تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رواية ((الفراشة)) من الادب الفرنسي لكل متذوق للانسانية


فنانه تشكيليه
21/08/2010, 02:37 AM
رواية ((الفراشة)) من الادب الفرنسي لكل متذوق للانسانية ......

الفراشة والانتصار على طريق العفَن
يمكن سحق الإنسان، لكن هزيمته
غير ممكنة.
ـ أرنست همنغواي.
رواية( الفراشة) لهنري شاريير هي أكثر من عمل روائي يضج بالنور والجمال الخفي والساطع وبموسيقى داخلية تعلن البهاء الكاشف للإنسان وهو يخوض في طريق الحرية بالضد من كل شيء، من وحشية المؤسسة وإلى ضراوة الطبيعة حين يجد المرء نفسه في قلب عنفوانها الجارف وهو أعزل إلا من الأظافر ومن إرادة صلبة في مواصلة العيش حتى مع الضواري والحشرات والقتلة والطقس العاصف.
إن بابيون ( أو الفراشة) هو البطل الرئيسي في هذه الملحمة الإنسانية العملاقة التي هي عبارة عن نشيد عظيم يغني روعة انتصار الانسان وينعي هزيمته حين يكون معبأ بالضوء والإصرار والوعي والرغبة الحارة في معانقة الحياة حتى في زنزانات الموت والعفن. هذا البابيون هو صورة ملتقطة بجمال أخاذ من عالمنا المليء بكل ما هو عجيب وغريب ونظيف ووحشي.
يدخل بابيون السجن لأول مرة شابا يبلغ من العمر 25 عاما بتهمة القتل العمد ويسجن بالأشغال الشاقة المؤبدة، ومنه يواصل فراره من بلد إلى آخر، وجزيرة إلى أخرى، ومغامرات وسجون وهروب وفشل وسجن وفرار وسجون تتكرر، حتى يصير كهلا، من دون أن ينتزعوا منه ذلك الإصرار الحار على التمسك بأهداب الحياة حتى في لحظات موت وشيك.
( كان المدعي العام واسمه القاضي برادلي، مرهوب الجانب يخشاه المحامون، وله صيت ذائع سيء، بأنه الأول في امداد المقصلة والسجون بالمحكومين، في فرنسا وفيما وراء البحار. انحنى علي قليلا ليكون أكثر أهمية كأنه يقول لي" إذا كنت تظن ايها الشهم أنك تستطيع الافلات مني فأنت على ضلال ووهم، فإن يدي هاتين سوف تمزقك مخالبهما المتأصلة في نفسي. لا أدع فريسة تفلت من يدي. ولا أبالي ان كنت مجرما أم بريئا، وكل ما يهمني أن أستغل كل ما هو ضدك، من مثل سيرتك الغجرية في مونتمارتر والشهادات الصادرة عن طريق الشرطة. سأجعلك انسانا مكروها جدا الأمر الذي سيحمل المحلفين على إخفائك من المجتمع).
هكذا كتب على البابيون إذن العيش الاجباري الشاق لغرض الاستسلام فهذا العقاب وحده جريمة أخرى لكنه يرفض التسليم بكل هذا العقاب الذي يتضاعف داخل السجون بسبب الهروب الدائم والشجارات التي تصل حد الضرب بالسكاكين مع مخلوقات بشرية سجينة تحولت، تحت ضغط المجتمع، أو تحت شروط السجن غير البشرية، وتحت رغباتها الملغية، إلى وحوش ضارية متأهبة للقتال والموت والقفز من فوق الصخور حتى في أفواه البحيرات المليئة بالتماسيح بل العيش مع الحشرات في زنازين وأكلها!
وفي كل هذا الخضم المنهك والمضطرب من الشخصيات المتفجرة، نجد هنري شاريير الروائي يضع قلمه الساخن على اللحظات الانسانية العنيفة والحية والمدهشة ويصل إلى قلوب هؤلاء الضحايا ويفجر في اعماقهم الحب والصداقة والرغبة والطفولة والأمل في العثور على مكان يليق بالانسان وبكرامته بصرف النظر عن أي شيء آخر، فالكرامة البشرية، أولا، وآخرا!
يهرب البابيون لأول مرة من مستشفى السجن بعد منتصف الليل مع السجين ( العربي) الذي شد وثاق الحرس من قدميه وسحبه نحو المراحيض، وبعد سقوط جرحى وقتلى ثم الهرب( مسرعا في الدجى بعون التيار) ومن بعد الدخول في غابات موحلة وعلى هذا المنوال تتكرر حياة بابيون بين الفرار والقبض وعبور الحدود، حدود المستعمرات الفرنسية، في زمن الحرب العالمية الثانية، وبين ابحار عبر جزر الحمام ، وممرات، وتيارات، ومستنقعات مائية ضحلة، وبين الشرب والعثور المؤقت على مكان هادئ نظيف في غابة أو على جزيرة، وبين العودة أكثر من مرة إلى السجن ومضاعفة العقاب، يواصل بابيون رحلته صوب ضوء سري يدفعه في كل مرة نحو مغامرة جديدة هي مغامرة الحرية.
( لقد انحرفنا كثيرا وبالاعتماد على الريح والامواج المتماثلة سنجدد مقدار انحرافنا اربع ساعات. سأسير شمال غرب لتعديل الانحراف. حل المساء فجأة منذ ان غابت الشمس في البحر مرسلة آخر شرارتها البنفسجية. ابحرنا( في قارب مخلع وقديم) ستة ايام أخر من غير متاعب إلا من قطرات المطر العاصف تصيبنا../.. ها قد مضى على دخولنا البحر أحد عشر يوما، ولم نر خلالها سوى مركب واحد من بعيد في الأفق، وقلت في نفسي: أيها الشيطان أين نحن؟).
وبعد كل محاولة هروب وفشل وقبض يواصل بابيون الهروب حتى يصل فنزويلا في قارب إثر قارب( اكتشفت عالما وأناسا وحضارة غريبة عني كليا) حتى يمضي كما في كل مرة إلى سجن "إلدورادو" وهي قرية على شاطئ رملي يكثر فيه بعض انواع الحيوانات والأسماك المفترسة وفي وسط النهر جزيرة وعليها معسكر حقيقي هو السجن الفنزويلي وفيه واصل العمل والنوم في منازل بعد ان حصل مع رفاق له على الحق في التجوال في هذه القرية المنعزلة عن العالم كبشر في دولة أخرى غير مهتمة بقوانين من خارجها.
شعر بابيون "الفراشة" بفرح لأن الناس هنا يأخذون( بمجامع القلوب ويأسرونها حتى أنني أزمعت الوثوق بهم ولن أهرب). وهذه العبارة الأخيرة تكشف النزوع العميق والآدمي لعالم البشر الأسوياء والطيبين والطبيعيين، وهي تعلن كذلك بصوت عفوي طفولي على ان بابيون لم يخرب تماما: إنه مازال قادرا على حب الناس والفرح بالسعادة وبالطيبة وعلى مواصلة الحياة من جديد رغم حطام الجسد، لأن القدرة على الحب في أوجها وهذا هو الانتصار الكبير للإنسان على شروط حياته القاسية. لقد انتزعوا منه مباهجه البريئة لكنهم لم يقبضوا على الفراشة لأن بابيون قرر كتابة سيرته هذه كما يقول صراحة في السطور الأخيرة وهذا هو الدرس العظيم من هذا الصراع الجبار بين الإنسان والوحش!
وفي هذا المكان يعلم فجأة أن سراحه سيطلق غدا. يهتف( غدا صباحا سأخرج إلى الحرية الحقيقية وتملأ قلبي فرحة عامرة، لقد انتصرت على طريق العفن وإلى الأبد. نحن في شهر أوغسطس 1944 وأنا أنتظر هذا اليوم منذ ثلاث عشرة سنة يوم رجعت الى بيتي الصغير في البستان، واعتذرت من جميع أصدقائي مستأذنا في الانسحاب لأنني في حاجة إلى الوحدة).
وهل تبلسم العزلة، يا بابيون هذه الجراح؟!
يقول:( ماضيّ لا يمحي بجرة اسفنجة، فواجب علي ان أرجع الى ما كنت عليه من الاعتبار في نظر نفسي اولا). وعند باب السجن ودعه الأصدقاء: ( وداعا بابي ونرجو لك حظا سعيدا. وداعا)!
ويضيف بابيون في نغمة حزينة وفرحة من الانتصار البطولي:( وليس أشق من هذا. ترك السلاسل التي كنا نجرها بعد ثلاث عشرة سنة" أنتما حران منذ اللحظة" وأداروا لنا ظهورهم متخلين بها عن حراستنا وهذا كل شيء وصعدنا الطريق الحصوية نحو النهر).
إن رواية( الفراشة) التي عرفها العالم كفيلم قبل سنوات، هي فعلا كما كتب عنها في التقديم :( ملحمة انسانية تضج بالبهاء، لكل ما هو خارق وواقعي.. حكاية انسان يجترح المستحيل من اجل الحرية.. حريته في حياة عادية ينالها جميع الناس بدون استثناء ويجترعونها حتى السأم يوما بيوم.. حريته في النوم بأمان..في المشي والضحك..والانتقام أيضا. عفوية حتى الجرح..تنساب بعذوبة صريحة تروي في كل عبارة موقفا له علاقة وشيجة بمكونات النفس البشرية التي تختبئ في أعماقها أدنأ وأخس ما يمكن لنا أن نتصوره عن الرداءة الانسانية التي تصل حد القتل تقطيعا.. حتى ازدراء اللحم البشري بشهية والقاء كائن بشري طعاما للنمل اللاحم... لكنها في الوقت ذاته تمسح غبارا كثيفا عن مواقف في غاية النبل وعفوية صارمة تشمخ بلا تكلف أو ادعاء...إنها تجربة فذة تنسرب في الاعماق كزجاج مطحون..لا تهضم لكنها لا تنسى..
بابيون..إنها معركة إنسان لا يلين في سبيل الحرية.. بالضبط.. هي الحرية)!

أبـو مشاري
21/08/2010, 01:56 PM
يســـــــــلمو