مشغول الآن؛ عندي درس للشباب..) وأغلق الخط والله في وجهي.. فالتفتُّ حولي لأرى هل رآني من أحدٍ؛ لأن وجهي من الخجل أصبح كمؤخرة القرد في اليوم الصائف إذا وضعها على صخرة من صخور تهامة!؛ مع أنني أخبرته _ أعني الأخ وليس القرد!_ أنني إمامٌ وخطيبٌ في الناس بجامع كذا في مدينة كذا وأنني تعبت حتى حصلت على رقمه وتعبت أخرى حتى رد عليَّ ذلك الرد الذي فاح عبيره حتى أزكمكم! وأخبرته أن السائل يهمه تعبير رؤياه أكثر من حكم أي مسألة فقهية؛ هكذا هم العوام.
وآخر.. إذا قلت السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ قال (..كُم السلام!..)...فإذا قلت: كيف حالك؛ رد عليك (عطني السؤال لو سمحت بسرعة) عندها تنفتح نفسك؛ وينشرح صدرك لسؤاله جداً!. فإذا قدر الله وصافحته؛ مدَّ إليك طرف أصابعه؛ مع أنه يملك يداً – ما شاء الله – طولها 50 سنتيمتراً فلماذا يبخل بـ 48 سنتيمتراً ويمد إليك 2 سنتيمترات فقط؛ ونسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس أخلاقاً؛ وكان إذا صافح أحداً لم ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها.
وثالث.. أو رابع نسيت العدد! يُحب إحراج السائل أمام الناس في المجلس أو المسجد لأحد أمرين: إما ليواري جهله وراء وقاحته ولعجزه عن الإجابة؛ وإما لتعاليه عن مستوى السائل واغتراره بعلمه الجم حتى يتمنى السائل أنه سأل شارون! أو أخاه من الرضاعة إبليس ولم يسأل هذا. والمشكلة الشائكة أن كثيراً من تلاميذ هذا الزمان فُتنوا بتقليد معلميهم حتى في النحنحة والمشي والسعال.
نعم إن جاء التقليد تلقائياً لا متكلفاً فهذا أمرٌ آخر؛ لكن القضية أنهم يقلدونهم في هذه الأخلاق ظناً منهم أن الهيبة إنما تكتسب من جراء ذلك؛ ونسوا أنها هبة من الله - تعالى - يهبها الأتقى لله؛ فيظن العوام أن هذه هي الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام وما ينبغي أن يكون عليه كل الملتزمين وطلبة العلم.
رحمة الله على ابن باز وابن العثيمين! كان الرجل منهم يُسئل المسألة الواحدة عشرات المرات ولا سيما في موسم الحج فيجيب عنها بكل أريحية؛ دون اقتضاب ولا إسهاب ولا ملل ولا ضجر.
ولماذا ابن باز والعثيمين - رحمهما الله -؟.. لأنهما كبرا في السنِّ جداً ولا سيما الشيخ / عبد العزيز؛ حتى أنه قارب التسعين:
تسعون عاما مضت بالخير ليس بها *** إلا التقرب للرحمن بالحَسن
وكبير السن تزداد مع مرور الوقت أمراضه؛ وتضيق نفسه ويزداد ضجره وملله ويكثر انتهاره لمن حوله ويغضب لأتفه الأسباب.. أما هما فلا! سبحان من أكرمهما بحُسن الخُلُق وتحمُّلِ الخَلْقِ. ثم إنهما قد بلغا شأواً في العلم لم يبلغه أحد في هذا الزمان؛ فكانا كلما عَلَيَا في مدارك الكمال البشري؛ دَنَيَا من الناس.. بعكسنا تماماً؛ فكلما ظننا أننا ازددنا علماً؛ ازددنا من الأخلاق اللينة تجافيا؛ وعلى الناس تعالياً؛ وكأن الواحد منا سيحتاجه الناس حاجتهم إلى الليث بن سعد وابن المبارك وابن تيمية وابن حجر رحمهم الله! فيتحملون جفوتنا مقابل علمنا.
الناس اليوم حاجتهم إلى الأدب وحسن الخلق أكثر من حاجتهم إلى العلم كما قال ابن المبارك - رحمه الله -(نحن إلى قليل من الأدب أحوج إلى كثير من العلم).. وكم من مستفتٍ سأل عن عويص المسائل؛ عن مسألة تتعلق بأشد الحرام؛ فجاءه الجواب بالكفارة المغلظة مثلاً أو أشد العقوبات؛ فقبلها بصدر رحيب؛ وربما يفرح بها؛ أتعرف لماذا؟ لأنه سمع الجواب من الشيخ فأحس أنه أحرص عليه من نفسه وأنه تفاعل معه ومع قضيته فأعطاه الجواب من نفسٍ دمثة وبخلقٍ عالٍ سامٍ.. فقبلها السائل رغم تبعاتها الصعبة جداً!. بينما العكس قد يقع لمن يسأل عن مسألة أستحي من ذكرها.. فيجد الجواب المميت؛ وكأنه ألحد في الحرم أو نبش قبور الأنبياء! فيكره العلم وأهله ومجالسَه ما بقي؛ إن لم يكن لديه إيمان صادق وعقل راجح.. والحمد لله أن الأعرابي الذي وقع على امرأته في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في نهار رمضان لم يسأل (..بعض) من ذكرنا في هذا الزمان وإلاَّ لجاءه الجواب: (يا فاجر!.. ما تخاف الله؟.. تجامع في رمضان؟.. تستهزئ بالدين؟.. عندك ثنتا عشرة ساعة من المغرب إلى الفجر جامع فيها حتى تدوخ!).. لكنه سمع الفتوى من أرأف الخلق بالخلق - صلى الله عليه وسلم - بصيغة عجيبة ليس فيها إلزام لفظي؛( هل تجد رقبة تعتقها.. هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين.. هل تستطيع إطعام ستين مسكيناً...) ثم لما راجعه الأعرابي وقال في آخر كلامه (والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا) ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال خذه فأطعمه أهلك.
لم ينتشر العلم في زمنٍ مثلما انتشر في هذا الزمان؛ من إنترنت أو قنوات فضائية أو كتب وكتيبات أو أشرطة؛ والناس سيحصلون على ما يريدون منها غالباً.. لكن سوء الخلق لم يكن في زمنٍ أسوأ منه في هذا الزمان..
ونسي هؤلاء الأحاديث الكثيرة التي تدل عل حسن الخلق وأهميته؛ وأن صاحبه يبلغ درجة الصائم القائم؛ وأنه من أحب الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة وأقربهم إليه مجلساً؛ وأن حسن الخلق ذهب بخيري الدنيا والآخرة وأن ابتسامتك في وجه أخيك المسلم صدقة. يقولونها في خطبهم ويأمرون بها الناس وينسون أنفسهم؛ وكأنهم مستثنون من تلك الأوامر..
وإن شئت المزيد من هذه المآسي.. فافتح الإذاعة لتسمع الصراخ ورفع الصوت حتى تكاد تنقطع عروق الرقبة؛ وتبح الحبال الصوتية.. بين جمع من الناس في برنامج علمي؛ كُلُّهم ضد شخص واحد يسومونه سوء العذاب.. تحت مسمى (مناقشة رسالة علمية.. ماجستير أو دكتوراه) حتى إنك تسمع من بعضهم الاستهزاء الصريح بمقدم الأطروحة إذا نسي حرفاً أو نصب مرفوعاً تكرم به من طبع الرسالة!. وكلٌ يريد أن تأتي الرسالة كما يتصورها هو لا كما يريدها البحث العلمي... وبعد أن يستنزفوا كل قطرة عرق في جسم المسكين ويمسحوا بعزته الأرض.. يقولون (وبعد المداولة.. قررنا منح الطالب المسكين درجته التي كان يحلم بها منذ أن ولدته أمه.. بتقدير (.......) ونوصيه بتقوى الله و...حُسن الخلق.. وألاّ يأكل الدنيا بالدين...).
ولا أستطيع أن أتحدث عن (بـعــض)! الأخلاق العظيمة التي يتمتع بها (بـعــض) القضاة.. كي لا يصدر ضدي حكم يقضي بتفسيقي وتبديعي وخروجي عن الطاعة.. ولا أستطيع أن أذكر أنني دخلت مع أحد الإخوة وكان له منصب في عمله كبير؛ وله في العلم اليد الطولى.. على أحد كبار القضاة..لنرجوه التوسط والشفاعة لدى التجار! ليتبرعوا..بفرش مسجد جامع كبير لم يفرش من العهد الأموي!.. فخاطبنا والله وأقدامه على الطاولة لم ينزلها؛ وقال: سهل.. صلوا على البلاط الله يبارس! فيك.
فكدت أتكلم.. فغمزني صاحبي أن اسكت قبل أن يُحنطنا في السجن.. ولا يسأل عنا أحد!.
* * *
عموماً (الدنيا فيها خير.. ولا يزال الناس بخير) حتى أخرج من الحرج؛ وأتقي سياط أَلسنة أصحاب الفكر السطحي؛ والتهم الجُزاف.. الذين يلصقونها بكل من أراد نقد شيء لإصلاحه؛ ويرمونه ببغض الدين – أعوذ بالله – والملتزمين وطلبة العلم.. والله - تعالى - من وراء القصد..
(1) – لا يعني هذا انتقاص الآخرين معاذ الله ؛ فلا يوجد مسلم في الدنيا ينتقص مسلماً فضلاً عن كونه ينتقص عالماً.. ولكنها خواطر أبت أن تظل حبيسة الصدر.