مشهور
24/02/2009, 02:41 AM
من قتلَ الزوجَ وحبيبتـَه؟
نجيب الزامل
.. مع أنها مجرد مسرحيةٍ، مازالت الإشاعةُ والنميمة التي قضت على الزوجة الجميلة المخلصةِ "ديزديمونا" في مسرحية شكسبير الشهيرة "عطيل" Othello تحزنني، ولمّا قرأتها لأول مرّةٍ وأنا صبيٌ لم أنمْ من حسرتي.. حين كان "عطيل" يعيش سعيداً مع محبوبتِه وزوجتِه "ديزديمونا"، الذي أخفى عطيلٌ حقيقة التوصل إلى الزواج منها، فدارت بين الناسِ إشاعة عن زوجته، روّجها النمامُ الحاسدُ "إياجو" الذي كان يرى "عطيل" يرتقي من مرتبةٍ إلى أعلى وهو يقبع في مكانه، ثم بنميمةٍ بالغةِ الخِسَّة أوحى لعطيل أن لا دخانَ بلا نار، وأشار إشاراتٍ وضحة إلى أن زوجته تخونه، ووثقها بأن عمِد إلى دسّ منديل "ديزديمونا" في جيب عشيقها المزعوم "كاسيو"، وفي سوْرَةِ غضبٍ أعمت بصيرةَ عطيل قام هائجاً وذبَح زوجته وخليلته وحبّ كل حياتِه.. وعندما عرف فيما بعد أن "إياجو" خدعه، جُنّ من الندم، ولم يتوان في لحظته عن استلال خنجرٍ وغرزه في قلبـِهِ منتحراً.
من أعظم أعداءِ أي مجتمع الإشاعة، وفي مجتمعٍ مثل مجتمعنا، ليس بالضرورة أن تكون الإشاعة من شدة الحسدِ والحقدِ فقط ، ولكن حينما لا تظهر الحقائقُ للعيان .. وعندما لا تظهرالحقائقُ وتُشبع تطلعاتِ الناس للمعرفة، يكون هناك فراغٌ، وهذا الفراغُ يملأه شيءٌ بالغُ القبحِ اسمُه الإشاعة .. لذا ففي المجتمعاتِ المتكتـِّمةِ وذات الأسرار تروج الشائعاتُ وتزدهر لتحل محلَّ الحقائق .. وإنك لتعجب جداً أن يصبر المتكتـِّمُ على الحقائق على الشائعة وهي كلها أذى في أي حال، ولا يكشف الحقائقَ ولو أن فيها أذىً في بعض الأحوال .. ولما يتبصر المرءُ يجد أن المكاشفة حتى ولو لم يكن نصيراً لها، أو أنها ليست من مبادئه المفضلة، هي أقل ضرراً، مهما تصور عظِمَ ضررها، من أن تدور الإشاعة كالزوبعة في المجتمع. فالحقيقةُ حتى لو حملتْ بعض الأذى فإنه سيُحمَدُ لصاحبِ الحقيقةِ صفة الفضلِ والمصارحة، وأما الإشاعةُ فهي لا تحمل معنىً واحداً ذا قيمة.
في الأمس القريبِ راجتْ الشائعاتُ في سوق المال، وضعف كشف الحقائق، بل لم يظهر قانونٌ ببنودٍ واضحةٍ يكفل قولَ الحقيقةِ كاملة محاسبياً، وإدارياً، وتشغيلياً، وإن كانت هناك عقوبات جاءت في المددِ الأخيرة لفرض العقاب على مسرّبي المعلومات، والمستفيدين من النفوذ إلا أنه لا يكفي لأن مداخلَ الأمرِ ومخارجه لها ألف طريق وطريق، وكانت الضريبةُ غاليةً على الجميع .. والجميعُ هنا هم الجمهرة الغالبة من الناس والاقتصاد العام .. وفي مواضيع السياسةِ والاقتصادِ وحتى في البيوت تـُخفى أسرارٌ في أقبيةٍ مظلمةٍ لا يدخلها أحدٌ ولا يخرج منها أحد، فيعم البلادَ كافة الظلام، ولما بدأنا في بعض المكاشفةِ وسماع مختلفِ الآراءِ وعدم تسفيهِ الشكايات أشعلنا أول مفتاحِ نورٍ ضد نظام الشائعة والنميمة.
لماذا يعمد البعضُ إلى إخفاء الحقائق والبعض إلى ترويج الشائعة؟ إن السببَ عائدٌ إلى ضعفٍ وليس إلى قوة، وإلى خوفٍ لا شجاعة، الخوفُ من فقدان الأمن، ومن القلق والإحباط .. ولزوغان العقل، وفراغ الضمير، ولذا فهم من خوفهم يثيرون خوفا أكبر، ومن قلقهم يشيعون قلقا أشد، ومن زوغان عقولهم يزوغون بمصائرِ الناس، وصدق الشاعرُ والفيلسوفُ الألماني "جوهان فون تشيلر" حين قال لنا:" لقد أيقنت أن الجواسيسَ ومروِّجي الشائعات أكثر ضرراً على أي أمة من الوعاء المسموم، أو خنجر الاغتيال .." لكن الشائعة مجرد نتيجةٍ لأسباب، أحد أهم الأسباب هو التستر والتحسس من كشف الحقائق أمام الناس.
أليس من الحكمة التنبه الآن إلى أن التبعات الضارة من كشف الحقائق متوقًّعة فيمكن التوقي منها والتصدي لها، بينما أن الأضرار من رواج الشائعةِ لا يمكن توقعها وبالتالي لا نستطيع التوقي منها، ولا التصدّي لها؟
إن كشفَ الحقائق هو أول الطرقِ للعلاج الصحيح، لأنها بداية مساره، فكشف الحقيقة مثل تشخيص المرض الصحيح، فإن أخفيتَ المرضَ فلا بدّ أن شيئاً سيروج، وهذا الشيءُ أكبر خوفا من الحقيقة، وأشد بأساً على النفس، والأنكى أنه لا يمكن علاج مرض لا تعرفه، أو لم يخبرك به أحد..
وحذار إذن من الشائعات، وهذا لا يكون إلا بتوخي الكشف عن الحقائق.. فبعض الإشاعات قد تفوِّتُ فرصة العودةِ عن الخطأ فيكون تأثيرُها مستديماً غير قابل للتصحيح، أفلم تمت ديزدمونا؟ ومحاولة تصحيحها كان بخطأٍ أكبر: أفلم ينتحر عطيل؟
نجيب الزامل
.. مع أنها مجرد مسرحيةٍ، مازالت الإشاعةُ والنميمة التي قضت على الزوجة الجميلة المخلصةِ "ديزديمونا" في مسرحية شكسبير الشهيرة "عطيل" Othello تحزنني، ولمّا قرأتها لأول مرّةٍ وأنا صبيٌ لم أنمْ من حسرتي.. حين كان "عطيل" يعيش سعيداً مع محبوبتِه وزوجتِه "ديزديمونا"، الذي أخفى عطيلٌ حقيقة التوصل إلى الزواج منها، فدارت بين الناسِ إشاعة عن زوجته، روّجها النمامُ الحاسدُ "إياجو" الذي كان يرى "عطيل" يرتقي من مرتبةٍ إلى أعلى وهو يقبع في مكانه، ثم بنميمةٍ بالغةِ الخِسَّة أوحى لعطيل أن لا دخانَ بلا نار، وأشار إشاراتٍ وضحة إلى أن زوجته تخونه، ووثقها بأن عمِد إلى دسّ منديل "ديزديمونا" في جيب عشيقها المزعوم "كاسيو"، وفي سوْرَةِ غضبٍ أعمت بصيرةَ عطيل قام هائجاً وذبَح زوجته وخليلته وحبّ كل حياتِه.. وعندما عرف فيما بعد أن "إياجو" خدعه، جُنّ من الندم، ولم يتوان في لحظته عن استلال خنجرٍ وغرزه في قلبـِهِ منتحراً.
من أعظم أعداءِ أي مجتمع الإشاعة، وفي مجتمعٍ مثل مجتمعنا، ليس بالضرورة أن تكون الإشاعة من شدة الحسدِ والحقدِ فقط ، ولكن حينما لا تظهر الحقائقُ للعيان .. وعندما لا تظهرالحقائقُ وتُشبع تطلعاتِ الناس للمعرفة، يكون هناك فراغٌ، وهذا الفراغُ يملأه شيءٌ بالغُ القبحِ اسمُه الإشاعة .. لذا ففي المجتمعاتِ المتكتـِّمةِ وذات الأسرار تروج الشائعاتُ وتزدهر لتحل محلَّ الحقائق .. وإنك لتعجب جداً أن يصبر المتكتـِّمُ على الحقائق على الشائعة وهي كلها أذى في أي حال، ولا يكشف الحقائقَ ولو أن فيها أذىً في بعض الأحوال .. ولما يتبصر المرءُ يجد أن المكاشفة حتى ولو لم يكن نصيراً لها، أو أنها ليست من مبادئه المفضلة، هي أقل ضرراً، مهما تصور عظِمَ ضررها، من أن تدور الإشاعة كالزوبعة في المجتمع. فالحقيقةُ حتى لو حملتْ بعض الأذى فإنه سيُحمَدُ لصاحبِ الحقيقةِ صفة الفضلِ والمصارحة، وأما الإشاعةُ فهي لا تحمل معنىً واحداً ذا قيمة.
في الأمس القريبِ راجتْ الشائعاتُ في سوق المال، وضعف كشف الحقائق، بل لم يظهر قانونٌ ببنودٍ واضحةٍ يكفل قولَ الحقيقةِ كاملة محاسبياً، وإدارياً، وتشغيلياً، وإن كانت هناك عقوبات جاءت في المددِ الأخيرة لفرض العقاب على مسرّبي المعلومات، والمستفيدين من النفوذ إلا أنه لا يكفي لأن مداخلَ الأمرِ ومخارجه لها ألف طريق وطريق، وكانت الضريبةُ غاليةً على الجميع .. والجميعُ هنا هم الجمهرة الغالبة من الناس والاقتصاد العام .. وفي مواضيع السياسةِ والاقتصادِ وحتى في البيوت تـُخفى أسرارٌ في أقبيةٍ مظلمةٍ لا يدخلها أحدٌ ولا يخرج منها أحد، فيعم البلادَ كافة الظلام، ولما بدأنا في بعض المكاشفةِ وسماع مختلفِ الآراءِ وعدم تسفيهِ الشكايات أشعلنا أول مفتاحِ نورٍ ضد نظام الشائعة والنميمة.
لماذا يعمد البعضُ إلى إخفاء الحقائق والبعض إلى ترويج الشائعة؟ إن السببَ عائدٌ إلى ضعفٍ وليس إلى قوة، وإلى خوفٍ لا شجاعة، الخوفُ من فقدان الأمن، ومن القلق والإحباط .. ولزوغان العقل، وفراغ الضمير، ولذا فهم من خوفهم يثيرون خوفا أكبر، ومن قلقهم يشيعون قلقا أشد، ومن زوغان عقولهم يزوغون بمصائرِ الناس، وصدق الشاعرُ والفيلسوفُ الألماني "جوهان فون تشيلر" حين قال لنا:" لقد أيقنت أن الجواسيسَ ومروِّجي الشائعات أكثر ضرراً على أي أمة من الوعاء المسموم، أو خنجر الاغتيال .." لكن الشائعة مجرد نتيجةٍ لأسباب، أحد أهم الأسباب هو التستر والتحسس من كشف الحقائق أمام الناس.
أليس من الحكمة التنبه الآن إلى أن التبعات الضارة من كشف الحقائق متوقًّعة فيمكن التوقي منها والتصدي لها، بينما أن الأضرار من رواج الشائعةِ لا يمكن توقعها وبالتالي لا نستطيع التوقي منها، ولا التصدّي لها؟
إن كشفَ الحقائق هو أول الطرقِ للعلاج الصحيح، لأنها بداية مساره، فكشف الحقيقة مثل تشخيص المرض الصحيح، فإن أخفيتَ المرضَ فلا بدّ أن شيئاً سيروج، وهذا الشيءُ أكبر خوفا من الحقيقة، وأشد بأساً على النفس، والأنكى أنه لا يمكن علاج مرض لا تعرفه، أو لم يخبرك به أحد..
وحذار إذن من الشائعات، وهذا لا يكون إلا بتوخي الكشف عن الحقائق.. فبعض الإشاعات قد تفوِّتُ فرصة العودةِ عن الخطأ فيكون تأثيرُها مستديماً غير قابل للتصحيح، أفلم تمت ديزدمونا؟ ومحاولة تصحيحها كان بخطأٍ أكبر: أفلم ينتحر عطيل؟