تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أعظم ملوك التاريخ !


موسى محمد هجاد الزهراني
21/03/2005, 09:49 AM
هارون الرشيد
الجمعة, 8 صفر, 1426
إذا افتخرت الأمم بحضاراتها ورجالاتها ، فإننا لنا أكبر الفخر بحضارة الإسلام السامقة ورجالاته العظيمة .. وإني سأحدثكم اليوم حديثاً ؛ عن أزهر عصر من عصور الإسلام وحضارته الشامخة ؛ سأنقلكم فيه إلى أعلى ذروة في سلسلة أمجاد العرب ؛ إلى الدور الذهبي ؛ إلى الأيام التي كانت كلها أمجاد وعزاً ..
إلى المدينة التي شهدت من الترف والبذخ ؛ والعظمة والجلال ؛ ما لم تشهد مثلَه مدينة . لا روما في الماضي ؛ ولا باريس اليوم ؛ إلاّ المدينة التي كان فيها مليونان من البشر منذ ألف وثلاثمائة سنة. حين كانت باريس قرية أصغر من مدينة الخبر ؛ وكانت أمريكا صحراء ما فيها إلا الوحوش . كانت هذه المدينة التي أحدثكم عنها تزخر بالقصور التي تفتن بصحونها وأبهائها ؛ ؛ وزخارفها ونقوشها ؛ وشرفاتها وقبابها ؛ وفيها البساتين التي جلبت إليها غرائب الأشجار ؛ ونوادر الأزهار ؛ من كل مكان . وفيها ستة آلآف حمام يغتسل فيه الناس ؛ وفيها عشرون ألف مسجد ؛ وفي نهرها ثلاثون ألف زورق ؛ تميس على صفحة الماء كل عشية فيكون منها مدارس علم ؛ ومجالس طرب ؛ ويكون منها مَخادع غرامٍ ؛ ويكون منها خلوات تأمل ؛ وكان فيها في تلك الأيام معامل تصنع الزجاج والورق ؛ وتضرب النقود ؛ وتنسج أنواع النسيج وتطرز وتنقش . وفيها الاختراعات التي أدهشت أوروبا وأهلها ؛ إذا أهدى حاكمها لحاكم أوروبا ساعة دقاقة تُقرع فيها الأجراس فخاف الأوروبيون وظنوا أن في الساعة جنياً يقرع أجراسها .
مدينة كانت دنيا كاملة ؛ فيها الخير و الشر ؛ العلم فيها وفيها الفسوق أيضاً . والدين فيها وفيها اللهو والمجون ؛ وفيها المحدثون وفيها الصالحون ؛ وفيها الشعراء والمغنون ؛ وفيها العفيفات المحصنات ؛ وفيها الجواري المسافحات ؛ وفيها أفحش الغنى ؛ وفيها أفظع الفقر ؛ وفيها التجار ؛ وفيها الشطار ؛ وفيه اللصوص وفيها الشحاذون ؛ ولكلٍّ عالم ٌ لا تدري به عوالمُها الأخرى .
مدينة كانت القوافل لا تنقطع عنها لحظة من ليل أو نهار ؛ تَحمل إليها كل ذي علمٍ وفنٍ ونبوغٍ ؛ وكل ذات سحر وجمال وفتون ؛ يستقر فيها أحسن وأجمل ما تخرج الأرض من ثمرات الطبيعة ؛ ونتاج العقول . اُختُصرت فيها الدنيا ؛ فكان فيها أمم من كل جنس ولسان في الدنيا .
تلكم هي بغداد . نعم إنها بغداد هارون الرشيد ؛ بغداد ألف ليلة وليلة ؛ بغداد التي صارت حُلُماً من الأحلام ؛ ووحياً لك أديب وشاعر .. لقد كانت بغداد سُرّة الدنيا وكانت قصبة الأرض وكانت أمل كل طامحٍ في المجد ؛ راغبٍ في العلم ؛ آمل في الغنى ؛ هائم بالجمال ..
بغـدادُ ، يا بغدادُ ما التَفَتَ المدى إلا وعنــــدكِ تُـــورٍق اللَّفتـــاتُ

بغدادُ ما ابتسمت رؤى تــاريخنا إلاً وعندكِ تُشرق البَسَمـــــــاتُ

صوت المــآذِن فيكِ يرفعنـا إلى قمم تشيِّدها لنـــا الصَّلــــــواتُ

لقد أشرفنا على بغداد ؛ في زمنٍ من أحسن أزمنتها ؛ فماذا فيها ؟ ماذا في بغداد ؟ ما هذه الحشود ؟ ما هذه الجنود ؟ ما هذه الأعلام والبنود ؟ لماذا يفرش السجاد على الأرض ؟ لماذا يقوم الجند على الجوانب ؟
تعالوا نسأل : ما هذا يا عم ؟
ألا تدري ؟ إنه وفد ملك الروم .. لقد صفَّ أمير المؤمنين على طريقه مئة وثمانين ألف شاب بثياب واحدة وهيئة واحدة ؛ سيوفهم مشهرة ؛ وهم متسربلون بالحديد ؛ وفرش لهم ثمانية وعشرين ألف سجادة ؛ وأقام لهم أربعين ألف ستارة من الديباج والحرير ؛ وترى إذا حل الليل سلسلة من المصابيح العجيبة ؛ طولها أربعة فراسخ . وصف لهم مدخل القصر الوحوش المدربة من السباع والنمور لتحييهم . أما داخل القصر فلا يستطيع أن يصفه لسان .
هذا هو أيها الأحبة .. هارون الرشيد ..
هارون الذي كان يحكم وحده حكماً واسعاً عشرين حكومة من حكومات اليوم .
الرشيد الذي كان يستلقي على ظهره وينظر إلى السحابة ويقول : أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك .
بغدادُ هذا سحابُ المزنِ إذ حكمت يَدُ الرشيدِ بعدلِ اللهِ في الأُممِ
يقولُ أنَّى سَكَبتِ المزنَ سوف أرى منه الخراجَ ويأتيني بلا غُرُمِ

الرشيد الذي دَخْلُ خزانته الخاصة أربعمائة وأحد عشر مليون دينار من الذهب كل سنة .
الرشيد الذي كان صورة من عصره ؛ صورة من بغداد التي فيها كل شيء .
أيها الأحبة :
إن ما يقوم به بعض من المستشرقين ومن سار في ركابهم من تشويه تاريخنا والإساءة إلى بعض الشخصيات التاريخية من أسلافنا بقصد فصل هذه الأمة عن تراثها الحقيقي ومجدها الأصيل، وتحويلها إلى أمة تهتم بآثار تافهة مثل الأواني المنزلية وما يلحق بها أو آثارٍ جاهلية كافرة كآثار الفراعنة أو الآشوريين أو غيرها، حتى يتسنى لهم مسخ شباب أمة الإسلام، وتوجيههم إلى ما يشتهون، وإماتة روح الجهاد في أنفسهم، وإماتة عقيدة الولاء والبراء في قلوبهم..
ومن هذه الشخصيات التي شُوهت، شخصية الرشيد خليفة من أعظم الخلفاء، وملك من أجل ّملوك المسلمين، كان يحكم من الصين شرقاً إلى بلاد المغرب غرباً، وتولى الخلافة وهو عمره 22 عاماً، وقاد الجيوش في عهد والده وهو حدث صغير يناهز الحلم، وغزا الروم وانتصر عليهم، ثم عقد معهم هدنة على أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون. كل ذلك وهو شاب صغير – وربما كان - له بعض التجاوزات أثناء توليه الخلافة، حينما توسع في الأخذ من بيت مال المسلمين، ولكن له من الأعمال العظيمة ما سنذكرها في هذه الخطبة كما جاء في كتب السير. إنه هارون الرشيد.

ولد هارون الرشيد عام 148هـ وتولى الخلافة عام 170هـ وتوفى عام 193هـ أي أنه مكث في الخلافة 23 عاماً، وحينما توفي كان عمره 45 عاماً رحمه الله رحمة واسعة وغفر له.
أيها الأحبة:
لقد كان الرشيد أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزواً وحجاً ... لقد كان يحج عاماً ويغزو ويجاهد عاماً آخر، ولقد كان رحمه الله ذا شجاعة ورأي وكان من أحسن الملوك وأنبلهم، كان إذا حج أخذ معه مائة من الفقهاء والعلماء وأبنائهم، وإذا لم يحج، أحج ثلاثمائةٍ منهم بالنفقة السابغة والكسوة التامة عليهم.
كان يتصدق بألف درهم كل يوم، وكان يروي الحديث بسند متصل إلى جده النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول ذلك على المنبر إذا خطب يوم الجمعة ويحدث بهذا الحديث: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)).
كان رحمه الله يجل العلماء ويجالسهم ويستمع منهم الحديث والموعظة.فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه
كان يعطي طلبة العلم راتباً قدره أربعة ألاف في السنة .. فما عرف زمان كثر فيه طلاب العلم والعلماء كثرتهم في زمن الرشيد .. حتى كان الولد يحفظ القرآن وهو ابن ثمان سنين ؛ ويحفظ الحديث ودواوين الشعر وهو ابن الحادية عشرة ؛ ويناظر العلماء وهو ابن الخامسة عشرة .. ... دخل على الرشيد يوماً أحد العلماء وهو أبو معاوية وكان ضريراً فوعظه – فبكى هارون ... فجاءه مرة ثانية في دعوة على الطعام، وبعد تناول الطعام. صب الخليفة الماء على يدي هذا العالم أبي معاوية الضرير ليغسلها وقال له: أتدري من يصب عليك الماء؟ قال لا: قال: أنا أمير المؤمنين ... الرشيد .. أعظم ملوك التاريخ وسيد ربع العالم وحاكم عشرين دولة من دول اليوم . أتدرون ماذا قال هذا العالم ؟ لم يتحرك ولم يهتز فيه شعره ولم ير في ذلك إلاّ شيئاً عاديا . فقال هادئاً : إنما أكرمت العلم يا أمير المؤمنين واستمر في غسله .
لقد كان هارون عابداً، كان يصلي في اليوم مائة ركعة نافلة إلى أن مات. وكان يبغض أهل البدع ويبغض الجدال .. دخل رجل إلى هارون الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق، قد قطعت رأسه والسياف يمسح السيف من أثر الدم .. فقال الرشيد: إنه يقول بخلق القرآن.
لاحظوا أيها الإخوة: أن الخليفة ذكر سبب قتل ذلك الرجل قبل أن يسأل .. ولاحظوا كيف أنه قتل الرجل لبدعته المكفرة، لأن كلام الله صفة من صفاته ليس بمخلوق فكم تحتاج الأمة لهذا السيف حتى يتخلصوا من أهل الأهواء والبدع الذين ينشرون البدع والمحدثات، وينشرون الإلحاد والشرك، متسترين بحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم كما يزعمون، وهم أبعد الناس عنه، ومتخذين من الفن والمسرح أو الأحداث السياسية واجهة لنشر كفرهم وردتهم. ولا نسمع من يقيم عليهم حد الردة.
أيها الإخوة: وكان هـارون الرشيــد رحمه الله يتقبل الموعظة والنصيحة من أي شخص كان، ويبكي عند سماعه لها، ومن هؤلاء رجل اسمه عبد الله بن عبد العزيز العمري حيث وعظ الرشيد يوماً فأطنب.
قال له وهو واقف على الصفا بمكة: انظر كم حولها من الناس؟ مشيراً للكعبة فقال: كثير، فقال: كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تسأل عنهم كلِّهم، فبكى الرشيد بكاءً كثيراً، وجعلوا يأتونه بالمناديل ينشف بها دموعه، ثم قال له: يا هارون إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم؟ ثم تركه وانصرف والرشيد يبكي.
إذاً كان ينكر عليه التوسع في بيت مال المسلمين، وهو يتقبل هذا الإنكار علناً أمام الناس ويشعر في نفسه بالذنب، فيبكي على خطيئته غفر الله له.
لقد قال له شخص يدعى ابن السماك: يا أمير المؤمنين إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله والوقوف بين الجنة والنار، حين تزل القدم، ويقع الندم. فجعل الرشيد يبكي بكاءً شديداً.
لقد شيد الرشيد قصراً فخماً وزخرفه وأكثر فيه الطعام والشراب واللذات .. ثم استدعى أحد الشعراء فقال صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم فقال الشاعر وهو أبو العتاهية :
عش ما بـدا لك سالماً في ظـل شاهقة القصــور
تسعى إليك بما اشتهيت لدى الـرواح إلى البكــور
فـإذا النفـوس تحشرجت بزفير حشرجة الصـدور
فهناك تعلـــم موقناً ما كنت إلا في غــــرور
فبكى الرشيد بكاءً كثيراً .. فقيل للشاعر: دعاك أمير المؤمنين تسره فأحزنته فقال الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى.

أيها الإخوة: لقد طلب الخليفة هارون الرشيد يوماً من الطباخ أن يحضر له لحم جزور، فلم يحضر له، لأنه لم يذبح في هذا اليوم جزوراً أي جملاً – وبعد مدة من الزمن، طلب الخليفة لحم جزور، فأحضر له لحم جزور، فقيل له: أتدري كم كلفت هذه اللقمة من لحم الجزور؟ قال: أربعة دراهم، قيل بل أربعمائة ألف درهم. قال كيف ذلك؟ فقيل له: إنك طلبت قبل مدة لحم جزور، فلم نحضر لك طلبك، ومن يومها نحن نذبح كل يوم جزوراً، ولكنك ما طلبت اللحم إلا اليوم.
لذلك فقد صرف منذ ذلك اليوم إلى هذا اليوم أربعمائة ألف درهم، فقام هارون الرشيد من فوق الطعام ولم يأكل منه وأخذ في البكاء وأخذ يتصدق على الفقراء وهو يبكي يومه ذلك كله، فدخل عليه أبو يوسف القاضي فقال: ما شأنك يا أمير المؤمنين باكياً في هذا اليوم؟ فذكر أمره وما صرف من المال الجزيل لأجل شهوته وإنما ناله منها لقمة، فقال أبو يوسف: هل كان ما تذبحونه يفسد أم يأكله الناس؟ قيل: بل كان يأكله الناس، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الصدقة، وبما أنفقته من أموال في سبيل الله، وبما رزقك الله في هذا اليوم من الخشية والخوف، وقد قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ عندها هدأ الخليفة وطلب الطعام، فكان غداؤه في هذا اليوم عشاء.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.








الثانية

أيها الإخوة:
لقد قلت في بداية الخطبة أن الرشيد كان يحج عاماً ويجاهد عاماً وأنه قاد الجيش وهو شاب صغير في عهد والده لقتال الروم ووقع معهم هدنة وأخذ عليهم الجزية. ولكن بعد أن تولى الخلافة تولى حكم بلاد الروم نقفور .. فنقض العهد ورفض أن يرسل الجزية لخزينة الدولة الإسلامية. وأرسل رسالة إلى أمير المؤمنين قال فيها:
من نقفور ملك الروم إلى هارون الرشيد ملك العرب، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها، وذلك من ضعف النساء وحماقتهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملتْه إليك من الأموال وافتد نفسك به، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فغضب الرشيد غضباً شديداً وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والله لأبعثن إليك جيشاً أوله عندك وآخره عندي والسلام.
فغزاهم واستولى على هرقله وسبى ابنة الملك، وغنم الأموال ..
فما أتم ظلام الليل دورته حتى تحرك منه السهل والجبل
وما تنفس صبح في مرابعهم إلا وجيشك بالتحرير يحتفل
فطلب نقفور الموادعة ورضي بدفع الجزية .. فأجابه هارون إلى ذلك .. ووقع معه الاتفاقية بالهدنة ودفع الجزية تدفع كل عام إلى خزينة الدولة الإسلامية.
وجاء في كتاب البداية والنهاية لأبن كثير هذه القصة عن أحد أبناء هارون الرشيد رحمه الله أذكرها باختصار.
إنه أحمد بن هارون الرشيد الذي كان يعارض والده في التوسع في الدنيا والأخذ من مال المسلمين، لقد كان رحمه الله
زاهداً عابداً ورعاً لا يأكل إلا من عمل يده. كان يعمل في الطين في البصرة لدى أحد أصحاب المزارع كان يعمل يوماً واحداً في الأسبوع بدرهم ودانق.. فيقسم هذا الأجر على بقية أيام الأسبوع يتقوت به ويتفرغ للعبادة .. هذا الشاب هو ابن أمير المؤمنين هارون الرشيد الذي كان يحكم من الهند إلى بلاد المغرب، أي يحكم ما يقارب من عشرين دولة من الدول الموجودة الآن أو أكثر، يأتيه خراجها ومواردها، ولديه من القوة الاقتصادية والعسكرية ما قد سمعتم. هذا ابن أمير المؤمنين لم يتخذ من موقع والده مركز نفوذ له بل قد اختفى عن سمع وبصر والده حتى ظن أنه توفى وأنه ليس على قيد الحياة، ولم يكن يعرفه أحد بأنه ابن أمير المؤمنين.
هذا الشاب مرض وكان لديه خاتم لوالدته يعرفه أبوه هارون الرشيد، فحينما أحس الابن بدنوا الأجل قال للشخص الذي كان يعمل عنده: خذ هذا الخاتم وأعطه لأمير المؤمنين أثناء مروره للحج وقل له: إن صاحب هذا الخاتم يقول لك: إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم حيث لا ينفع نادماً ندمه. فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك وسيصير إلى غيرك، وقد بلغك أخبار من مضى.
فلما مات أحمد بن هارون الرشيد تعرض الرجل لموكب الخليفة وأعطاه الخاتم وأخبره بقول ابنه وهو لا يعلم، فلما نظر الخليفة إلى الخاتم .. صرخ وقال: ويحك أين صاحب الخاتم فقال الرجل مات يا أمير المؤمنين ... وذكر له قصته وعمله في الأسبوع يوماً واحداً ثم يتفرغ بقية الأسبوع للعبادة فلما فرغ الرجل قام الخليفة وألقى بنفسه على الأرض وجعل يتمرغ ويقول وهو يبكي: والله لقد نصحتني يا بني .. ثم سأل عن قبره وذهب إليه ليلاً وبكى عنده حتى الصبح.
إن في هذه عظة وعبرة لهذه الأمة. لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وكان الرشيد قد حفر قبره في حياته، فنظر إليه وهو يقول: إلى هنا تصير يا ابن آدم ويبكي، ثم يقول: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ. ويبكي ويقول: اللهم انفعنا بالإحسان واغفر لنا الإساءة، يا من لا يموت ارحم من يموت.
أما زوجته زبيدة فمازال الناس يشربون من العين التي ساقتها إلى مكة والمعروفة باسمها [عين زبيدة].
ولما أقترب أجل هارون الرشيد قال : خذوا بولي هذا وأعرضه على طبيب ؛ ولا تخبروه أنه لي : فلما تأمله الطبيب قال : أخبروا صاحب هذا البول أنه ميت عما قريب .. ثما ما لبث الطبيب نفسه أن مات قبل هارون الرشيد ؛ فابتسم هارون وقال :
إن الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفاع نحب قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان أبرأ مثله فيما مضى
مات المداوي والمداوى والذي جلب الدواء وباعه ومن اشترى
ثم .. مكث أياماً وانتقل إلى ربه عز وجل .. رحم الله هارون الرشيد ؛ ورحم الله بغداد .
هذه نبذة عن هذا الخليفة الذي شوهت صورته عن طريق بعض الكتب والوسائل الإعلامية المغرضة، وهناك من الخلفاء والملوك من كانوا على دين وتقوى وتحمل للمسؤولية ورفع لراية الجهاد في عصور مختلفة، كانوا يسيرون على نهج السلف الصالح الخلفاء الراشدين، مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم مستمسكين بالوحي، خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً.
اللهم إنا نسألك رحمةً تهدي بها قلوبنا وتلم بها شعثنا وتذهب بها الفتن عنا .
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ونعوذُ بعظمتك أن نغتالَ من تحتنا .
اللهم احفظنا بالإيمان والهدى قائمين و قاعدين وراقدين ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين يارحمن يارحيم .
اللهم ولي علينا خيارنا وأكفنا شر شرارنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين . آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .