صقر الجنوب
08/05/2009, 06:18 AM
سعد العفنان: لا أجلس مع زوجتي
قال عنه عبدالله بن خميس «اقرأوا لهذا الرجل».. الفلاح الموسوعة سعد العفنان لـ«عكاظ»:
مازلت متمردا و«عاص على بصيرة».. ووالدي علمني أن أموت واقفا
http://www.okaz.com.sa/okaz/myfiles/2009/05/08/b30-big.jpg (javascript: newWindow=openWin('PopUpImgContent20090508275944.h tm','OkazImage','width=600,height=440,toolbar=0,lo cation=0,directories=0,status=0,menuBar=0,scrollBa rs=0,resizable=0' ); newWindow.focus())
حوار : بدر الغانمي
كل المتناقضات تجدها في شخصية هذا الفلاح الحائلي البسيط، متواضع إلى مالا نهاية، وعزيز نفس إلى درجة عدم الاحتكاك، يضحكك بقفشاته رغم روحه المتعبة، ويستولي على تفكيرك بما يطرحه من آراء جريئة وتحليل للواقع، عاش عصاميا وجادا ومختلفا عن الآخرين وظلت علاقته بالواقع مكتسية بالخط الأحمر فهو كما يقول ضاحكا (عاص على بصيرة)، دفع ثمن اندفاعه خلف القومية العربية وحركة الضباط الأحرار في الستينيات، واعترف أنه انجرف وراء أوهام زائفة وأكاذيب. ظللت على مدى ثلاث ساعات من الحوار معه في كوخه المتواضع، كلما اقتربت منه شبرا ابتعد عني ذراعا .. متمرد على ذاته وآرائه وواقعه منذ سن الخامسة، ومازال يشعر في كل حالة تضاد مع رؤيته الخاصة أنه يقول الصواب الذي لا يحبه الآخرون.
• إلى أي مدى انعكست عليك تناقضات الوالد والوالدة؟
والدي ـ رحمه الله ـ كان قوي الشخصية وشجاعا وماهرا في القتال، وأصبح حامي العشيرة بعد وفاة جدي، وكان له صيت مدو في المنطقة، ولكنه كان قاسيا معي قسوة المزارع الفلاح وجادا إلى الحد الأقصى، وأعترف أن أوامره كانت ترهقني وفوق طاقتي، ولكنني عندما كبرت اكتشفت أن قسوته كانت سلاحا لي، كما كان صاحب حمية وطهر ولم يكن ينظر للنساء وتأثرت بأخلاقياته في سفري، فلم أكن أنظر للنساء ولم أتأثر في شبابي بامرأة ولم أنجرف نحو الشهوات رغم سفري إلى مصر ولبنان والكويت والعراق، وكنت في سن المراهقة بعيدا عن هذه الأشياء بشكل لا يصدق ففي جنباتي وغرائزي من طبائع الوالد الكثير، وتعلمت منه أن أموت واقفا ولا أمد يدي لأحد، وهناك كثير من أقاربنا يقتدون به وقد توفي عام 1397هـ وهو في التسعين من عمره.
أما الوالدة فيصعب علي إنصافها ومازلت أحن إلى الآن إلى حنانها وطيفها، الذي يغمرني وأحس بها في كل وقت وإذا واجهت أي صعوبة وأنا مستيقظ أتذكر وصاياها وكلامها وكانت تقص علي القصص بوصف بالغ ومؤثر، وعندما كبرت وتوسعت مداركي صرت أستوعب عملية الاستقراء والتحليل من خلال ما كنت أسمعه من أمي، وكان لها دور في تليين جانب والدي وقسوته وخفض جناحه وكانت تردد كثيرا (لحمك لحمك إن ما حبك رحمك) فكان يرحمه الله يسر بذلك وينشرح صدره.
• تركت الدراسة في الكتاتيب وخرجت في سن مبكرة للعمل لماذا؟
بطبيعتي ملول وأبحث عن التغيير، وكنت أشعر أن الدراسة في الكتاتيب مملة، ولم تكن هناك مدارس حكومية في تلك الفترة فأول مدرسة افتتحت في قريتنا (السبعان) عام 1375هـ وكان عمري آنذاك 17عاماً، وكنت أعمل في الشرقية، ولكنني تعلمت الأبجدية والقرآن الكريم على يد الشيخ عثمان الرزيني ـ رحمه الله ـ ورغم حرص الوالد على أن أكمل تعليمي إلا إنني كنت ألتحق بالدراسة شهراً وأنقطع عنها عاماً، إلى أن بلغ عمري الثالثة عشرة فرغبت في الخروج من القرية إلى أي مكان آخر، لأنني أشعر بأنني رجل كبير يجب أن يسافر ويعتمد على نفسه، وهذا ما زرعه في نفوسنا كبار القرية دون قصد، وصدقناه عن جهل، فأوهمونا بأن الطفل يجب أن يحارب وأن يسافر وأن يرعى الغنم وعمره 8 سنوات، فهذا أثر فينا وجعلنا نثق في أنفسنا، ومع شعور والدي بإصراري على عدم البقاء في القرية، فوعدني بأن يصطحبني معه عندما يسافر إلى الرياض، وفعلا ذهبت معه وأول صدمة في حياتي كانت شعوري بالغثيان إذا ركبت السيارة وتوقفنا مرارا في الطريق، حتى انه أصابني اليأس من الحياة، فقد وصلنا الرياض بعد سبعة أيام وفي ذلك الوقت كان يتم بناء مسجد الإمام تركي فرغب والدي في أن أنضم إلى العمال لكن لم تكن لدي القدرة على حمل الأحجار الكبيرة، نظرا لصغر سني وكان والدي يلاحظ ذلك ويؤنبني بأنني لست بالرجل الذي يُعتمد عليه ويجب أن أعود إلى قريتي ولكن رفضت العودة، فطلب من أحد كبار قبيلة آل رشيد إيجاد عمل مناسب لي فكان رده بأنني لا أصلح إلا قهوجيا أو عامل دكان وتوسط لدى أحد التجار الذي مكنني من العمل لديه في أحد الدكاكين، فكنت تارة أشرف على الدكان وتارة أخرى أذهب لسوق الخضار أشتري احتياجات بيته اليومية، استمر ذلك شهرين إلى أن جاء أحد أقاربي ورآني في الدكان فرفض أن أستمر في هذه المهنة، لأنه يرى بأنها لا تناسبني، وألحقني بالعسكرية فعملت جنديا في الخرج، وكان عمري آنذاك لم يتجاوز الرابعة عشرة ومما ساعدني على القبول أن الملك عبد العزيز في ذلك الوقت ومن ضمن إصلاحاته إنشاء جيش نظامي كان ماجد بن خثيلة من المخلصين للملك عبد العزيز وهو من الذين شجعوا القبائل على الالتحاق بالجيش، سألته أن التحق بالعسكرية وكنت وقتها لازلت صغيرا في السن، أجاب بأن كثيراً من صغار السن التحقوا بالجيش ويجب ألا أتردد، عندها قررت الهرب فعملت في مطعم أجمع الصحون وأغسلها، وكنت مرتاحا لهذا العمل، ولكن بعد خمسة أيام تقريبا أحضر أحد عمال المطعم كيسا من الطحين، وأمرني بأن أعيد نخله وتصفيته فرفضت هذه المهمة فسألوني عن السبب فكانت إجابتي واضحة بأن هذا من عمل النساء، ونحن في ذلك الوقت لازلنا متمسكين بالعادات والتقاليد القبلية، علم مدير المطعم وهو فلسطيني الجنسية فجاء مسرعا وسألني عن سبب رفضي، وأفهمته بأن عاداتنا وتقاليدنا لا تسمح أن يقوم الرجال بأعمال النساء، قال ولكن حمل وغسل الصحون من عمل النساء أيضا، قلت لا في قريتنا من يحمل الصحون ويقلط الضيفان هم الرجال، فلم يجد مدير المطعم بدا من إرسالي إلى الرجل الذي كان الواسطة، لأن أعمل في المطعم عندما دخلت مكتبه سألني مباشرة عن أسباب رفضي للعمل قلت بالعكس اشتغلت وحملت الصحون وغسلتها ورفضت عندما أمروني بنخل وتصفية الطحين، فاستدعى مدير المطعم وأفهمه بأنني لن أعمل معه وصرف لي راتب شهر كامل عن خمسة أيام عمل.
* قلت إنك صدقت كبار رجال قريتكم عن جهل لماذا ؟
-لأننا كنا ننصت أكثر مما نتكلم، وكنت أعيش مع كل ما أسمع بوجداني وأتعايش حتى مع الأساطير والقصص التي تروى، وقد تضحك إذا عرفت أنني من قراءتي لرواية (شقة الحرية) للدكتور غازي القصيبي، مازلت أشعر بالغثيان مما قيل فيها من كلام.
• الوالدة كانت تستمع للراديو كثيرا؟
أبدا الراديو لم نعرفه تلك الأيام وعندما ظهر في حائل عام 1365هـ شاهدته في منزل أحد كبارتجار حائل واسمه عبدالعزيز بن دحيم رحمه الله وكان صديقا للوالد فذهبنا للأحتفاء بمنزله الجديد المبني من الطين وكانوا يقولون في تلك الأيام أن في صندوق يغني فيه الجن ويرقصون وقام بتشغيله في المجلس فقمت فورا أتطلع للراديو من الخلف فجاء يسألني: تدور على شي ياولدي ، فقلت له : وين الجن اللي يغنون ففتح غطاء الصندوق وأراني الأسلاك وهو يضحك ويقول : يضحكون عليكم في السبعان ان الجن يغنون .. وأتذكر أن أول راديو اشتريته عام 1377هـ .
• إلى أين ذهبت بعد فصلك من الجيش؟
عدت إلى قريتي في حائل ومكثت أكثر من سنتين وكان حينها لا توجد مدارس حكومية، فقررت السفر إلى الظهران في المنطقة الشرقية وكان عمري آنذاك 16 عاما بحثا عن وظيفة في شركة أرامكو، سألت ابن عمي عن إمكانية وجود وظيفة، فطمأنني بتوفر وظيفة ولكن شريطة أن أدفع 300 ريال (بخشيش)، قلت ولكن لا أملك هذا المبلغ «سلفني» وعندما أقبض رواتبي أعيد لك المبلغ وكان عند حسن ظني، بدأت العمل لمدة 20 شهرا تنقلت خلالها في قسم المستودعات وقسم أدوات السيارات وقسم الأصباغ وقسم الأخشاب الذي كان يرأسه أمريكي أعجب بمثابرتي وحبي للعمل، كان يعمل لديه أحد الموظفين مهمته تنظيف وكنس مكتبه وخدمته، فنقله لعمل آخر وكلفني بالعمل بديلا عنه فرفضت بحجة أنني لن أقوم بهذا العمل، استدعى المترجم الذي أفهمني بأن الأمريكي كلفني بهذا العمل من باب المودة فرفضت ووجه لي إنذارا وأعادوني للعمل في مستودع الأخشاب، على أن يتم فصلي في حالة رفضي لأي عمل آخر وعندما أدركت بأنه سيتم فصلي قررت تقديم الاستقالة وتم منحي شهادة خبرة، في ذلك الوقت كان يوجد مركز تأهيل مهني تحت إشراف أرامكو يؤهل الشباب لكثير من الأعمال فالتحقت به وتم تأهيلي كنجار ومنحت شهادة مكتوبة باللغة الانجليزية، بعد ذلك عدت إلى الرياض وتمت ترجمة شهادتي على أنها شهادة عليا في النجارة، وفي ذلك الوقت أعلنت وزارة الزراعة عن استقبال طلبات للراغبين في العمل كسائقين للحراثات الزراعية، تقدمت وتم قبولي وتدريبي من قبل خبراء ووزعوا أكثر من 60 شابا على مختلف المناطق ومن حسن حظي كلفت بالذهاب إلى حائل وقبل أن أغادر الرياض، نصحني المدرب بأن أواصل دراستي وأعمل وأعطاني 17 ريالا تكاليف دراستي في الصف الخامس الابتدائي بعدما وعدته بأن أواصل الدراسة في حائل التي وصلتها صيفا في مدرسة العزيزية التي كان يديرها صالح البكر الذي قبلني طالبا ولكن في الصف السادس الابتدائي، فرفضت وكان عمري في ذلك الوقت 21 سنة، نما إلى علم مدير الزراعة في ذلك الوقت الشيخ علي العريفي بأنني أدرس إلى جانب العمل فانتدبني إلى قرية موقق والصهوة خارج مدينة حائل، قلت له يا «أبو فهد» أنا أدرس في الفترة المسائية لكنه لم يتفهم ظرفي، ذهبت بمحراثي وعملت شهرين في هذه القرى وعدت إلى مدينة حائل وانتظمت في الدراسة، وفوجئت بقرار فصلي من وظيفتي كسائق، ثارت ثائرتي ولم أجد حلاً يريحني سوى السفر إلى الكويت هناك حاولت من خلال مدارسها مواصلة الدراسة ولكن ظروف العمل لم تساعدني.
• ما طبيعة العمل الذي التحقت به في الكويت؟
عندما وجدت نفسي صفر اليدين تحدثت مع الشيخ بدر الملا ـ رحمه الله ـ وهو صاحب أعمال تجارية واسعة في الكويت، وكانت تربطني به علاقة فعرضت عليه فتح بقالة يتعهد بتمويلها، وأنا أدير العمل ونصبح شركاء لكي أتمكن من الدراسة في الليل فوافق فكانت رحلتي الأولى إلى الكويت.
• الكل يستغرب كيف لمزارع متمرد ومعزول وأمي أن يتحول بلا شهادة إلى كاتب ومؤلف؟
هذا فضل من الله علي أرده لأمرين، أولا الجدية التي ورثتها عن والدي وأهلي، صحيح ليس فيهم متعلمون ولكنهم جادون في أعمالهم ولم يكن هناك مجال وفضاء واسع للعب والمرح، وثانيا مثابرتي على أن أكون مثقفا وأتعلم القراءة والكتابة، فوضعت لنفسي منهجا وبرنامجا التزمت به ومازلت إلى الآن، فقد كنت أرى أناسا يتحدثون في أمور لا أفهمها فأتساءل وما الذي ينقصني لأكون مثلهم فبدأت، وكمثال فقد سمعت عن كروية الأرض وكنت لا أصدق بها إلى أن قررت أن أقرأ جغرافية العالم بدءا من العالم العربي، ولفت انتباهي أن الاتحاد السوفيتي في الشمال الشرقي للكرة الأرضية، وهناك أرخبيل يصله بجزيرة ألاسكا الأمريكية فتساءلت كيف لأمريكا التي تقع في آخر الغرب تحد الاتحاد السوفيتي الذي يقع في آخر الشرق، إذن الأرض مكورة وتدور فهذه من فضائل القراءة وللعلم فجزيرة ألاسكا روسية وباعها الاتحاد السوفيتي لأمريكا بثمن زهيد.
• البداية الحقيقية متى كانت؟
كل قراءاتي قبل العشرين كانت في القصص الشعبية والكتيبات والجرائد الحجازية التي كانت تصلنا في الرياض تلك الفترة ولم يكن بها جرائد خاصة بالوسطى، ولم أكن أحدد نوعية كتاب معين للقراءة، ولكن عند ذهابي للكويت دخلت مكتبة وجدت فيها أكثر من عشرة آلاف كتاب فوقع اختياري على كتاب (تهذيب الأخلاق) لمؤلفه محمد بن مسكويه، فقرأته ووجدت أن كل الأمثلة التي يضربها واضحة لي وتعلمت منه إلى درجة أنه قادني في الاتجاه الثقافي بشكل قوي، وبدأ ربيع قراءتي في الكويت منذ أن وصلتها في سنة توقيع دستور الاستقلال عام 1961م وكنت في الثانية والعشرين من عمري إلى عام 1965م وقد استفدت طوال فترة وجودي هناك وكنت أعمل بائعا في دكان صغير بجوار فندق دمشق واطلعت على التجربة السياسية الكويتية، وقرأت كتبا لم يكن من الممكن قراءتها في المملكة في تلك الفترة وكنت أسعد بمشاهدة الشيخ عبدالله السالم يوميا وهو يمر من أمام دكاني في الشارع المؤدي إلى قصر الحكم.
• كل هذه القراءات وأنت لم تحصل على الابتدائية بعد؟
عندما عدت للرياض عام 1385هـ عملت نجارا مستفيدا من الشهادة التي سبق أن أخذتها من أرامكو عندما كنت بالشرقية قبل ذهابي للكويت وكنت ضمن العاملين الذين أنشأوا مبنى إذاعة الرياض آنذاك فأبديت لقريب لي في الرياض رغبتي في إتمام الدراسة الابتدائية ليلا فذهب بي إلى مدير مدرسة في الصالحية من أهل القصيم وعرض عليه الموضوع فقال الرجل: عندي أربعون طالبا ما فلح منهم أحد، فوعدته أن أكون الفالح الوحيد إن قبلني وفعلا سجلني وأخذت الشهادة الابتدائية وكنت فرحا بها كثيرا.
• وتوقف طموحك عند هذا الحد؟
الطموح موجود ولكن المشكلة أنني لم أستطع الدراسة وترك العمل لأنني كنت أصرف على نفسي ووالدي وأهلي وكنت أتمنى لو تهيأت لي الفرص أن أدرس اللغة العربية وأنا في الكويت لأنها أعاقتني عن التأليف منذ ذلك الوقت، وتتعجب أنني لم أعرف أن حروف الهجاء التي درستها في الكتاب هي نفسها القاعدة البغدادية لحروف الهجاء التي تعالج مشاكل النحو واللغة العربية.
• ولكنك اشتهرت بالتمرد على واقعك منذ الصغر؟
هذه جينات وراثية أخذتها من الوالد وعندما كبرت وجدت نفسي أشد منه تمردا في سفري واختياري لطريقي وطموحي أيضا.
• حتى في المنزل ؟
أعتبر نفسي متميزا على جماعتي البدو والحضر لأنني لا أجلس مع أهلي في البيت مع أنه من حق الزوجة أن تؤانسها إلا أنني أعتقد بفكرة قد لا تكون جيدة أن الطموح الذي يتخطى سلبيات الواقع يحتاج من الشخص أن يخلو بنفسه ليقرأ ويفكر واستخدمتها فوجدت لها فائدة عظيمة، وتمر بي لحظات أحيانا أستحضر فيها من الذاكرة كتابا ليس موجودا في مكتبتي فأعيد قراءته على خلفية قراءتي السابقة له وأستمر في استحضاره إلى أن أنهيه وهذه تحتاج إلى تركيز شديد بعيدا عن الزوجة.
• ما محاذيرك في الكتابة؟
أن أثير المواجع عن الاقتتال والدماء لأناس ذهبوا إلى ربهم فهذه أصبحت في قناعاتي بعد هذا العمر خطا أحمر لا يمكن الاقتراب منه مهما كانت المبررات.
• كتبت عن غراس وناهضة وتركت لمن حولك أن يضربوا أخماسا في أسداس لتأويل شخصياتك دون أن تصرح بالحقيقة فمن كنت تقصد؟
كتبتها عن الواقع المحلي، ولكن طريقة فسحها من الإعلام ربما أثارت تساؤلا لدى الآخرين، فعندما أرسلتها قال لي مدير عام المطبوعات إنه أرسلها للقاص حسين علي حسين وهو شخص سبق أن تناقشت معه في قضايا عقدية، فعندما سألته عن سبب عدم موافقته على فسحها، قال لي: فيها ترهل، فضحكت وقلت له: ياحسين علي حسين وهل تظنني تولستوي، أنا ومجتمعي وكتاباتي كلها مترهلون، فهل لديك سبب آخر لعدم فسحها فقال: لا، ففسحها المدير العام رغم ما فيها من لذعات بعيدة جدا وذات دلالات.
• كتبت في الصحف فترة ثم توقفت؟
لم أكن قارئا للصحف أصلا وظلت ثقافتي مرتبطة بالكتاب بشكل يومي، ولكن نصيحة من حمد أبو نيان وكيل إمارة حائل في إحدى المناسبات دفعتني لهذا الطريق، فكتبت في عكاظ عدة مقالات ثم توقفت، ثم كتبت للجزيرة ولكنني توقفت وأعلنت انسحابي منها لأنهم نشروا مقالاتي بتدخل في النص دون علمي، كما نشر أحد مقالاتي تحت اسم كاتب نكرة ولم يكن لديهم تراتبية في تنظيم المقالات حسب التسلسل الذي وضعته، ففهمت الرسالة وتوقفت ولم آخذ منهم أي مقابل .
• وهل تكتب من حاجة؟
إطلاقا.
• وما مدى استفادتك من كتبك الـ 65؟
صرت معروفا لدى الناس بعد نشرها واستفدت ماديا، لأن وزارة الثقافة تأخذها مني كل عام بمقابل مجز.
• وهل رفض لك أي كتاب؟
توقعت أن يوقفوا رواية بنت الرصافة وعزمت على طباعتها في الخارج لكنهم فسحوها وتحدثت فيها عن المشهد العراقي الذي أعرفه جيدا.
• رغم أنك حداثي عتيق إلا أنك هاجمت ومازلت الحداثة، كيف نفهم هذا التناقض؟
ولا أنكر أنني من الحداثيين الذين يؤمنون بأن الحداثة علم وتقنية وإيجابية، ولكنني ضد حداثة الغذامي وإبراهيم التركي لأنهم جعلوها مذهبا مسخرا ضد العروبة.
• ولكنك هاجمت الأدب الإسلامي أيضا؟
هذا من البدع الجديدة للإسلاميين الذين يكفرون العرب للقومية ويكفرون العلمانيين أيضا، والحقيقة أن العلمانية ليست كفرا وليست ضد الإسلام والعروبة، كما وأنها ليست فصل الإسلام عن الحياة العامة، وإنما فصل الكنيسة وهي التي ظهرت منذ القرن السادس عشر الميلادي ودعا لها القس الألماني مارتن لوثر عندما شاهد الكنيسة تقطع رؤوس العلماء وترميهم في المحارق، فثار عليها وجاء من بعده الفلاسفة، هيغل وأمثاله فعزلوا الكنيسة عن الحياة العامة، أما الإسلام فهو علماني إذا كانت العلمانية هي العلم والمنطق.
• لك ملاحظات دائمة على المشهد الثقافي؟
للأسف أن العابثين به كثر ولا أقصد الحداثة، فهي طفرة في هذا الجانب وهي أقل ما يواجه هذا المشهد، ولكن هناك أمورا تعطي نتائج سلبية عن الثقافة والمثقفين مثل الأندية الأدبية التي لا تخدم الأدب والثقافة؟
• تقصد أدبي حائل؟
أتحدث عن الجميع دون استثناء فما يحدث فيها من خناقات مرتبطة بالنيات وحالة تضاد دائم بين طيف وآخر تدعوني لمقاطعتهم بدءا من نادي حائل رغم أنني كنت من الأشخاص الذين صوتوا لفكرة النادي عندما وزع علينا سمو الأمير استمارات لذلك وحضرت افتتاح النادي رغم عدم دعوتي، ومما يضحك أن هدى الدغفق رئيسة القسم النسوي في أدبي الرياض، كتبت قبل أيام أن النساء مهمشات ورئيس النادي لا يرد عليهن، لدرجة أنهم عملوا وليمة معتبرة للرجال في النادي لدى استضافتهم لأديب زائر فيما أعطوا النساء فطائر، فرد عليها رئيس النادي: ان هذا غير صحيح، فانظر إلى أي مدى وصل مستوى الأندية الأدبية.
• هل لديك اعتراضات على دخول النساء للأندية الأدبية؟
على العكس مما تقول فأنا مع المرأة وقد دفعت ثمن مطالبتي بتحررها في الستينيات ومازلت أقف معها وأفرح إذا قرأت لواحدة من بناتنا تكتب كلاما تلامس فيه مشاكل المجتمع.
• إذن اعتراضك مبني على ماذا؟
على تعدد الأندية الأدبية المحلية، وعدم حصرها في ناد أدبي واحد على مستوى الوطن، كما هو الحال مع من سبقونا في الثقافة والأدب كمصر وسوريا، أما الإكثار من الأندية المحلية التي نشأت عندما كانت الرئاسة العامة لرعاية الشباب تنشئ أندية رياضية وبجوارها ناد أدبي في كل منطقة فغلبت الاختيارات الخاطئة، وليتنا نخصص أيضا ناديا أدبيا للنساء مثل استقلالية تعليم البنات.
• بمن تأثرت في كتاباتك؟
لم أتأثر بكاتب ولم أعجب بأي قامة أدبية، وإنما تأثرت بكتب المستشرقين والرحالة الأجانب التي أجابت عن تساؤلاتي الدائمة عن التاريخ والعرب ووجدت فيها تحليلا وتقديرا لأعمار الشعوب القديمة وآثارهم ولغتهم وهويتهم.
• حتى العقاد وطه سين؟
العقاد أديب ومثقف كبير وقلمه أسرع من الصاروخ لكنه لم يوصلني لنتيجة من خلال مراوغاته الأدبية في الكتابة حتى في العبقريات، أما طه حسين فهو تلميذ مخلص لأستاذه (مارجيليوت) أحد أشد المستشرقين عداء للعرب والإسلام وكان ولاؤه الثقافي لفرنسا بحكم أنه درس في السوربون وتزوج فرنسية، وبحكم أنه أيضا ثائر على الأزهر وكتب كتابا أشبه بكتاب ابن المقفع يعارض فيه القرآن ثم تراجع عنه ثم كتب كتابا آخر وقال فيه إنه لا توجد أمة عربية ولا جاهلية وان الشعر الجاهلي منحول من قبل الرواة في القرنين الثاني والثالث الهجري وأن عنترة وعمرو بن كلثوم مجرد أوهام، ونسي أن الشعر الجاهلي الذي يلامس القلوب والنخوة ولا توجد ظواهر إيمانية تدل على الفطرة العميقة إلا فيه كما يقول طرفة بن العبد:
لعمرك ما الأيام إلا معارة
فما اسطعت من معروفها فتزود
عن المرء لاتسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
لعمرك ما أدري وإني لأوجل
أفي اليوم إقدام المنية أم غد
فإن تك خلفي لايفتها سواديا
وإن تك قدامي أجدها بمرصد
فهل تجد إيمانا أشد من هذا الإيمان في أي شعر آخر جاء بعد الشعر الجاهلي.
• إذن لست في حالة تضاد مع أدباء مصر لموقف ما؟
أبدا، ولكنني أعتقد أن طه حسين والعقاد لو كانوا عندنا ما درى عنهم أحد، ولكن لأنهم في مصر فقد ظهروا على السطح وهذا يجيب على سؤالك فالعرب منذ الدولة الأيوبية مرورا بحكم المماليك، ثم فترة الحكم العثماني والإنجليزي وإلى الآن لا يستطيعون أن يعملوا شيئا بدون مصر وهذه الحقيقة بنى عليها الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وتواضع مع المصريين إلى آخر حد في سبيل توثيق العلاقة معهم.
• لكنك تأثرت سياسيا بعبد الناصر والقومية العربية؟
عبد الناصر لم يكن قوميا وإنما عسكريا شوفينيا، واكتشفنا أن شعاراته لم تكن صادقة بشأن المرأة، فلم نر إلا بنت الشاطئ التي وضعها في الشؤون الاجتماعية، أما الفلاحون والعمال فكانوا الطبقة المسحوقة ولم نشاهد من الناصرية إلا (زمن الضباط) على غرار أزمنة الكهنة والسحرة والحداثة، وليتهم كانوا من نخب الضباط أيضا، أما القومية فبدون شك مازلت قوميا وسأظل كذلك لأن القومية العربية هي أصلي، وإيران قومية فارسية رغم أن الفرس لا يشكلون إلا أربعين بالمائة من الإيرانيين، وأمريكا قومية، بل إن الملك عبد العزيز قومي أيضا وعندما كتب له الأتراك عندما بدأ العرب يتمردون على الدولة العثمانية في آخر أيامها (ماذا تريدون أيها العرب؟) فقال لهم كلمات تجعلني أعتز بهذا الرجل بين معاصريه وما زالت تستثيرني إلى السماء (حنا العرب لا ننام على ضيم).
• الغريب أنك تأثرت بالقومية عبر الكتاب وليس الزعماء؟
وهذه هي المشكلة أن العرب لم يسلكوا الطريق الذي يوصلهم إلى الوحدة العربية وجاء تأثري بالقومية من خلال كتب عرابها الأول وفيلسوفها وصاحب أول حفيظة نفوس من الجامعة العربية (ساطع الحصري) فقد قرأت كل كتبه ورغم أنه مصري فقد انتقد المثقفين المصريين وطه حسين تحديدا لتمسكهم بالفرعونية وتنكرهم للقومية العربية.
• قلت عن أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري إنه سفسطائي؟
منذ الثمانينيات الهجرية وأنا أقرأ لابن عقيل كل كتبه ومقالاته ومحاضراته وندواته، فلم أجد فيها إلا (سفسطة) وهذا المصطلح أطلقه فلاسفة اليونان الذين حاكموا الفيلسوف سقراط وصاروا يتكلمون كلاما معسولا لكن ليس له أهمية، فهؤلاء السفسطائيون حاكموا سقراط وحكموا عليه بالإعدام بحجة أنه سوف يفسد شباب اليونان ويعارض دينهم مع أن سقراط عندي أعظم فيلسوف يوناني لأنه وضع منهجا يتبع إلى الآن وحكمت على الأمور على عكس من يقولون عن أفلاطون إنه الأعظم من منطلق أنني بدوي وأحكم على الأمور بدون تقعر أو تعقيد.
• ثم أتبعت ذلك بالهجوم على ابن خالتك الدكتور عبدالرحمن الفريح؟
المشكلة أن الدكتور عبدالرحمن ابن عمي وابن خالتي في نفس الوقت ولكنه يخالف توجهي فأنا بصراحة وقولوا لي إن كنت مخطئا (عاص على بصيرة) وتوجهي مع الأكثرية في حائل أن قبيلة شمر هم أهل المنطقة وأول من سكنها من القبائل الموجودة الآن، ولكن عبدالرحمن يخالفني فيقول إن قبيلتنا تميم كانت موجودة قبل شمر كما أن قفار موجودة قبل حائل مع أن قفار لم يتجاوز وجودها 400 سنة فقط أما حائل فمعروفة من العصر الجاهلي وكان اسمها (القرية) وما قاله امرؤ القيس من ذكر للقرية وأكناف حائل مثبت في التاريخ وأي مثقف يعرف أن المقصودين في شعر امرئ القيس ليسوا بني تميم، ويبدو أن عبدالرحمن بنى معلوماته في كتابه عن قفار على ما كتبه المستشرق الفنلندي والذي زار حائل عام 1845م فوجد أن بيوت قفار تصل إلى 500 بيت وبيوت حائل لا تتجاوز 210، ولكنه للأسف بناها أيضا على تصور عنصري عندما قال إن بني تميم أشجع من شمر وهذه قبلية مرفوضة فالعرب كلهم شجعان وأصحاب نخوة، وللأسف جاء أبو عبد الرحمن بن عقيل، فسانده فيما كتب ولم أستغرب منه هذه السفسطائية التي اشتهر بها.
• لماذا تتمسك بالكوخ إلى الآن ؟
أنا متمسك بالبساطة لأنها ثقافتي الأولى فأنا لا ألبس العقال مثلا من باب التدين كما يفعل البعض ولكن من باب تبسيط الأشياء وأكتفي بالعمامة مع أن هذه العمامة الحمراء لم تكن لبس العرب قبل مجيء التتار إلى بغداد ولكن قطعهم لرقاب كل من يلبس عمامة عربية في ذلك الوقت استدعى من الرجال استخدام أغطية النساء فكان التتار إذا رأوها توقفوا عن قتل الرجال فأصبحت لباسا للرجال بعد ذلك.
• قال عنك عبدالله بن خميس (اقرأوا لهذا الرجل) لماذا؟
لقائي بهذا الرجل جاء على خلفية إعدادي لكتاب عن النخيل في المملكة والحقيقة أنني كونت علاقات مع عدد من الأدباء لكنها ماديا لم تشفع لي بل أخذت كل ما أملك لأنني كنت أطبعها على حسابي الخاص.
• لك علاقة متميزة مع الأمير مقرن أمير حائل سابقا؟
الصراحة أنها ليست متميزة من جانبي لأنني لم أكن أزوره الا نادرا ولكن لأنه (متميز) في تعامله مع الناس وتعاطــفه مع قضاياهم، وأول معرفتي بسموه عندما ألقيت أمامه كلمة عن المزارعين فجــعلـــتها مختصرة ومبنية على نص حداثي وقد لفتت انتبـــاهه فسأل عني ومن يومها ونحن على صلـة ويتحدث معي دائما بشــــأن الزراعــــة وظــلــلــت أشـــارك في أسبوع الشجرة الذي يقام كل عام وكان يقول دائما ناقــشـــوني فليس بيننا سرية وقولوا ماتريدون.
• قمت بمحاولات جريئة للزراعة في حائل أثنى عليها الملك فهد؟
في عام 1404هـ قمت بتجربة زراعة البطاطس في فصل الخريف وكانوا من قبل لايزرعونه الا في الشتاء فنجحت التجربة وصارت لها جدوى اقتصادية وردود فعل في منطقة حائل ، ثم كررت التجربة عام 1405 هـ فزرعت القمح في فصل الصيف وهو محصول شتوي ونجحت التجربة لكن وزير الزراعة رأى أن يتم الــتـعـتـيـم عليها لأنها يمكن أن تستهلك مياه كبــيرة ولأن زراعة القمح تجاوزت حدود الاكــتفـاء الذاتي في تلك الفتـــرة وقدرة صوامع الغــلال على الاستيعاب فكتــبت لجلالـــة الملك فهد رحمه الله ووصلني منه ثناء وشكر.
قال عنه عبدالله بن خميس «اقرأوا لهذا الرجل».. الفلاح الموسوعة سعد العفنان لـ«عكاظ»:
مازلت متمردا و«عاص على بصيرة».. ووالدي علمني أن أموت واقفا
http://www.okaz.com.sa/okaz/myfiles/2009/05/08/b30-big.jpg (javascript: newWindow=openWin('PopUpImgContent20090508275944.h tm','OkazImage','width=600,height=440,toolbar=0,lo cation=0,directories=0,status=0,menuBar=0,scrollBa rs=0,resizable=0' ); newWindow.focus())
حوار : بدر الغانمي
كل المتناقضات تجدها في شخصية هذا الفلاح الحائلي البسيط، متواضع إلى مالا نهاية، وعزيز نفس إلى درجة عدم الاحتكاك، يضحكك بقفشاته رغم روحه المتعبة، ويستولي على تفكيرك بما يطرحه من آراء جريئة وتحليل للواقع، عاش عصاميا وجادا ومختلفا عن الآخرين وظلت علاقته بالواقع مكتسية بالخط الأحمر فهو كما يقول ضاحكا (عاص على بصيرة)، دفع ثمن اندفاعه خلف القومية العربية وحركة الضباط الأحرار في الستينيات، واعترف أنه انجرف وراء أوهام زائفة وأكاذيب. ظللت على مدى ثلاث ساعات من الحوار معه في كوخه المتواضع، كلما اقتربت منه شبرا ابتعد عني ذراعا .. متمرد على ذاته وآرائه وواقعه منذ سن الخامسة، ومازال يشعر في كل حالة تضاد مع رؤيته الخاصة أنه يقول الصواب الذي لا يحبه الآخرون.
• إلى أي مدى انعكست عليك تناقضات الوالد والوالدة؟
والدي ـ رحمه الله ـ كان قوي الشخصية وشجاعا وماهرا في القتال، وأصبح حامي العشيرة بعد وفاة جدي، وكان له صيت مدو في المنطقة، ولكنه كان قاسيا معي قسوة المزارع الفلاح وجادا إلى الحد الأقصى، وأعترف أن أوامره كانت ترهقني وفوق طاقتي، ولكنني عندما كبرت اكتشفت أن قسوته كانت سلاحا لي، كما كان صاحب حمية وطهر ولم يكن ينظر للنساء وتأثرت بأخلاقياته في سفري، فلم أكن أنظر للنساء ولم أتأثر في شبابي بامرأة ولم أنجرف نحو الشهوات رغم سفري إلى مصر ولبنان والكويت والعراق، وكنت في سن المراهقة بعيدا عن هذه الأشياء بشكل لا يصدق ففي جنباتي وغرائزي من طبائع الوالد الكثير، وتعلمت منه أن أموت واقفا ولا أمد يدي لأحد، وهناك كثير من أقاربنا يقتدون به وقد توفي عام 1397هـ وهو في التسعين من عمره.
أما الوالدة فيصعب علي إنصافها ومازلت أحن إلى الآن إلى حنانها وطيفها، الذي يغمرني وأحس بها في كل وقت وإذا واجهت أي صعوبة وأنا مستيقظ أتذكر وصاياها وكلامها وكانت تقص علي القصص بوصف بالغ ومؤثر، وعندما كبرت وتوسعت مداركي صرت أستوعب عملية الاستقراء والتحليل من خلال ما كنت أسمعه من أمي، وكان لها دور في تليين جانب والدي وقسوته وخفض جناحه وكانت تردد كثيرا (لحمك لحمك إن ما حبك رحمك) فكان يرحمه الله يسر بذلك وينشرح صدره.
• تركت الدراسة في الكتاتيب وخرجت في سن مبكرة للعمل لماذا؟
بطبيعتي ملول وأبحث عن التغيير، وكنت أشعر أن الدراسة في الكتاتيب مملة، ولم تكن هناك مدارس حكومية في تلك الفترة فأول مدرسة افتتحت في قريتنا (السبعان) عام 1375هـ وكان عمري آنذاك 17عاماً، وكنت أعمل في الشرقية، ولكنني تعلمت الأبجدية والقرآن الكريم على يد الشيخ عثمان الرزيني ـ رحمه الله ـ ورغم حرص الوالد على أن أكمل تعليمي إلا إنني كنت ألتحق بالدراسة شهراً وأنقطع عنها عاماً، إلى أن بلغ عمري الثالثة عشرة فرغبت في الخروج من القرية إلى أي مكان آخر، لأنني أشعر بأنني رجل كبير يجب أن يسافر ويعتمد على نفسه، وهذا ما زرعه في نفوسنا كبار القرية دون قصد، وصدقناه عن جهل، فأوهمونا بأن الطفل يجب أن يحارب وأن يسافر وأن يرعى الغنم وعمره 8 سنوات، فهذا أثر فينا وجعلنا نثق في أنفسنا، ومع شعور والدي بإصراري على عدم البقاء في القرية، فوعدني بأن يصطحبني معه عندما يسافر إلى الرياض، وفعلا ذهبت معه وأول صدمة في حياتي كانت شعوري بالغثيان إذا ركبت السيارة وتوقفنا مرارا في الطريق، حتى انه أصابني اليأس من الحياة، فقد وصلنا الرياض بعد سبعة أيام وفي ذلك الوقت كان يتم بناء مسجد الإمام تركي فرغب والدي في أن أنضم إلى العمال لكن لم تكن لدي القدرة على حمل الأحجار الكبيرة، نظرا لصغر سني وكان والدي يلاحظ ذلك ويؤنبني بأنني لست بالرجل الذي يُعتمد عليه ويجب أن أعود إلى قريتي ولكن رفضت العودة، فطلب من أحد كبار قبيلة آل رشيد إيجاد عمل مناسب لي فكان رده بأنني لا أصلح إلا قهوجيا أو عامل دكان وتوسط لدى أحد التجار الذي مكنني من العمل لديه في أحد الدكاكين، فكنت تارة أشرف على الدكان وتارة أخرى أذهب لسوق الخضار أشتري احتياجات بيته اليومية، استمر ذلك شهرين إلى أن جاء أحد أقاربي ورآني في الدكان فرفض أن أستمر في هذه المهنة، لأنه يرى بأنها لا تناسبني، وألحقني بالعسكرية فعملت جنديا في الخرج، وكان عمري آنذاك لم يتجاوز الرابعة عشرة ومما ساعدني على القبول أن الملك عبد العزيز في ذلك الوقت ومن ضمن إصلاحاته إنشاء جيش نظامي كان ماجد بن خثيلة من المخلصين للملك عبد العزيز وهو من الذين شجعوا القبائل على الالتحاق بالجيش، سألته أن التحق بالعسكرية وكنت وقتها لازلت صغيرا في السن، أجاب بأن كثيراً من صغار السن التحقوا بالجيش ويجب ألا أتردد، عندها قررت الهرب فعملت في مطعم أجمع الصحون وأغسلها، وكنت مرتاحا لهذا العمل، ولكن بعد خمسة أيام تقريبا أحضر أحد عمال المطعم كيسا من الطحين، وأمرني بأن أعيد نخله وتصفيته فرفضت هذه المهمة فسألوني عن السبب فكانت إجابتي واضحة بأن هذا من عمل النساء، ونحن في ذلك الوقت لازلنا متمسكين بالعادات والتقاليد القبلية، علم مدير المطعم وهو فلسطيني الجنسية فجاء مسرعا وسألني عن سبب رفضي، وأفهمته بأن عاداتنا وتقاليدنا لا تسمح أن يقوم الرجال بأعمال النساء، قال ولكن حمل وغسل الصحون من عمل النساء أيضا، قلت لا في قريتنا من يحمل الصحون ويقلط الضيفان هم الرجال، فلم يجد مدير المطعم بدا من إرسالي إلى الرجل الذي كان الواسطة، لأن أعمل في المطعم عندما دخلت مكتبه سألني مباشرة عن أسباب رفضي للعمل قلت بالعكس اشتغلت وحملت الصحون وغسلتها ورفضت عندما أمروني بنخل وتصفية الطحين، فاستدعى مدير المطعم وأفهمه بأنني لن أعمل معه وصرف لي راتب شهر كامل عن خمسة أيام عمل.
* قلت إنك صدقت كبار رجال قريتكم عن جهل لماذا ؟
-لأننا كنا ننصت أكثر مما نتكلم، وكنت أعيش مع كل ما أسمع بوجداني وأتعايش حتى مع الأساطير والقصص التي تروى، وقد تضحك إذا عرفت أنني من قراءتي لرواية (شقة الحرية) للدكتور غازي القصيبي، مازلت أشعر بالغثيان مما قيل فيها من كلام.
• الوالدة كانت تستمع للراديو كثيرا؟
أبدا الراديو لم نعرفه تلك الأيام وعندما ظهر في حائل عام 1365هـ شاهدته في منزل أحد كبارتجار حائل واسمه عبدالعزيز بن دحيم رحمه الله وكان صديقا للوالد فذهبنا للأحتفاء بمنزله الجديد المبني من الطين وكانوا يقولون في تلك الأيام أن في صندوق يغني فيه الجن ويرقصون وقام بتشغيله في المجلس فقمت فورا أتطلع للراديو من الخلف فجاء يسألني: تدور على شي ياولدي ، فقلت له : وين الجن اللي يغنون ففتح غطاء الصندوق وأراني الأسلاك وهو يضحك ويقول : يضحكون عليكم في السبعان ان الجن يغنون .. وأتذكر أن أول راديو اشتريته عام 1377هـ .
• إلى أين ذهبت بعد فصلك من الجيش؟
عدت إلى قريتي في حائل ومكثت أكثر من سنتين وكان حينها لا توجد مدارس حكومية، فقررت السفر إلى الظهران في المنطقة الشرقية وكان عمري آنذاك 16 عاما بحثا عن وظيفة في شركة أرامكو، سألت ابن عمي عن إمكانية وجود وظيفة، فطمأنني بتوفر وظيفة ولكن شريطة أن أدفع 300 ريال (بخشيش)، قلت ولكن لا أملك هذا المبلغ «سلفني» وعندما أقبض رواتبي أعيد لك المبلغ وكان عند حسن ظني، بدأت العمل لمدة 20 شهرا تنقلت خلالها في قسم المستودعات وقسم أدوات السيارات وقسم الأصباغ وقسم الأخشاب الذي كان يرأسه أمريكي أعجب بمثابرتي وحبي للعمل، كان يعمل لديه أحد الموظفين مهمته تنظيف وكنس مكتبه وخدمته، فنقله لعمل آخر وكلفني بالعمل بديلا عنه فرفضت بحجة أنني لن أقوم بهذا العمل، استدعى المترجم الذي أفهمني بأن الأمريكي كلفني بهذا العمل من باب المودة فرفضت ووجه لي إنذارا وأعادوني للعمل في مستودع الأخشاب، على أن يتم فصلي في حالة رفضي لأي عمل آخر وعندما أدركت بأنه سيتم فصلي قررت تقديم الاستقالة وتم منحي شهادة خبرة، في ذلك الوقت كان يوجد مركز تأهيل مهني تحت إشراف أرامكو يؤهل الشباب لكثير من الأعمال فالتحقت به وتم تأهيلي كنجار ومنحت شهادة مكتوبة باللغة الانجليزية، بعد ذلك عدت إلى الرياض وتمت ترجمة شهادتي على أنها شهادة عليا في النجارة، وفي ذلك الوقت أعلنت وزارة الزراعة عن استقبال طلبات للراغبين في العمل كسائقين للحراثات الزراعية، تقدمت وتم قبولي وتدريبي من قبل خبراء ووزعوا أكثر من 60 شابا على مختلف المناطق ومن حسن حظي كلفت بالذهاب إلى حائل وقبل أن أغادر الرياض، نصحني المدرب بأن أواصل دراستي وأعمل وأعطاني 17 ريالا تكاليف دراستي في الصف الخامس الابتدائي بعدما وعدته بأن أواصل الدراسة في حائل التي وصلتها صيفا في مدرسة العزيزية التي كان يديرها صالح البكر الذي قبلني طالبا ولكن في الصف السادس الابتدائي، فرفضت وكان عمري في ذلك الوقت 21 سنة، نما إلى علم مدير الزراعة في ذلك الوقت الشيخ علي العريفي بأنني أدرس إلى جانب العمل فانتدبني إلى قرية موقق والصهوة خارج مدينة حائل، قلت له يا «أبو فهد» أنا أدرس في الفترة المسائية لكنه لم يتفهم ظرفي، ذهبت بمحراثي وعملت شهرين في هذه القرى وعدت إلى مدينة حائل وانتظمت في الدراسة، وفوجئت بقرار فصلي من وظيفتي كسائق، ثارت ثائرتي ولم أجد حلاً يريحني سوى السفر إلى الكويت هناك حاولت من خلال مدارسها مواصلة الدراسة ولكن ظروف العمل لم تساعدني.
• ما طبيعة العمل الذي التحقت به في الكويت؟
عندما وجدت نفسي صفر اليدين تحدثت مع الشيخ بدر الملا ـ رحمه الله ـ وهو صاحب أعمال تجارية واسعة في الكويت، وكانت تربطني به علاقة فعرضت عليه فتح بقالة يتعهد بتمويلها، وأنا أدير العمل ونصبح شركاء لكي أتمكن من الدراسة في الليل فوافق فكانت رحلتي الأولى إلى الكويت.
• الكل يستغرب كيف لمزارع متمرد ومعزول وأمي أن يتحول بلا شهادة إلى كاتب ومؤلف؟
هذا فضل من الله علي أرده لأمرين، أولا الجدية التي ورثتها عن والدي وأهلي، صحيح ليس فيهم متعلمون ولكنهم جادون في أعمالهم ولم يكن هناك مجال وفضاء واسع للعب والمرح، وثانيا مثابرتي على أن أكون مثقفا وأتعلم القراءة والكتابة، فوضعت لنفسي منهجا وبرنامجا التزمت به ومازلت إلى الآن، فقد كنت أرى أناسا يتحدثون في أمور لا أفهمها فأتساءل وما الذي ينقصني لأكون مثلهم فبدأت، وكمثال فقد سمعت عن كروية الأرض وكنت لا أصدق بها إلى أن قررت أن أقرأ جغرافية العالم بدءا من العالم العربي، ولفت انتباهي أن الاتحاد السوفيتي في الشمال الشرقي للكرة الأرضية، وهناك أرخبيل يصله بجزيرة ألاسكا الأمريكية فتساءلت كيف لأمريكا التي تقع في آخر الغرب تحد الاتحاد السوفيتي الذي يقع في آخر الشرق، إذن الأرض مكورة وتدور فهذه من فضائل القراءة وللعلم فجزيرة ألاسكا روسية وباعها الاتحاد السوفيتي لأمريكا بثمن زهيد.
• البداية الحقيقية متى كانت؟
كل قراءاتي قبل العشرين كانت في القصص الشعبية والكتيبات والجرائد الحجازية التي كانت تصلنا في الرياض تلك الفترة ولم يكن بها جرائد خاصة بالوسطى، ولم أكن أحدد نوعية كتاب معين للقراءة، ولكن عند ذهابي للكويت دخلت مكتبة وجدت فيها أكثر من عشرة آلاف كتاب فوقع اختياري على كتاب (تهذيب الأخلاق) لمؤلفه محمد بن مسكويه، فقرأته ووجدت أن كل الأمثلة التي يضربها واضحة لي وتعلمت منه إلى درجة أنه قادني في الاتجاه الثقافي بشكل قوي، وبدأ ربيع قراءتي في الكويت منذ أن وصلتها في سنة توقيع دستور الاستقلال عام 1961م وكنت في الثانية والعشرين من عمري إلى عام 1965م وقد استفدت طوال فترة وجودي هناك وكنت أعمل بائعا في دكان صغير بجوار فندق دمشق واطلعت على التجربة السياسية الكويتية، وقرأت كتبا لم يكن من الممكن قراءتها في المملكة في تلك الفترة وكنت أسعد بمشاهدة الشيخ عبدالله السالم يوميا وهو يمر من أمام دكاني في الشارع المؤدي إلى قصر الحكم.
• كل هذه القراءات وأنت لم تحصل على الابتدائية بعد؟
عندما عدت للرياض عام 1385هـ عملت نجارا مستفيدا من الشهادة التي سبق أن أخذتها من أرامكو عندما كنت بالشرقية قبل ذهابي للكويت وكنت ضمن العاملين الذين أنشأوا مبنى إذاعة الرياض آنذاك فأبديت لقريب لي في الرياض رغبتي في إتمام الدراسة الابتدائية ليلا فذهب بي إلى مدير مدرسة في الصالحية من أهل القصيم وعرض عليه الموضوع فقال الرجل: عندي أربعون طالبا ما فلح منهم أحد، فوعدته أن أكون الفالح الوحيد إن قبلني وفعلا سجلني وأخذت الشهادة الابتدائية وكنت فرحا بها كثيرا.
• وتوقف طموحك عند هذا الحد؟
الطموح موجود ولكن المشكلة أنني لم أستطع الدراسة وترك العمل لأنني كنت أصرف على نفسي ووالدي وأهلي وكنت أتمنى لو تهيأت لي الفرص أن أدرس اللغة العربية وأنا في الكويت لأنها أعاقتني عن التأليف منذ ذلك الوقت، وتتعجب أنني لم أعرف أن حروف الهجاء التي درستها في الكتاب هي نفسها القاعدة البغدادية لحروف الهجاء التي تعالج مشاكل النحو واللغة العربية.
• ولكنك اشتهرت بالتمرد على واقعك منذ الصغر؟
هذه جينات وراثية أخذتها من الوالد وعندما كبرت وجدت نفسي أشد منه تمردا في سفري واختياري لطريقي وطموحي أيضا.
• حتى في المنزل ؟
أعتبر نفسي متميزا على جماعتي البدو والحضر لأنني لا أجلس مع أهلي في البيت مع أنه من حق الزوجة أن تؤانسها إلا أنني أعتقد بفكرة قد لا تكون جيدة أن الطموح الذي يتخطى سلبيات الواقع يحتاج من الشخص أن يخلو بنفسه ليقرأ ويفكر واستخدمتها فوجدت لها فائدة عظيمة، وتمر بي لحظات أحيانا أستحضر فيها من الذاكرة كتابا ليس موجودا في مكتبتي فأعيد قراءته على خلفية قراءتي السابقة له وأستمر في استحضاره إلى أن أنهيه وهذه تحتاج إلى تركيز شديد بعيدا عن الزوجة.
• ما محاذيرك في الكتابة؟
أن أثير المواجع عن الاقتتال والدماء لأناس ذهبوا إلى ربهم فهذه أصبحت في قناعاتي بعد هذا العمر خطا أحمر لا يمكن الاقتراب منه مهما كانت المبررات.
• كتبت عن غراس وناهضة وتركت لمن حولك أن يضربوا أخماسا في أسداس لتأويل شخصياتك دون أن تصرح بالحقيقة فمن كنت تقصد؟
كتبتها عن الواقع المحلي، ولكن طريقة فسحها من الإعلام ربما أثارت تساؤلا لدى الآخرين، فعندما أرسلتها قال لي مدير عام المطبوعات إنه أرسلها للقاص حسين علي حسين وهو شخص سبق أن تناقشت معه في قضايا عقدية، فعندما سألته عن سبب عدم موافقته على فسحها، قال لي: فيها ترهل، فضحكت وقلت له: ياحسين علي حسين وهل تظنني تولستوي، أنا ومجتمعي وكتاباتي كلها مترهلون، فهل لديك سبب آخر لعدم فسحها فقال: لا، ففسحها المدير العام رغم ما فيها من لذعات بعيدة جدا وذات دلالات.
• كتبت في الصحف فترة ثم توقفت؟
لم أكن قارئا للصحف أصلا وظلت ثقافتي مرتبطة بالكتاب بشكل يومي، ولكن نصيحة من حمد أبو نيان وكيل إمارة حائل في إحدى المناسبات دفعتني لهذا الطريق، فكتبت في عكاظ عدة مقالات ثم توقفت، ثم كتبت للجزيرة ولكنني توقفت وأعلنت انسحابي منها لأنهم نشروا مقالاتي بتدخل في النص دون علمي، كما نشر أحد مقالاتي تحت اسم كاتب نكرة ولم يكن لديهم تراتبية في تنظيم المقالات حسب التسلسل الذي وضعته، ففهمت الرسالة وتوقفت ولم آخذ منهم أي مقابل .
• وهل تكتب من حاجة؟
إطلاقا.
• وما مدى استفادتك من كتبك الـ 65؟
صرت معروفا لدى الناس بعد نشرها واستفدت ماديا، لأن وزارة الثقافة تأخذها مني كل عام بمقابل مجز.
• وهل رفض لك أي كتاب؟
توقعت أن يوقفوا رواية بنت الرصافة وعزمت على طباعتها في الخارج لكنهم فسحوها وتحدثت فيها عن المشهد العراقي الذي أعرفه جيدا.
• رغم أنك حداثي عتيق إلا أنك هاجمت ومازلت الحداثة، كيف نفهم هذا التناقض؟
ولا أنكر أنني من الحداثيين الذين يؤمنون بأن الحداثة علم وتقنية وإيجابية، ولكنني ضد حداثة الغذامي وإبراهيم التركي لأنهم جعلوها مذهبا مسخرا ضد العروبة.
• ولكنك هاجمت الأدب الإسلامي أيضا؟
هذا من البدع الجديدة للإسلاميين الذين يكفرون العرب للقومية ويكفرون العلمانيين أيضا، والحقيقة أن العلمانية ليست كفرا وليست ضد الإسلام والعروبة، كما وأنها ليست فصل الإسلام عن الحياة العامة، وإنما فصل الكنيسة وهي التي ظهرت منذ القرن السادس عشر الميلادي ودعا لها القس الألماني مارتن لوثر عندما شاهد الكنيسة تقطع رؤوس العلماء وترميهم في المحارق، فثار عليها وجاء من بعده الفلاسفة، هيغل وأمثاله فعزلوا الكنيسة عن الحياة العامة، أما الإسلام فهو علماني إذا كانت العلمانية هي العلم والمنطق.
• لك ملاحظات دائمة على المشهد الثقافي؟
للأسف أن العابثين به كثر ولا أقصد الحداثة، فهي طفرة في هذا الجانب وهي أقل ما يواجه هذا المشهد، ولكن هناك أمورا تعطي نتائج سلبية عن الثقافة والمثقفين مثل الأندية الأدبية التي لا تخدم الأدب والثقافة؟
• تقصد أدبي حائل؟
أتحدث عن الجميع دون استثناء فما يحدث فيها من خناقات مرتبطة بالنيات وحالة تضاد دائم بين طيف وآخر تدعوني لمقاطعتهم بدءا من نادي حائل رغم أنني كنت من الأشخاص الذين صوتوا لفكرة النادي عندما وزع علينا سمو الأمير استمارات لذلك وحضرت افتتاح النادي رغم عدم دعوتي، ومما يضحك أن هدى الدغفق رئيسة القسم النسوي في أدبي الرياض، كتبت قبل أيام أن النساء مهمشات ورئيس النادي لا يرد عليهن، لدرجة أنهم عملوا وليمة معتبرة للرجال في النادي لدى استضافتهم لأديب زائر فيما أعطوا النساء فطائر، فرد عليها رئيس النادي: ان هذا غير صحيح، فانظر إلى أي مدى وصل مستوى الأندية الأدبية.
• هل لديك اعتراضات على دخول النساء للأندية الأدبية؟
على العكس مما تقول فأنا مع المرأة وقد دفعت ثمن مطالبتي بتحررها في الستينيات ومازلت أقف معها وأفرح إذا قرأت لواحدة من بناتنا تكتب كلاما تلامس فيه مشاكل المجتمع.
• إذن اعتراضك مبني على ماذا؟
على تعدد الأندية الأدبية المحلية، وعدم حصرها في ناد أدبي واحد على مستوى الوطن، كما هو الحال مع من سبقونا في الثقافة والأدب كمصر وسوريا، أما الإكثار من الأندية المحلية التي نشأت عندما كانت الرئاسة العامة لرعاية الشباب تنشئ أندية رياضية وبجوارها ناد أدبي في كل منطقة فغلبت الاختيارات الخاطئة، وليتنا نخصص أيضا ناديا أدبيا للنساء مثل استقلالية تعليم البنات.
• بمن تأثرت في كتاباتك؟
لم أتأثر بكاتب ولم أعجب بأي قامة أدبية، وإنما تأثرت بكتب المستشرقين والرحالة الأجانب التي أجابت عن تساؤلاتي الدائمة عن التاريخ والعرب ووجدت فيها تحليلا وتقديرا لأعمار الشعوب القديمة وآثارهم ولغتهم وهويتهم.
• حتى العقاد وطه سين؟
العقاد أديب ومثقف كبير وقلمه أسرع من الصاروخ لكنه لم يوصلني لنتيجة من خلال مراوغاته الأدبية في الكتابة حتى في العبقريات، أما طه حسين فهو تلميذ مخلص لأستاذه (مارجيليوت) أحد أشد المستشرقين عداء للعرب والإسلام وكان ولاؤه الثقافي لفرنسا بحكم أنه درس في السوربون وتزوج فرنسية، وبحكم أنه أيضا ثائر على الأزهر وكتب كتابا أشبه بكتاب ابن المقفع يعارض فيه القرآن ثم تراجع عنه ثم كتب كتابا آخر وقال فيه إنه لا توجد أمة عربية ولا جاهلية وان الشعر الجاهلي منحول من قبل الرواة في القرنين الثاني والثالث الهجري وأن عنترة وعمرو بن كلثوم مجرد أوهام، ونسي أن الشعر الجاهلي الذي يلامس القلوب والنخوة ولا توجد ظواهر إيمانية تدل على الفطرة العميقة إلا فيه كما يقول طرفة بن العبد:
لعمرك ما الأيام إلا معارة
فما اسطعت من معروفها فتزود
عن المرء لاتسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
لعمرك ما أدري وإني لأوجل
أفي اليوم إقدام المنية أم غد
فإن تك خلفي لايفتها سواديا
وإن تك قدامي أجدها بمرصد
فهل تجد إيمانا أشد من هذا الإيمان في أي شعر آخر جاء بعد الشعر الجاهلي.
• إذن لست في حالة تضاد مع أدباء مصر لموقف ما؟
أبدا، ولكنني أعتقد أن طه حسين والعقاد لو كانوا عندنا ما درى عنهم أحد، ولكن لأنهم في مصر فقد ظهروا على السطح وهذا يجيب على سؤالك فالعرب منذ الدولة الأيوبية مرورا بحكم المماليك، ثم فترة الحكم العثماني والإنجليزي وإلى الآن لا يستطيعون أن يعملوا شيئا بدون مصر وهذه الحقيقة بنى عليها الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وتواضع مع المصريين إلى آخر حد في سبيل توثيق العلاقة معهم.
• لكنك تأثرت سياسيا بعبد الناصر والقومية العربية؟
عبد الناصر لم يكن قوميا وإنما عسكريا شوفينيا، واكتشفنا أن شعاراته لم تكن صادقة بشأن المرأة، فلم نر إلا بنت الشاطئ التي وضعها في الشؤون الاجتماعية، أما الفلاحون والعمال فكانوا الطبقة المسحوقة ولم نشاهد من الناصرية إلا (زمن الضباط) على غرار أزمنة الكهنة والسحرة والحداثة، وليتهم كانوا من نخب الضباط أيضا، أما القومية فبدون شك مازلت قوميا وسأظل كذلك لأن القومية العربية هي أصلي، وإيران قومية فارسية رغم أن الفرس لا يشكلون إلا أربعين بالمائة من الإيرانيين، وأمريكا قومية، بل إن الملك عبد العزيز قومي أيضا وعندما كتب له الأتراك عندما بدأ العرب يتمردون على الدولة العثمانية في آخر أيامها (ماذا تريدون أيها العرب؟) فقال لهم كلمات تجعلني أعتز بهذا الرجل بين معاصريه وما زالت تستثيرني إلى السماء (حنا العرب لا ننام على ضيم).
• الغريب أنك تأثرت بالقومية عبر الكتاب وليس الزعماء؟
وهذه هي المشكلة أن العرب لم يسلكوا الطريق الذي يوصلهم إلى الوحدة العربية وجاء تأثري بالقومية من خلال كتب عرابها الأول وفيلسوفها وصاحب أول حفيظة نفوس من الجامعة العربية (ساطع الحصري) فقد قرأت كل كتبه ورغم أنه مصري فقد انتقد المثقفين المصريين وطه حسين تحديدا لتمسكهم بالفرعونية وتنكرهم للقومية العربية.
• قلت عن أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري إنه سفسطائي؟
منذ الثمانينيات الهجرية وأنا أقرأ لابن عقيل كل كتبه ومقالاته ومحاضراته وندواته، فلم أجد فيها إلا (سفسطة) وهذا المصطلح أطلقه فلاسفة اليونان الذين حاكموا الفيلسوف سقراط وصاروا يتكلمون كلاما معسولا لكن ليس له أهمية، فهؤلاء السفسطائيون حاكموا سقراط وحكموا عليه بالإعدام بحجة أنه سوف يفسد شباب اليونان ويعارض دينهم مع أن سقراط عندي أعظم فيلسوف يوناني لأنه وضع منهجا يتبع إلى الآن وحكمت على الأمور على عكس من يقولون عن أفلاطون إنه الأعظم من منطلق أنني بدوي وأحكم على الأمور بدون تقعر أو تعقيد.
• ثم أتبعت ذلك بالهجوم على ابن خالتك الدكتور عبدالرحمن الفريح؟
المشكلة أن الدكتور عبدالرحمن ابن عمي وابن خالتي في نفس الوقت ولكنه يخالف توجهي فأنا بصراحة وقولوا لي إن كنت مخطئا (عاص على بصيرة) وتوجهي مع الأكثرية في حائل أن قبيلة شمر هم أهل المنطقة وأول من سكنها من القبائل الموجودة الآن، ولكن عبدالرحمن يخالفني فيقول إن قبيلتنا تميم كانت موجودة قبل شمر كما أن قفار موجودة قبل حائل مع أن قفار لم يتجاوز وجودها 400 سنة فقط أما حائل فمعروفة من العصر الجاهلي وكان اسمها (القرية) وما قاله امرؤ القيس من ذكر للقرية وأكناف حائل مثبت في التاريخ وأي مثقف يعرف أن المقصودين في شعر امرئ القيس ليسوا بني تميم، ويبدو أن عبدالرحمن بنى معلوماته في كتابه عن قفار على ما كتبه المستشرق الفنلندي والذي زار حائل عام 1845م فوجد أن بيوت قفار تصل إلى 500 بيت وبيوت حائل لا تتجاوز 210، ولكنه للأسف بناها أيضا على تصور عنصري عندما قال إن بني تميم أشجع من شمر وهذه قبلية مرفوضة فالعرب كلهم شجعان وأصحاب نخوة، وللأسف جاء أبو عبد الرحمن بن عقيل، فسانده فيما كتب ولم أستغرب منه هذه السفسطائية التي اشتهر بها.
• لماذا تتمسك بالكوخ إلى الآن ؟
أنا متمسك بالبساطة لأنها ثقافتي الأولى فأنا لا ألبس العقال مثلا من باب التدين كما يفعل البعض ولكن من باب تبسيط الأشياء وأكتفي بالعمامة مع أن هذه العمامة الحمراء لم تكن لبس العرب قبل مجيء التتار إلى بغداد ولكن قطعهم لرقاب كل من يلبس عمامة عربية في ذلك الوقت استدعى من الرجال استخدام أغطية النساء فكان التتار إذا رأوها توقفوا عن قتل الرجال فأصبحت لباسا للرجال بعد ذلك.
• قال عنك عبدالله بن خميس (اقرأوا لهذا الرجل) لماذا؟
لقائي بهذا الرجل جاء على خلفية إعدادي لكتاب عن النخيل في المملكة والحقيقة أنني كونت علاقات مع عدد من الأدباء لكنها ماديا لم تشفع لي بل أخذت كل ما أملك لأنني كنت أطبعها على حسابي الخاص.
• لك علاقة متميزة مع الأمير مقرن أمير حائل سابقا؟
الصراحة أنها ليست متميزة من جانبي لأنني لم أكن أزوره الا نادرا ولكن لأنه (متميز) في تعامله مع الناس وتعاطــفه مع قضاياهم، وأول معرفتي بسموه عندما ألقيت أمامه كلمة عن المزارعين فجــعلـــتها مختصرة ومبنية على نص حداثي وقد لفتت انتبـــاهه فسأل عني ومن يومها ونحن على صلـة ويتحدث معي دائما بشــــأن الزراعــــة وظــلــلــت أشـــارك في أسبوع الشجرة الذي يقام كل عام وكان يقول دائما ناقــشـــوني فليس بيننا سرية وقولوا ماتريدون.
• قمت بمحاولات جريئة للزراعة في حائل أثنى عليها الملك فهد؟
في عام 1404هـ قمت بتجربة زراعة البطاطس في فصل الخريف وكانوا من قبل لايزرعونه الا في الشتاء فنجحت التجربة وصارت لها جدوى اقتصادية وردود فعل في منطقة حائل ، ثم كررت التجربة عام 1405 هـ فزرعت القمح في فصل الصيف وهو محصول شتوي ونجحت التجربة لكن وزير الزراعة رأى أن يتم الــتـعـتـيـم عليها لأنها يمكن أن تستهلك مياه كبــيرة ولأن زراعة القمح تجاوزت حدود الاكــتفـاء الذاتي في تلك الفتـــرة وقدرة صوامع الغــلال على الاستيعاب فكتــبت لجلالـــة الملك فهد رحمه الله ووصلني منه ثناء وشكر.