العالم المثالي
25/05/2008, 01:47 AM
أبو نواس
(762 – 814م د 14 – 199هـ)
حياته:
"ليس في ما جاءنا عن نسب أبي نواس ما يصح الاقتناع به والاطمئنان إليه، فالأقوال فيه متضاربة، والاختلاف غير قليل، على أن المشهور عنه أنه الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصبَّاح، وإن جده كان مولى الجراح ابن عبد الله الحكمي، والي خراسان، فنسب إليه، وأن أباه كان من جند مروان بن محمد، وهو من أهل الشام، وأن أمه فارسية من الأهواز، واسمهما جلبَّان.
" وكان يكنى في أول أمرة "أبا علي" ثم تكنى "بأبي النواس" لذؤابتين كانتا تنوسان على عاتقه وهو صبي. وقيل أن أستاذه "خلفاً الأحمر" كان له ولاء في اليمن، فقال له يوماً: "أنت من اليمن فتكنَّ باسم ملك من ملوكهم الأذواء". فاختار ذا نواس، فكناه أستاذه "أبا نواس" فغلبت عليه.
" وكانت ولادته في الأهواز من فارس، ذلك أن أباه "هانئاً" انتقل إليها مع الجيش، فتزوج فيه " جلبَّان" فولدت له عدة أولاد منهم الحسن، ومات أبوه وهو طفل، فانتقلت به أمه إلى البصرة وله من العمر سنتان، فنشأ هناك، ولما شب أسلمته إلى عطار يعمل عنده".
ولكن نفسه ما كانت لترضى هذه الصنعة، وبها نزوع شديد في الأدب، فكان لا يفتر عن مخالطة أهل المسجد، والأدباء المجَّان، وأخذ يتردد على باب "أبي عمرو بو العلاء" ، وكان الرواة والشعراء يجتمعون عنده، فاتصل بهم، وهو في العقد الأول من عمره، فاكتسب منهم أدباً وعلما، ولكنهم أضروا بأخلاقه بسبب مجونهم.
ولم يكن له من بسطة في العيش ما يقيه الحاجة فيصون ماء وجهه، فكان أصحاب المجون من الشعراء إذا أرادوا الخروج إلى نزهة، استأجروه بدينار، فيحمل لهم أدواتهم ويبقى معهم حتى يعودوا.
وكأن الأقدار أبت إلا أن تذيقه كاس الأدناس حتى الثمالة.. فأرسلت إليه "والبة بن الحُباب الأسدي" الشاعر الكوفي الخليع، فلقيه عند العطار فأعجبه ذكاؤه وأدبه، فحمله إلى الكوفة، وعني بتخريجه في الشعر، فأدَّبه بأدبه، وخلَّقه بأخلاقه، وعرَّفه بأصحابه المجَّان، فأصبح لا يطيب له إلا الاجتماع بهم، وفيهم أمثال: مطيع بن إياس وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، وحسبك بهم من عصابة سوء.
ولم يشأ أبو نواس أن يُعرف بالشعر قبل أن يخالط العرب الخلَّص، ويأخذ عنهم الغريب، ويستوي لسانه على الكلام الفصيح، شأن كل شاعر يريد أن يَنبه في ذاك العصر، فسأل أستاذه (والبة) أن يسمح له بالخروج إلى البادية مع وفد بني أسد، فأخرجه مع قوم منهم، فأقام في البادية سنة ثم قدم الكوفة، فلبث فيها مدة قليلة، ثم فارق "والبة" ورجع إلى البصرة فاختلف إلى كبار أئمتها، فأخذ عنهم شيئاً كثيراً، ثم شخص إلى بغداد، وكان سنَّه أربت على الثلاثين، ومقاليد الخلافة في يدي هارون الرشيد، فأتيح أن ينصل به فقربه الرشيد، وأحبه وأنعم عليه، وعفا عنه مراراً. وأطلقه سجنه، على أنه لم يخصه بذاته، فلقد كان الرشيد شديد الحرص على الخلافة، شديد الحفاظ على تقاليد الدين، ولا سيما أمام الرعية، فلم ير الحكمة أن يجعل الشاعر الخليع مختصاً بقصره.
لذلك لم يحظ أبو نواس الحظوة التي كان يأملها عند الرشيد، فتفرغ لمصاحبة المجَّان، فكانوا يجتمعون على الصَّراة (وهو نهر في العراق)، أو في سوق الكرخ، أو في روضة، أو في منزل، فيتذاكرون الشعر، ويستمتعون بأنواع الملذات التي ألفتها أذواقهم، وأشهر أصدقائه الحلفاء في بغداد: داوود ابن رزين الواسطي، والحسين بن الضحاك الأشقر الخليع، والفضل الرَّقاشي، وعمرو الورَّاق، والحسين الخياط، وعنان جارية الناطفيّ، واسماعيل القراطيسي، ورزين الكاتب أخو دعبل الخزاعي، وعلي بن الخليل، وفي القراطيسي يقول الأصفهاني:" كان مالفاً للشعراء، فكان أبو نواس، وأبو العاهية (قبل تزهده) ومسلم بن الوليد وطبقتهم يجتمعون عنده ويقصفون".
توبته وموته:
ولما قُتل الأمين، وظفر المأمون بالخلافة، أصاب أبا نواس شيء من الجزع والقنوط، وتنكر له الدهر، فتبرم بالحياة، وسئم ملاذها وغرورها، وأبى أن يتقرب من المأمون أو يمدحه، وكان المأمون قد جعل مقر الخلافة في خراسان، ولبث هناك نحواً من ست سنوات استتب له الأمر في بغداد فانتقل إليها.
وكان بوسع الشاعر أن يتصل به ويستميله بالمديح، ولكن لا يأس الذي ساوره بعد مقتل الأمين، جعله يزهد في الحياة الدنيا، وتراءى له شبح الموت فراعه، وأحسن أن قواه تحطمت، ففزع إلى ربه يستغفره، وأقلع عن المجون، وتنسك حتى هلك وهو على أشد ما يكون من الندم. وكان وفاته في بغداد وله من العمر نحواً من أربع وخمسين سنة.
ومما قاله في الندم وطلب عفو الله:
دبّ فيَّ الفناء سفلاً وعلواً=وأراني أموت عضواً فعضوا
ليس من ساعة مضت لي إلا=نقصتني بمرّها بي جزوا
ذهبت جدَّتي بطاعة نفسي= وتذكرت طاعة الله نضوا
لهف نفسي على ليالٍ=وأيام تمليتهن لعباً ولهواً
قد أسأنا كل الإساءة فاللهـم= صفحاً عنا وغفراً وعفوا
جاءني في الأغاني عن محمد بن إبراهيم الصوفي قال:
"دخلنا على أبي نواس نعوده في علته التي مات فيها، فقال له علي بن صالح الهاشمي: يا أبا علي، أنت في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وبينك وبين الله هنات، فتب إلى الله عز وجل. فبكى ساعة ثم قال: ساندوني ساندوني. ثم قال: أأخوف بالله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لكل نبي شفاعة، وأني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة"، أفتراني لا أكون منهم؟".
هذا الشعور بفشل الأباطيل هو الذي كان يدفع شاعرنا في أواخر أيامه إلى الندم والتحسر.ً
(762 – 814م د 14 – 199هـ)
حياته:
"ليس في ما جاءنا عن نسب أبي نواس ما يصح الاقتناع به والاطمئنان إليه، فالأقوال فيه متضاربة، والاختلاف غير قليل، على أن المشهور عنه أنه الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصبَّاح، وإن جده كان مولى الجراح ابن عبد الله الحكمي، والي خراسان، فنسب إليه، وأن أباه كان من جند مروان بن محمد، وهو من أهل الشام، وأن أمه فارسية من الأهواز، واسمهما جلبَّان.
" وكان يكنى في أول أمرة "أبا علي" ثم تكنى "بأبي النواس" لذؤابتين كانتا تنوسان على عاتقه وهو صبي. وقيل أن أستاذه "خلفاً الأحمر" كان له ولاء في اليمن، فقال له يوماً: "أنت من اليمن فتكنَّ باسم ملك من ملوكهم الأذواء". فاختار ذا نواس، فكناه أستاذه "أبا نواس" فغلبت عليه.
" وكانت ولادته في الأهواز من فارس، ذلك أن أباه "هانئاً" انتقل إليها مع الجيش، فتزوج فيه " جلبَّان" فولدت له عدة أولاد منهم الحسن، ومات أبوه وهو طفل، فانتقلت به أمه إلى البصرة وله من العمر سنتان، فنشأ هناك، ولما شب أسلمته إلى عطار يعمل عنده".
ولكن نفسه ما كانت لترضى هذه الصنعة، وبها نزوع شديد في الأدب، فكان لا يفتر عن مخالطة أهل المسجد، والأدباء المجَّان، وأخذ يتردد على باب "أبي عمرو بو العلاء" ، وكان الرواة والشعراء يجتمعون عنده، فاتصل بهم، وهو في العقد الأول من عمره، فاكتسب منهم أدباً وعلما، ولكنهم أضروا بأخلاقه بسبب مجونهم.
ولم يكن له من بسطة في العيش ما يقيه الحاجة فيصون ماء وجهه، فكان أصحاب المجون من الشعراء إذا أرادوا الخروج إلى نزهة، استأجروه بدينار، فيحمل لهم أدواتهم ويبقى معهم حتى يعودوا.
وكأن الأقدار أبت إلا أن تذيقه كاس الأدناس حتى الثمالة.. فأرسلت إليه "والبة بن الحُباب الأسدي" الشاعر الكوفي الخليع، فلقيه عند العطار فأعجبه ذكاؤه وأدبه، فحمله إلى الكوفة، وعني بتخريجه في الشعر، فأدَّبه بأدبه، وخلَّقه بأخلاقه، وعرَّفه بأصحابه المجَّان، فأصبح لا يطيب له إلا الاجتماع بهم، وفيهم أمثال: مطيع بن إياس وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، وحسبك بهم من عصابة سوء.
ولم يشأ أبو نواس أن يُعرف بالشعر قبل أن يخالط العرب الخلَّص، ويأخذ عنهم الغريب، ويستوي لسانه على الكلام الفصيح، شأن كل شاعر يريد أن يَنبه في ذاك العصر، فسأل أستاذه (والبة) أن يسمح له بالخروج إلى البادية مع وفد بني أسد، فأخرجه مع قوم منهم، فأقام في البادية سنة ثم قدم الكوفة، فلبث فيها مدة قليلة، ثم فارق "والبة" ورجع إلى البصرة فاختلف إلى كبار أئمتها، فأخذ عنهم شيئاً كثيراً، ثم شخص إلى بغداد، وكان سنَّه أربت على الثلاثين، ومقاليد الخلافة في يدي هارون الرشيد، فأتيح أن ينصل به فقربه الرشيد، وأحبه وأنعم عليه، وعفا عنه مراراً. وأطلقه سجنه، على أنه لم يخصه بذاته، فلقد كان الرشيد شديد الحرص على الخلافة، شديد الحفاظ على تقاليد الدين، ولا سيما أمام الرعية، فلم ير الحكمة أن يجعل الشاعر الخليع مختصاً بقصره.
لذلك لم يحظ أبو نواس الحظوة التي كان يأملها عند الرشيد، فتفرغ لمصاحبة المجَّان، فكانوا يجتمعون على الصَّراة (وهو نهر في العراق)، أو في سوق الكرخ، أو في روضة، أو في منزل، فيتذاكرون الشعر، ويستمتعون بأنواع الملذات التي ألفتها أذواقهم، وأشهر أصدقائه الحلفاء في بغداد: داوود ابن رزين الواسطي، والحسين بن الضحاك الأشقر الخليع، والفضل الرَّقاشي، وعمرو الورَّاق، والحسين الخياط، وعنان جارية الناطفيّ، واسماعيل القراطيسي، ورزين الكاتب أخو دعبل الخزاعي، وعلي بن الخليل، وفي القراطيسي يقول الأصفهاني:" كان مالفاً للشعراء، فكان أبو نواس، وأبو العاهية (قبل تزهده) ومسلم بن الوليد وطبقتهم يجتمعون عنده ويقصفون".
توبته وموته:
ولما قُتل الأمين، وظفر المأمون بالخلافة، أصاب أبا نواس شيء من الجزع والقنوط، وتنكر له الدهر، فتبرم بالحياة، وسئم ملاذها وغرورها، وأبى أن يتقرب من المأمون أو يمدحه، وكان المأمون قد جعل مقر الخلافة في خراسان، ولبث هناك نحواً من ست سنوات استتب له الأمر في بغداد فانتقل إليها.
وكان بوسع الشاعر أن يتصل به ويستميله بالمديح، ولكن لا يأس الذي ساوره بعد مقتل الأمين، جعله يزهد في الحياة الدنيا، وتراءى له شبح الموت فراعه، وأحسن أن قواه تحطمت، ففزع إلى ربه يستغفره، وأقلع عن المجون، وتنسك حتى هلك وهو على أشد ما يكون من الندم. وكان وفاته في بغداد وله من العمر نحواً من أربع وخمسين سنة.
ومما قاله في الندم وطلب عفو الله:
دبّ فيَّ الفناء سفلاً وعلواً=وأراني أموت عضواً فعضوا
ليس من ساعة مضت لي إلا=نقصتني بمرّها بي جزوا
ذهبت جدَّتي بطاعة نفسي= وتذكرت طاعة الله نضوا
لهف نفسي على ليالٍ=وأيام تمليتهن لعباً ولهواً
قد أسأنا كل الإساءة فاللهـم= صفحاً عنا وغفراً وعفوا
جاءني في الأغاني عن محمد بن إبراهيم الصوفي قال:
"دخلنا على أبي نواس نعوده في علته التي مات فيها، فقال له علي بن صالح الهاشمي: يا أبا علي، أنت في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وبينك وبين الله هنات، فتب إلى الله عز وجل. فبكى ساعة ثم قال: ساندوني ساندوني. ثم قال: أأخوف بالله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لكل نبي شفاعة، وأني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة"، أفتراني لا أكون منهم؟".
هذا الشعور بفشل الأباطيل هو الذي كان يدفع شاعرنا في أواخر أيامه إلى الندم والتحسر.ً