نواف بيك البريدية
17/08/2009, 02:11 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، وعلى آله وصحبه من والاه.
أما بعد:
فإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراق سماحة شيخنا عبد الله بن جبرين لمحزونون.
ووفاءً لبعض حق الشيخ على تلميذه؛ أسجّل بعض الخواطر الحاضرة والمواقف عنهرحمه الله، فقد كان رحمه الله مدرسة سلفية علمية سلوكية، ومثالاً نادراًفي وقتنا.
* كان رحمه الله مثالاً للجدّ منذ نشأته إلى مماته، فقد وُلد سنة 1349 فيمنطقة نائية، صعبة الظروف، ولم يثنه ذلك عن التزود من العلم، فكان يمشيالمسافات الطويلة على قدميه للدراسة، فدرس على مشايخ أبرزهم العلامة عبدالعزيز أبو حَبيب الشَّثْري، وابنه معالي الشيخ ناصر، وحفظ القرآن وعدداًمن المتون، ثم انتقل للرياض سنة 1374 ولازم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيمرحمه الله ملازمة تامة، وصار من أبرز تلامذته في تلك المرحلة، وكتب عنهالكثير من شروحه وأماليه القيمة، ولكنه فقدها في حادثة داهم فيها الماءبيته كما أخبرنا، ودرس كذلك على سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بنباز، وتأثر به كثيراً، وأخذ عن غيرهم.
رحل قديماً للدعوة في بوادي شمال المملكة سنة 1380، ومن ذلك الوقت وهومتصدِّ للتدريس، وكان من أبرز مشايخ (دار العلم) في الرياض، ويتناوبالإفتاء فيها مع شيخنا عبد الله العقيل حفظه الله، ويصبر على الطلبة صبراًعجيباً، فحدّثني شيخنا سعد الحميد حفظه الله -وهو من كبار تلاميذه- أنالشيخ كان يقعد في حلقته قديماً الاثنان والثلاثة، ويصحح لهم تلاوةالقرآن، ويأتيه العوام وأشباههم ويصبر على تعليمهم لأوليات العلم بصدر رحب.
وأما الذي عاينتُه وعاينه الناس آخر حياته: أن وقته مستغرق في التدريسوالإفادة، بعد الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس، وربما درّس في المجلس الواحدعشرة كتب مختلفة، وبعد العصر إلى ما بعد العشاء، مع إجابة الفتاوى،والقراءة للرقية، ومراجعة الكتب والرسائل له ولغيره، وكتابة الردودوالمقدمات والبيانات، والشفاعات -وما أكثرها-، واستقبال الناس وقضاءحاجاتهم، وزيارة العلماء والفضلاء، وحضور المناسبات، فلا يرتاح الشيخ فييومه وليلته إلا قليلاً، وكان كثير السفر في الدعوة والتدريس، ولا سيما فيالصيف.
وكان الشيخ حافظاً للود، فرأيته يزور شيخنا عبد الله العقيل، وبينهما حبٌّوثناء متبادل، وأخبرنا الشيخ الصالح المعمر هميجان القحطاني في هجرتهالقريبة من الرين أن الفقيد كان يزوره كل مدة، وكان يزور بعض كبار طلبته،مثل شيخنا عبد العزيز بن قاسم حفظه الله.
نشاطٌ وجِدٌّ في المكرمات عجيب! لم يفتر عن ذلك إلا أيام اشتداد مرضه، بلحتى في ذلك الظرف كان يسعى ما استطاع لنفع الناس، وكان من أواخر أعمالهالقراءة على الماء للرقية قبل إغمائه بساعات، وأعلن عن دورتين علميتين فيمسجد الراجحي بشبرا، وفي مسجد الصانع بالسويدي.
ومن أمثلة همة الشيخ وجدّه رسالته الدكتوراة الضخمة، التي كانت تحقيق شرحالزركشي على الخرقي، حيث عملها في سبع مجلدات كبار، والعادة في مثله أنيتقاسمه جماعة في رسائل جامعية.
* كان شيخنا رحمه الله آية في التواضع، يجلس في غالب دروسه العامة بينطلبته، لا خلف منصة وطاولة، ولا يتمّيز عنهم بارتداء المشلح (البشت)،ويتواضع لطلبته جداً، وهكذا بيته متواضع جداً، وأثاثه من النوع العادي،زهدٌ ماثلٌ ممن لو شاء سَعَت الأموال إليه، والسيارة التي كان يستقلهاذُكر لي أنه لم يشترها بل أُهداها له أحد الأمراء مع عزيمةٍ بأنيستخدمها.. بابُه مفتوح، وقلبه مفتوح، يقابلك دائما بابتسامته المحببة؛التي تفرض عليك احترامه مع لحيته البيضاء المهيبة، تحاول جاهداً أن تقبّلرأسه فلا تنجح إلا نادراً، لأنه يعترضك بوضع ساعده فوق رأسه، أو يمسكعنقك، وما قوي الناس على تقبيل رأسه – بشيء من اليُسر والأمان!- إلا في أواخر سني عمره!
وأذكر في ذلك موقفين معي: مرة في أحد دروسه ذكر معلومة مشتهرة عن الصحابيالجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، لكنها غير ثابتة عند التحقيق،فكتبتُ ورقة بذلك وأرسلتُها للشيخ، وقرأها أمام الحضور، وقال بكل تواضع:هكذا كتب الأخ، ونستغفر الله إن أخطأنا.
ولا أنسى لما طلبت من سماحته الكتابة بشأن القطعة المكذوبة التي وضعها بعضالغلاة وزعموا أنها من مصنف عبد الرزاق الصنعاني، وكتبتُ فيها كتابة،وأعطيتُها مع الأصل المردود عليه لمكتب الشيخ، فلم يرعني إلا اتصالٌ فياليوم التالي، وآخر ما توقعتُه أن يكون المتصل هو الشيخ بنفسه، قال بنبرتهالمعتادة بعد السلام: معكم عبد الله بن جبرين -هكذا دون ألقاب- ولعله قال:(معكم أخوكم) أيضاً! وقال: اتصلت بك قبل ذلك وجوالك مغلق لأشكرك علىكتابتك، وقد كتبتُ لك بياناً في الموضوع تفضل وخذه من المكتب، وختم بدعواتصالحات أرجو من الله إجابتها، وأنهى المكالمة بالسلام، وأنا بالكاد أستوعبالموقف الذي أثّر بي كثيراً، من تواضع الشيخ، وسرعة استجابته -رغم انشغالهالتام بالدروس المكثفة وقتها وغيرها- والتشجيع والدعاء، وكان بإمكانه أنيوكل أمر الإخبار لأحد أبنائه أو العاملين في مكتبه، أو يكتفي بالاتصالالأول! ولكنه سماحة الشيخ ابن جبرين بتواضعه وأخلاقه الرفيعة! ولما أخذتالبيان ظهر لي أن الشيخ اقتطع من وقته الثمين جزءاً ليس قليلاً لهذاالموضوع، فقد قرأ الأصل والرد الطويلين، وراجع لأجله بعض الكتب، وكانبيانه من أهم البيانات التي كُتبت في العالم الإسلامي في إنكار تلكالجريمة النادرة من الكذب المعاصر في الحديث النبوي.
* وكان رحمه الله من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، والناصحينللخاصة والعامة، والمناصرين لقضايا المسلمين، وله المواقف المشرفة في ذلك،وهو من أبرز الرادّين على بعض الفرق الزائغة، وكان راسخاً في موقفه منهالمنطلق من الثوابت العقدية، ولم يكترث بأبواق من تميل بهم العواطفوالدعايات الإعلامية، مع تعرضه لمحاولات التهديد والإيذاء في سفره العلاجيالأخير بألمانيا.
* كان الشيخ رحمه الله حافظاً للعلم، عجيب الاستحضار، ينتقل من درس إلىآخر، ويتنقل من فن لغيره، ويشرح في الكل وينقل الأقوال دون مراجعة ولاتحضير مسبق، وأنّى يجد الوقت لذلك؟ وسمعت شيخنا سعد الحميّد حفظه الله مرةيقول: الحمد لله أنه بارك لنا في حافظة شيخنا واستحضاره للمسائل.
وكان الشيخ من مراجع الفتيا للناس في حياة شيخه ابن باز، بل نُقل عن سماحةالشيخ ابن باز الاستشهاد بفتوى شيخنا ابن جبرين، وكذلك سمعت من شيخنا عبدالله العقيل، وأحال عليه في بيانه عن الجزء المكذوب على مصنف عبد الرزاق.
وكان مع تضلعه في المذهب الحنبلي متبعاً للدليل، راجعاً إليه، ولو خالف المنقول من المذهب،
* ومن القصص المعبرة التي شهدتها له: أنه تكلم في إحدى دروس التسهيلللبَعْلي عن العمالة الوافدة، واستطرد في الكلام إلى أن أصاب فيه -من غيرقصد- جَرْحاً في نفوس بعض الحضور من الوافدين، وفي نهاية الدرس قرأ المعيدورقة جاءت للشيخ: بأنك قلتَ كذا وكذا وآلمتنا، فقال الشيخ أمام الملأالكبير: إنني لم أكن أقصد هذا، وأعتذر، وأرجو المسامحة، ونحو ذلك.
لم تنته القصة هنا، كان ذلك الدرس في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حيسلطانة بعد صلاة العصر، وكان لشيخنا درسان متواليان بعد المغرب والعشاء فيمسجد الراجحي بشبرا، وكنت ممن حضرهما، وبعد درس العشاء طُرحت الأسئلة عنالدرسين، فجاء ضمنها ورقة لأحدهم مفادها: إنني يا شيخ بعد أن سمعت منكالكلام الآنف في درس العصر تضايقت، ووقعتُ فيك، واغتبتك، فأرجو منكمسامحتي. فما كان من الشيخ إلا أن قال بابتسامته المعتادة ما معناه: قدحللتك، واشهدوا أنني حللت كل مسلم!
* فلا غرو أن منحه الله القَبول لعلمه وعمله وسلامة صدره وتصديه لنفعالناس، فما أكثر ما سمعنا الأسئلة التي تطرح عليه تستهل بعبارة: إني أحبكمفي الله، ورأى الجميع اهتمام الناس وتأثرهم بخبر مرضه الأخير وتلهفهملسماع أخباره في الرحلة العلاجية بألمانيا، ثم لما فجع الناس خبر وفاتهالمفاجئ الساعة الثانية والربع بعد ظهر الاثنين 20 رجب 1420 انتشر الخبربين الناس في السعودية وخارجها في مدة وجيزة، وعزى الناس بعضُهم بعضاً،ودمعت العيون، وتأثرت القلوب، وتوافد الناس لمستشفى التخصصي حيث توفيالشيخ، وإلى منزله، وإلى مغسلة الدريهمية للأموات، وكانت الجنازة الحافلةفي ظهر اليوم التالي التي قلّ أن شهدت مثلها الرياض، حيث امتلأ الجامعالكبير (مسجد تركي بن عبد الله) وساحاته الخارجية بالناس، لا أشك أنهمبمئات الآلاف، وارتفع النحيب والنشيج عليه من أرجاء المسجد وقت الصلاةعليه، واجتمع في مقبرة العود حيث دُفن جمع غفير، وذلك فضل الله يؤتيه منيشاء، وفي هذا المشهد المهيب استذكر في خشوع قوله تعالى: (لمثل هذا فليعملالعاملون).
* والحديث ذو شجون، والمواقف والعبر لا تنتهي، وقد أدليت بدلوي مع وجود منهو أولى مني، لكنه -كما أسلفت- بعض الوفاء لحق شيخي الذي استفدت منهالكثير.
وأختم هذه الكتابة وأنا والله متأثر في الصميم بوفاة شيخنا، متفائلاً بماأخبرنيه اليوم أخي الفاضل عمر بن إبراهيم بن العلامة عمر بن سليم، حيث ذكرأنه رأى الشيخ في الرؤيا عند الدفن وقد كُشف عن وجهه، فصار يعظ الناسويذكرهم، وكان نور وجهه شيئا عجيباً.
أسأل الله أن يغفر لنا ولسماحة شيخنا ولجميع المسلمين، وأن يبارك في عقبهوما خلّف من علمه، وأن يجمعنا به في الفردوس الأعلى: (مَعَ الَّذِينَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَوَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً)، إنه على كلشيء قدير.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه أفقر العباد محمد زياد بن عمر التُّكْلَة
في الرياض
المزيد... (http://www.nawafnet.ws/msg-3472.htm)
الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، وعلى آله وصحبه من والاه.
أما بعد:
فإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراق سماحة شيخنا عبد الله بن جبرين لمحزونون.
ووفاءً لبعض حق الشيخ على تلميذه؛ أسجّل بعض الخواطر الحاضرة والمواقف عنهرحمه الله، فقد كان رحمه الله مدرسة سلفية علمية سلوكية، ومثالاً نادراًفي وقتنا.
* كان رحمه الله مثالاً للجدّ منذ نشأته إلى مماته، فقد وُلد سنة 1349 فيمنطقة نائية، صعبة الظروف، ولم يثنه ذلك عن التزود من العلم، فكان يمشيالمسافات الطويلة على قدميه للدراسة، فدرس على مشايخ أبرزهم العلامة عبدالعزيز أبو حَبيب الشَّثْري، وابنه معالي الشيخ ناصر، وحفظ القرآن وعدداًمن المتون، ثم انتقل للرياض سنة 1374 ولازم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيمرحمه الله ملازمة تامة، وصار من أبرز تلامذته في تلك المرحلة، وكتب عنهالكثير من شروحه وأماليه القيمة، ولكنه فقدها في حادثة داهم فيها الماءبيته كما أخبرنا، ودرس كذلك على سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بنباز، وتأثر به كثيراً، وأخذ عن غيرهم.
رحل قديماً للدعوة في بوادي شمال المملكة سنة 1380، ومن ذلك الوقت وهومتصدِّ للتدريس، وكان من أبرز مشايخ (دار العلم) في الرياض، ويتناوبالإفتاء فيها مع شيخنا عبد الله العقيل حفظه الله، ويصبر على الطلبة صبراًعجيباً، فحدّثني شيخنا سعد الحميد حفظه الله -وهو من كبار تلاميذه- أنالشيخ كان يقعد في حلقته قديماً الاثنان والثلاثة، ويصحح لهم تلاوةالقرآن، ويأتيه العوام وأشباههم ويصبر على تعليمهم لأوليات العلم بصدر رحب.
وأما الذي عاينتُه وعاينه الناس آخر حياته: أن وقته مستغرق في التدريسوالإفادة، بعد الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس، وربما درّس في المجلس الواحدعشرة كتب مختلفة، وبعد العصر إلى ما بعد العشاء، مع إجابة الفتاوى،والقراءة للرقية، ومراجعة الكتب والرسائل له ولغيره، وكتابة الردودوالمقدمات والبيانات، والشفاعات -وما أكثرها-، واستقبال الناس وقضاءحاجاتهم، وزيارة العلماء والفضلاء، وحضور المناسبات، فلا يرتاح الشيخ فييومه وليلته إلا قليلاً، وكان كثير السفر في الدعوة والتدريس، ولا سيما فيالصيف.
وكان الشيخ حافظاً للود، فرأيته يزور شيخنا عبد الله العقيل، وبينهما حبٌّوثناء متبادل، وأخبرنا الشيخ الصالح المعمر هميجان القحطاني في هجرتهالقريبة من الرين أن الفقيد كان يزوره كل مدة، وكان يزور بعض كبار طلبته،مثل شيخنا عبد العزيز بن قاسم حفظه الله.
نشاطٌ وجِدٌّ في المكرمات عجيب! لم يفتر عن ذلك إلا أيام اشتداد مرضه، بلحتى في ذلك الظرف كان يسعى ما استطاع لنفع الناس، وكان من أواخر أعمالهالقراءة على الماء للرقية قبل إغمائه بساعات، وأعلن عن دورتين علميتين فيمسجد الراجحي بشبرا، وفي مسجد الصانع بالسويدي.
ومن أمثلة همة الشيخ وجدّه رسالته الدكتوراة الضخمة، التي كانت تحقيق شرحالزركشي على الخرقي، حيث عملها في سبع مجلدات كبار، والعادة في مثله أنيتقاسمه جماعة في رسائل جامعية.
* كان شيخنا رحمه الله آية في التواضع، يجلس في غالب دروسه العامة بينطلبته، لا خلف منصة وطاولة، ولا يتمّيز عنهم بارتداء المشلح (البشت)،ويتواضع لطلبته جداً، وهكذا بيته متواضع جداً، وأثاثه من النوع العادي،زهدٌ ماثلٌ ممن لو شاء سَعَت الأموال إليه، والسيارة التي كان يستقلهاذُكر لي أنه لم يشترها بل أُهداها له أحد الأمراء مع عزيمةٍ بأنيستخدمها.. بابُه مفتوح، وقلبه مفتوح، يقابلك دائما بابتسامته المحببة؛التي تفرض عليك احترامه مع لحيته البيضاء المهيبة، تحاول جاهداً أن تقبّلرأسه فلا تنجح إلا نادراً، لأنه يعترضك بوضع ساعده فوق رأسه، أو يمسكعنقك، وما قوي الناس على تقبيل رأسه – بشيء من اليُسر والأمان!- إلا في أواخر سني عمره!
وأذكر في ذلك موقفين معي: مرة في أحد دروسه ذكر معلومة مشتهرة عن الصحابيالجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، لكنها غير ثابتة عند التحقيق،فكتبتُ ورقة بذلك وأرسلتُها للشيخ، وقرأها أمام الحضور، وقال بكل تواضع:هكذا كتب الأخ، ونستغفر الله إن أخطأنا.
ولا أنسى لما طلبت من سماحته الكتابة بشأن القطعة المكذوبة التي وضعها بعضالغلاة وزعموا أنها من مصنف عبد الرزاق الصنعاني، وكتبتُ فيها كتابة،وأعطيتُها مع الأصل المردود عليه لمكتب الشيخ، فلم يرعني إلا اتصالٌ فياليوم التالي، وآخر ما توقعتُه أن يكون المتصل هو الشيخ بنفسه، قال بنبرتهالمعتادة بعد السلام: معكم عبد الله بن جبرين -هكذا دون ألقاب- ولعله قال:(معكم أخوكم) أيضاً! وقال: اتصلت بك قبل ذلك وجوالك مغلق لأشكرك علىكتابتك، وقد كتبتُ لك بياناً في الموضوع تفضل وخذه من المكتب، وختم بدعواتصالحات أرجو من الله إجابتها، وأنهى المكالمة بالسلام، وأنا بالكاد أستوعبالموقف الذي أثّر بي كثيراً، من تواضع الشيخ، وسرعة استجابته -رغم انشغالهالتام بالدروس المكثفة وقتها وغيرها- والتشجيع والدعاء، وكان بإمكانه أنيوكل أمر الإخبار لأحد أبنائه أو العاملين في مكتبه، أو يكتفي بالاتصالالأول! ولكنه سماحة الشيخ ابن جبرين بتواضعه وأخلاقه الرفيعة! ولما أخذتالبيان ظهر لي أن الشيخ اقتطع من وقته الثمين جزءاً ليس قليلاً لهذاالموضوع، فقد قرأ الأصل والرد الطويلين، وراجع لأجله بعض الكتب، وكانبيانه من أهم البيانات التي كُتبت في العالم الإسلامي في إنكار تلكالجريمة النادرة من الكذب المعاصر في الحديث النبوي.
* وكان رحمه الله من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، والناصحينللخاصة والعامة، والمناصرين لقضايا المسلمين، وله المواقف المشرفة في ذلك،وهو من أبرز الرادّين على بعض الفرق الزائغة، وكان راسخاً في موقفه منهالمنطلق من الثوابت العقدية، ولم يكترث بأبواق من تميل بهم العواطفوالدعايات الإعلامية، مع تعرضه لمحاولات التهديد والإيذاء في سفره العلاجيالأخير بألمانيا.
* كان الشيخ رحمه الله حافظاً للعلم، عجيب الاستحضار، ينتقل من درس إلىآخر، ويتنقل من فن لغيره، ويشرح في الكل وينقل الأقوال دون مراجعة ولاتحضير مسبق، وأنّى يجد الوقت لذلك؟ وسمعت شيخنا سعد الحميّد حفظه الله مرةيقول: الحمد لله أنه بارك لنا في حافظة شيخنا واستحضاره للمسائل.
وكان الشيخ من مراجع الفتيا للناس في حياة شيخه ابن باز، بل نُقل عن سماحةالشيخ ابن باز الاستشهاد بفتوى شيخنا ابن جبرين، وكذلك سمعت من شيخنا عبدالله العقيل، وأحال عليه في بيانه عن الجزء المكذوب على مصنف عبد الرزاق.
وكان مع تضلعه في المذهب الحنبلي متبعاً للدليل، راجعاً إليه، ولو خالف المنقول من المذهب،
* ومن القصص المعبرة التي شهدتها له: أنه تكلم في إحدى دروس التسهيلللبَعْلي عن العمالة الوافدة، واستطرد في الكلام إلى أن أصاب فيه -من غيرقصد- جَرْحاً في نفوس بعض الحضور من الوافدين، وفي نهاية الدرس قرأ المعيدورقة جاءت للشيخ: بأنك قلتَ كذا وكذا وآلمتنا، فقال الشيخ أمام الملأالكبير: إنني لم أكن أقصد هذا، وأعتذر، وأرجو المسامحة، ونحو ذلك.
لم تنته القصة هنا، كان ذلك الدرس في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حيسلطانة بعد صلاة العصر، وكان لشيخنا درسان متواليان بعد المغرب والعشاء فيمسجد الراجحي بشبرا، وكنت ممن حضرهما، وبعد درس العشاء طُرحت الأسئلة عنالدرسين، فجاء ضمنها ورقة لأحدهم مفادها: إنني يا شيخ بعد أن سمعت منكالكلام الآنف في درس العصر تضايقت، ووقعتُ فيك، واغتبتك، فأرجو منكمسامحتي. فما كان من الشيخ إلا أن قال بابتسامته المعتادة ما معناه: قدحللتك، واشهدوا أنني حللت كل مسلم!
* فلا غرو أن منحه الله القَبول لعلمه وعمله وسلامة صدره وتصديه لنفعالناس، فما أكثر ما سمعنا الأسئلة التي تطرح عليه تستهل بعبارة: إني أحبكمفي الله، ورأى الجميع اهتمام الناس وتأثرهم بخبر مرضه الأخير وتلهفهملسماع أخباره في الرحلة العلاجية بألمانيا، ثم لما فجع الناس خبر وفاتهالمفاجئ الساعة الثانية والربع بعد ظهر الاثنين 20 رجب 1420 انتشر الخبربين الناس في السعودية وخارجها في مدة وجيزة، وعزى الناس بعضُهم بعضاً،ودمعت العيون، وتأثرت القلوب، وتوافد الناس لمستشفى التخصصي حيث توفيالشيخ، وإلى منزله، وإلى مغسلة الدريهمية للأموات، وكانت الجنازة الحافلةفي ظهر اليوم التالي التي قلّ أن شهدت مثلها الرياض، حيث امتلأ الجامعالكبير (مسجد تركي بن عبد الله) وساحاته الخارجية بالناس، لا أشك أنهمبمئات الآلاف، وارتفع النحيب والنشيج عليه من أرجاء المسجد وقت الصلاةعليه، واجتمع في مقبرة العود حيث دُفن جمع غفير، وذلك فضل الله يؤتيه منيشاء، وفي هذا المشهد المهيب استذكر في خشوع قوله تعالى: (لمثل هذا فليعملالعاملون).
* والحديث ذو شجون، والمواقف والعبر لا تنتهي، وقد أدليت بدلوي مع وجود منهو أولى مني، لكنه -كما أسلفت- بعض الوفاء لحق شيخي الذي استفدت منهالكثير.
وأختم هذه الكتابة وأنا والله متأثر في الصميم بوفاة شيخنا، متفائلاً بماأخبرنيه اليوم أخي الفاضل عمر بن إبراهيم بن العلامة عمر بن سليم، حيث ذكرأنه رأى الشيخ في الرؤيا عند الدفن وقد كُشف عن وجهه، فصار يعظ الناسويذكرهم، وكان نور وجهه شيئا عجيباً.
أسأل الله أن يغفر لنا ولسماحة شيخنا ولجميع المسلمين، وأن يبارك في عقبهوما خلّف من علمه، وأن يجمعنا به في الفردوس الأعلى: (مَعَ الَّذِينَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَوَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً)، إنه على كلشيء قدير.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه أفقر العباد محمد زياد بن عمر التُّكْلَة
في الرياض
المزيد... (http://www.nawafnet.ws/msg-3472.htm)