تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : البليهي في ثاني مكاشفاته:إنجازات البشرية ثمرة الفكر الفلسفي اليوناني


صقر الجنوب
30/04/2009, 11:47 AM
البليهي في ثاني مكاشفاته:
إنجازات البشرية ثمرة الفكر الفلسفي اليوناني


http://www.okaz.com.sa/okaz/myfiles/2009/04/30/i50-big.jpg (javascript: newWindow=openWin('PopUpImgContent20090430274074.h tm','OkazImage','width=600,height=440,toolbar=0,lo cation=0,directories=0,status=0,menuBar=0,scrollBa rs=0,resizable=0' ); newWindow.focus())
أجرى الحوار: عبد العزيز محمد قاسم
في ثاني مكاشفاته مع ملحق «الدين والحياة» قال المفكر السعودي إبراهيم البليهي إنه يعبر من خلال نقده عن ألمه الشديد من هذا الهوان الفظيع الذي يعيشه العرب والمسلمون، ويتطلع بحرقة إلى اليوم الذي ننعتق فيه من أوهام الامتياز التي أقعدتنا في سراديب الجهل والفقر والهوان والهامشية والتخلف، وأضاف: إن الغربيين موضوعيون في البحث العلمي، لكن لديهم حساسية أخلاقية شديدة في التعامل مع ثقافات الآخرين، ودائماً ما يعطونـها أكثر مما تستحق كموقف أخلاقي، وقال البليهي: إن الإسكندر قام بالمغامرة الكبرى في فتح العالم لأنه كان مقتنعاً بعظمة الفكر الفلسفي اليوناني وبروعة ورقي الثقافة اليونانية، وبأنه يمكن بـها إزالة أسباب الاقتتال الدائم بين الشعوب، وإلى تفاصيل المكاشفات:

- سأبدأ معك بين يدي هذه الحلقة من واقع بيئتك الجغرافية، ألا ترى أستاذ إبراهيم أن إعجابك الشديد بحضارة الغرب بمثابة ثورة على ذاتك لأنه يتناقض مع تكوينك الثقافي (الشرعي تحديدا) وخلفيتك التعليمية، فأنت ولدت وعشت في القصيم ودرست في المعهد العلمي وتخرجت من كلية الشريعة في الرياض وأول مؤلفاتك كانت عن سيد قطب فما الذي جعلك تتحول كل هذا التحول؟
كنت منذ وقت مبكر جدا من حياتي ومازلت أحمل هم التخلف وأبحث عن أسبابه وأحرص بأن أعرف عوامل الخلاص منه، ففي مرحلة الشباب أقتنعتُ بأطروحات سيد قطب - ـ رحمه الله-، ثم تبين لي أنـها أطروحات حالمة وغير عملية، ولا يمكن أن تستجيب لها طبيعة البشر ولا تملك مقومات النجاح، بل إنـها تصد عن الأخذ بـهذه المقومات وبالبحث الطويل والـأمل العميق والمقارنات الشاملة، توصلت إلى رؤية مختلفة إننا معاً نريد خلاص الأمة من التخلف، لكنني لم أعد أتفق معه في تشخيص الخلل ولا في وسائل علاجه، فليس في ذلك أي تناقض فأنا مسلم أعتز بإسلامي، وأحرص على أن يكون أهله في الذروة بدلا من أن يبقوا في الحضيض، إن غيرتي على الإسلام وحبي للمسلمين هي التي جعلتني أكد كل هذا الكد لأعرف أسباب تخلفنا وعوامل ازدهار غيرنا، إن الوضع المزري الذي يعيشه المسلمون في دولهم التي قاربت الستين لا يليق بأمة أراد لها الخالق سبحانه أن تكون خير أمة أخرجت للناس. أما كتابي عن سيد قطب - رحمه الله - فقد أعددته في فورة الشباب فهو بحث جامعي، وكنت آنذاك على تخوم المراهقة فشدني سيد قطب بثورته العارمة وثقته الصارخة وأسلوبه الأخاذ واقتناعه القوي، لكنني بعد التعمق اكتشفت خطأ تشخيصه للداء وعدم ملاءمة الدواء الذي يصفه، فبقيت أحترمه غير أنني أقتنعت تماما أن تشخيصه للخلل لم يكن سليماً، وأن الوصفة التي قدمها لتجاوز حالة الهوان والتخلف كانت وصفة حالمة وعاطفية، لقد نفخ فينا اعتزازا أجوف وملأنا بانتفاش فارغ وأسهم في صدنا عن الاستفادة من منجزات العصر المذهلة لما يخدم ديننا ويطور دنيانا فازددنا تخلفا، إن سيد قطب - رحمه الله - كان شديد الإخلاص والحماس لكن تشخيصه للخلل لم يكن صائبا ووصفه للدواء قد ضاعف الداء.
- استشهدت في إجابة سابقة بكتاب ابن رشد وترجمته لأرسطو، ولكن أحد المعارضين رد بأن هذا مثال فاشل، فالعلوم التطبيقية هي التي استفاد منها الغرب أكثر من العلوم العقلية، وانظر ما يقوله الدكتور غريسب مدير جامعة برلين ورئيس فرع الطب بها عندما يخاطب طلابا مسلمين: أيها الطلاب المسلمون: الآن وقد انعكس الأمر فنحن الأوروبيون يجب أن نؤدي ما علينا تجاهكم فما هذه العلوم إلا امتداد لعلوم آبائكم وشرحاً لمعارفهم ونظرياتهم، فلا تنسوا أيها الطلبة تاريخكم وعليكم بالعمل المتواصل لتعيدوا مجدكم الغابر، طالما أن كتابكم المقدس عنوان نهضتكم ما زال موجوداً بينكم؟
هذا فهم معكوس فحضارة الغرب هي ثمرة الفكر الفلسفي، وقد دلت تجارب الشعوب على أن نـهضة الفكر هي التي تؤسس لنهضة العلم بشتى حقوله وتطبيقاته، ففي العالم العربي جرى تعميم التعليم، فانتشرت المدارس والجامعات وامتلأ الوطن العربي بالمتعلمين، ولكن ذلك لم يحقق التقدم المنشود، لأن المعارف والتقنيات لا بد أن تكون مسبوقة بنهضة فكرية وهو ما لم يتحقق في العالم العربي، أما الطبيب الألماني الذي أشرتَ إليه فهو ليس حجة في مجال بعيد عن تخصُّصه وعن مجال اهتمامه وهو هنا بوصفه طبيبا يشير إلى الطبيب الرازي، فأوروبا قد استفادت فعلاً من كتبه في مجال الطب، لكن الرازي نفسه ليس نتاج الثقافة العربية وإنما هو نتاج الثقافة اليونانية، فالأوروبيون قد استعادوا فكرهم اليوناني بواسطة ابن رشد والرازي وغيرهما من الأفراد الأفذاذ الذي لفظتهم ثقافتنا لفظاً مزرياً، ومازالت تشنع عليهم وتتبرأ منهم، ثم إنه من طبيعة الغربيين أنـهم يجاملون أهل الثقافات الأخرى خارج مجال البحث العلمي كثمرة لرقيهم الأخلاقي، لذلك نراهم يبادرون باستنكار أي موقف يشم منه انتقاص الثقافات الأخرى، كما يبادرون بالاعتذار عن أبسط الإساءات إلى حضارات الآخرين التي تصدر عن أحد منهم.
المجاملة والموضوعية
- ياسلام!! مجاملة من أكاديمي غربي رفيع.. ولكنك أنت أستاذ إبراهيم كتبت عدة مقالات مثبتة عليك، قلت بأن الغرب لا يجامل.. كيف يتساوق ما كتبت على ما وصف للتو؟
مهلا لا تتعجل، فالغربيون موضوعيون في البحث العلمي، لكن لديهم حساسية أخلاقية شديدة في التعامل مع ثقافات الآخرين، ودائماً ما يعطونـها أكثر مما تستحق كموقف أخلاقي وليس موقفا علمياً، إنه الأدب الإنساني الرفيع وأخلاق التواضع وما يقوله هذا الأستاذ الجامعي لطلابه العرب فيه دعم نفسي ومعنوي وهو شيء يحتاجه أولئك الطلاب، ثم إنه يعني به الرازي الذي تتلمذ على أيدي اليونانيين ولم يتتلمذ على ثقافتنا، فالرازي وغيره من الأطباء المسلمين الذين تتلمذوا على الثقافة اليونانية كانوا وما زالوا منبوذين من ثقافتنا، كما أنـهم كانوا خارج سياقنا الثقافي فكيف نتباهى بـهم؟
- سامحني أستاذ إبراهيم في كلامك هذا مغالطة. فالتحذير من كتب الرازي لم يكن سببه عنايته بالعلوم المحضة، ومعرفته بالطب وعنايته به لم تكن محل اعتراض من أحد. لكن كان الاعتراض والتحذير من إدخاله فلسفة اليونان في عقائد المسلمين فيما يتعلق بالإلهيات؟
إن المطلع يدرك أن كل علوم الغرب تفريعات فلسفية ومنها علوم الطب، إن كل العلوم قد انفصلت عن الفلسفة حديثا بعد شيوع منهج التجريب إنـها نتاج الفكر الفلسفي اليوناني، أما موقف الثقافة العربية من الرازي وأمثاله من الذين تتلمذوا على ثقافة اليونان فهو موقفُ الرفض العنيد الصارم لأي مصدر فلسفي لأن ثقافتنا هي ثقافة نقل وليست ثقافة عقل، فالرازي تلقى الطب عن الثقافة اليونانية فصار مرفوضاً لأنه عول على مصدر فلسفي وهذه حقيقة تاريخية لا مجال للجدال حولها فلم يكن الرفض للرازي وحده وإنما كان عاما لكل الذين تتلمذوا على الفكر الفلسفي اليوناني سواء في مجال الطب أو غيره.
التاريخ الحكم
- أستاذ إبراهيم، عموما لأعد إلى التاريخ، فالحضارات ترث بعضها البعض، الحضارة الرومانية سادت ثم بادت وتبعتها اليونانية والحضارة الفرعونية والحضارة الفارسية والهندية. دائماً ما تموت حضارة وتنبعث أخرى على أنقاض الحضارة الغابرة وتستفيد من علومها، لماذا تشنع على الحضارة الإسلامية؟
لست أشنع وإنما أعبر عن ألمي الشديد من هذا الهوان الفظيع الذي يعيشه العرب والمسلمون، وأتطلع بحرقة إلى اليوم الذي ننعتق فيه من أوهام الامتياز التي أقعدتنا في سراديب الجهل والفقر والهوان والهامشية والتخلف، إن للمسلمين نحو 60 دولة كلها في عداد المجتمعات المتخلفة، بل الأشد تخلفا باستثناء ماليـزيا وتركيا، وهذا شيء فظيع يسيء إلى ديننا ويبقينا منفعلين لا فاعلين إن الشعوب في الشرق والغرب تتواثب نحو القمم، فالصين صارت أمة مزدهرة وكذلك الهند والبرازيل، بل إن دولة صغيرة جدا كسنغافورة التي تفتقر افتقاراً كليا إلى الموارد الطبيعية قد حققت وحدها من الازدهار ما لم تحققه المجتمعات الإسلامية مجتمعه! إنـها مأساة حقيقية، إن الأشد فقراً وتخلُّفا في العالم هي من البلدان الإسلامية، مثل: تشاد وبنجلاديش واليمن وأفغانستان والسودان والصومال وباكستان وبينما تزدهر شعوب الأرض واحد بعد الآخر تزداد البلدان الإسلامية تخلُّفا.. فأين مصدر الخلل الفظيع؟ إننا نؤمن إيماناً عميقاً بأن الإسلام بريء من هذا الواقع البائس، فالإسلام هو الحق المطلق في صيغته النهائية، لكن الإسلام أسيء إليه من أهله.
إن البلدان الإسلامية القليلة مثل المجتمعات الخليجية التي تنعم بالرخاء لم تحقق هذا الرخاء بإنتاجها وإنما هي تعتمد على ثروات محزونة في باطن أرضها ولم يكن العرب هم الذين فجروا هذه الثروات المخزونة، وإنما فجرها الغربيون المزدهرون فلولا البترول لما كانت بلدان الخليج بـهذه الوفرة المؤقتة، فوجود البترول هو هبة من الله لا فضل لنا فيه، ثم إنه لولا مخترعات الغربيين لما كانت له قيمة فهم الذين اكتشفوه وهم الذين علمونا بأهميته ودربونا على استخراجه، وهم بمخترعاتـهم جعلوا له هذه الأهمية الكبرى والقيمة العالية، فيجب أن نعترف بكل هذه الحقائق مهما بلغت من المرارة فالعلاج في أمر الأدوية.
أنت ترى أن كل حضارة من الحضارات القديمة كانت ترث إنجازات التي قبلها ثم تضيف إليها إنجازاتـها، ولكن وقائع التاريخ الحضاري تؤكد العكس، فقد كانت الحرب سجالا بين القبائل الرحل المتوحشة وبين المستقرين في المدن والقرى، فما تكاد حضارة من الحضارات تنمو وتستقر حتى تغزوها هذه القبائل المتوحشة فتـهدم منجزاتـها وتستولي على السلطة، ثم تبدأ من المراحل الدنيا في التحضر ثم ما تكاد تستقر وتثمر شيئاً من الازدهار حتى يتكرر مشهد الغزو ومشهد الهدم، ثم البدء من جديد في التشييد وهو تشييد يتأسس على الاحتياج الملح وعلى الممارسة العملية ولا يرتقي إلى مستوى الفكر النظري الذي هو مصدر التطورات المدهشة.
لكن مع بزوغ الفكر الفلسفي في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد بزغ العقل الناقد فتأسست ثقافة العقل، وبذلك دَخَلَ عنصرٌ جديد باهر في الثقافة الإنسانية يحرك العقل ويثير التساؤلات ويناقش المسلَّمات ويشكك بالموروث ويحرص على التحقُّق، فصارت الإنسانية مهيأة لإنتاج العلم القائم على التأمل العميق والبحث الحر والرؤية الموضوعية، وقد استولى المقدونيون على هذا التراث الفكري العظيم، ثم حاول الإسكندر المقدوني أن ينشره في كل العالم لكنه مات في الـ 32 من عمره، فلم يُتَحْ له أن يُنجـز مهمته العظيمة، ثم ورث الرومان التراث اليوناني ونشروه في أوروبا وبذلك تُعتبر الحضارة الرومانية مكملة وراعية وناشرة للثقافة اليونانية التي هي مصدر الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة، ومن هنا استحق القائد الروماني يوليوس قيصر هذا المجد الذي جعله من قادة العالم المائة الأوائل الأكثر تأثيراً على الحضارة الإنسانية، لأنه الذي وطَّد الحكم الروماني والثقافة اليونانية في أوروبا الغربية، فأوجد في ثقافتها هذه القابلية للتطور الدائم.
حضارة وثنية
- سوف أتفق معك أن الحضارة اليونانية حضارة فلسفية، لكن سأعارضك في كونها عقلانية، فالتراث اليوناني مليء بالخزعبلات الوثنية المضحكة.
لا يمكن أن تكون الثقافة فلسفية إلا إذا كانت عقلانية نقدية، لأن الفلسفة تمثل انتقالاً نوعيا من ثقافة النقل الامتثالي الأعمى إلى ثقافة العقل البصير الناقد أما وجود خزعبلات فهذه موجودة في أرقى المجتمعات المعاصرة، فالحكم يُبْنى على الغالب ومعلوم أن الغالب على الثقافة اليونانية هو الفكر الفلسفي العقلاني النقدي، وهو الشيء الذي بقي خالداً فأثمر هذه الحضارة المعاصرة المدهشة.
- أنت إذا تنسب كل هذا الإنجاز الغربي إلى الحضارة اليونانية فقط؟
نعم ولولا الثقافة اليونانية ووريثتها الثقافات الأوروبية بفكرها العقلاني الناقد وجهدها المنظم وتساؤلاتـها المثيرة وشكوكها الحافزة ومراجعاتـها الموصولة وانفتاحها الدائم على كل الآفاق لما تقدمت الإنسانية هذا التقدم العظيم، فكل ما تعيشه البشرية من إنجازات هو من ثمار الفكر الفلسفي اليوناني بأطره النظرية وتفكيره الناقد وتطلعه الدائم إلى المزيد من المعارف الممحصة، إنه عقلٌ يقوم على الشك حتى تتوافر أسباب التحقق وحتى بعد التحقق يستبقي الأبواب مفتوحة للمراجعة والنقد والتصحيح والكشف، ثم إعادة المراجعة والفحص إلى مالا نـهاية فلا يوجد عندهم قول نـهائي ومطلق.
الفراعنة مستبدون
- لنترك الحضارة اليونانية وأسوق لك استدلال الحضارة الفرعونية، هذه الحضارة اشتهرت بعلوم الفلك والهندسة وتقدمت كثيرا عبر علمائها؟
إن الازدهار الغربي قد تأسَّس على احترام فردية الإنسان وتنمية قدراته وفتح الخيارات أمامه ويستحيل أن تقدم الحضارة الفرعونية أي إسهام إنساني من نوع ومستوى حضارة اليونان والغرب، لأنـها تقوم على الاستبداد المطلق والتجبر المفرط، إنـها كانت مشغولة بتأليه الحكام وتخليد أمجادهم، لذلك أبدعت في هذا المجال فقط كما يتجلى في الأهرامات. إن الحضارة الفرعونية كانت محرومة من العقل الناقد وكان محالاً أن تثب إلى مستوى الفكر الفلسفي المنتج للعلم، لقد كانت تحركها الحاجات العملية وكانت تفتقر افتقاراً كليا إلى الفكر النظري، لذلك ظلت تدور مع نفس المسارات ولم تحقق اختراقات علمية أو فكرية وكانت تقوم على تأليه الحاكم واحتقار الشعب، فلم تكن تحترم الإنسان الفرد لذلك فمن المحال أن تحقق ازدهارا كالذي تحقق للحضارة اليونانية ووريثتها الحضارة الغربية، أما الأهرامات فهي شاهد إدانة وليست شاهد عَظَمة فالأهرامات دليل التجبُّر من الحاكم وتسخير الناس لأهداف لا تعود عليهم بأي نفع، وإنما تستهدف تخليد أمجاد الحاكم فقط.
- يا رجل.. وهل الرومان ـ أيضاً ـ احترموا الإنسان؟
نعم الحضارة الرومانية تأسَّست على احترام الإنسان وهنا يجب أن نعلم أنـها مرت بمراحل فهي أصلاً كانت نظاماً جمهورياً وظلت قروناً وهي محكومة بمجلس للشيوخ ويقوم هذا المجلس بانتخاب اثنين لمدة عام واحد فقط يتناوبان رئاسة الدولة والمجلس والجيش وكان يسمى مستشاراً (قنصل)، وقد أخذت ألمانيا هذا التقليد عن الرومان، فما زال رئيس الحكومة الألمانية يسمى (مستشاراً) وكان عضو مجلس الشيوخ يسمى (سناتور)، وقد انتقلت هذه التسمية إلى اللغات الأوروبية ومازال اللقب مستعملاً في أمريكا وغيرها لأعضاء المجالس، وبـهذا يظهر لك بأن الرومان قد احترموا الإنسان وأنـهم لم يحتقروه ويطمسوا فرديته حتى امتدت إليهم العدوى من الشرق، فالثقافات الأوروبية لا تنتكس إلا بتأثير ثقافات الشرق المنغلقة والسلطوية.
-عفوا أستاذ إبراهيم، أنت للتو قلت إن كل الحضارات السابقة لم تحترم الإنسان وهذا يتناقض مباشرة مع قولك الأخير؟
إنني انطلق من حقيقة تاريخية وهي أن الحضارات اليونانية والرومانية والمعاصرة هي حضارة واحدة، أما فترة العصور الوسطى فهي فترة انقطاع وسبات للعقل وتوقف للفكر الفلسفي النقدي، لذلك فإن الغربيين يعتبرون تلك العصور نشازاً على تاريخهم، فهي تتوسط وتقطع وتفصل الثقافة الأساس، وهي الثقافة اليونانية عن الحضارة الحديثة التي هي امتداد للثقافة اليونانية، فالعصور الوسطى وكل ما فيها من انغلاق وقمع واستبداد وتخلف وطمس للنـزعة الفردية كانت بتأثير الشرق، لذلك يتبرأ منها الأوروبيون ويعتبرونـها فترة مظلمة في تاريخهم وأنـها وافدة إليهم من خارجهم.
- أستاذ إبراهيم فترة الانقطاع التي تتحدث عنها امتدت لأكثر من ألف عام، فمن الواضح أنك تتحدث عن حضارة جديدة استفادت من حضارة قديمة. فلا أدري لماذا إصرارك على دمج الحضارتين مع وجود هذا الفاصل التاريخي الضخم، علاوة على الفروق الجوهرية الكبرى بينهما. وليس أوضح من كون الحضارة اليونانية حضارة مغرقة في التصورات والخرافات الوثنية؟
إن كون حضارة الغرب الحديثة هي امتداد للحضارة اليونانية من خلال الحضارة الرومانية هي حقيقة تاريخية وليست تخمينا فالغربيون يرون أن فترة العصور الوسطى فترة انقطاع قامت على ثقافة شرقية دخيلة لذلك وصموها بأنـها وسطى ومظلمة ولا تتفق لا مع ماضيهم الأقدم اليوناني ولا مع حاضرهم المزدهر، لأنـها فصلتْ بين أساسهم الحضاري وهو الثقافة اليونانية وبين فكرهم الحديث الذي هو عودة لثقافة اليونان وإحياء للفكر الفلسفي اليوناني ولتراث اليونانيين فكراً وسياسة وعلماً وأدباً وأخلاقاً.
إن الرؤية الغربية امتدادٌ للرؤية اليونانية، وكذلك الممارسات السياسية ونمط التفكير ومنظومة القيم، فأوروبا الحديثة طورت الممارسات واستحدثت منهج التجريب فصارت العلوم تستقل عن الفلسفة واحدٌ بعد آخر، فلا يوجد فروق جوهرية وإنما يوجد تطور طبيعي أما وجود بعض الخرافات في الحياة اليونانية فهو وجود ليس غالبا وإنما هو وجود هامشي، أما الوجود الغالب فهو الفكر الفلسفي المتألق فحتى الحضارة المعاصرة بكل تجلياتـها الباهرة يوجد فيها ترهات وخرافات غير مقبولة، لكن الأحكام تبنى على الغالب وليس على الشرائح الهامشية وغير المؤثرة.
الإسكندر مثالا
- أنت وبكل هذا الإعجاب وتقول إن الحضارات الرومانية واليونانية والغربية تحترم الإنسان.. لنحتكم للتاريخ. الإسكندر المقدوني الذي غزا العالم كله بالحروب الفظيعة وساق العبيد والجواري وأسر الرجال، مع صاحب كل تلك الحروب من دماء ووحشية. فأين بالله احترام الإنسان الذي تزعم؟
ليس صحيحاً أن الإسكندر المقدوني تعامل بوحشية، فهو جاء إلى الشرق لينشر الفكر الفلسفي الذي كان يراه الأساس السليم للوحدة الإنسانية، ولم يكن ممكنا أن يُنجز هذه المهمة المعقدة الشائكة إلا بإسقاط حُماة الجهل وأركان الاستبداد، لكنه مات مبكراً قبل أن ينجز مهمته الكبرى وإذا كنا نقيس ما فعله الإسكندر المقدوني بعصره نجده قمة في التطور والرحمة والتهذيب، بل إن الفكرة الإنسانية العظيمة التي حركته ما زالت أعلى من أن يستوعبها الكثير من الناس حتى في هذا العصر.
- يا سلام.. ما فعله الإسكندر ـ رغم دمويته ـ قمة في التطور.. كيف ذلك؟
إننا حين نقارن ما اضطر إليه الإسكندر في سبيل إنجاز المهمة الحضارية الإنسانية العظيمة التي نَدَبَ نفسه لها نجد أنه سابق لعصره بمسافات ضوئية فعلينا أن نسأل: لماذا حاول المقدوني أن يفتح الشرق؟ وسوف يكون جواب التاريخ أن الإسكندر قام بـهذه المغامرة الكبرى لأنه كان مقتنعا بعظمة الفكر الفلسفي اليوناني وبروعة ورقي الثقافة اليونانية وبأنه يمكن بـها إزالة أسباب الاقتتال الدائم بين الشعوب، فقد رأى الحروب بين الأمم لا تكف عن الاشتعال فأراد أن يوحد العالم على ثقافة العقل الذي يلتقي عليه كل الناس، لقد كان مغرماً ومعجبا بثقافة اليونان فأراد أن يعممها على العالم، إنه بتأثير أستاذه الفيلسوف العظيم أرسطو أراد أن ينشر هذا الفكر وأن يوحد العالم عليه، ولكنه مات مبكراً في الـ 32 من عمره، ولهذا لم يتمكن من تحقيق حلمه العظيم، وقد احتفظ له التاريخ بمواقف إنسانية عظيمة مع سادة الفرس وغيرهم، فهو يترفع عن إذلال الكبار ويحفظ للناس كرامتهم بالقدر الذي تسمح به الطبيعة البشرية في أعلى ذراها.

أبـو مشاري
30/04/2009, 12:03 PM
موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .