صقر الجنوب
27/10/2010, 03:01 PM
حكايتي مع جميلات الباحة
http://www.arabianbusiness.com/images/magazines/arabianbusiness.com/web/JamalBanoon3039_thumb.jpg
بقلم جمال بنون في يوم الخميس, 27 أغسطس 2009
لم أكن اعلم أن الباحة التي سمعت عنها فقط وأعرف زملاء وأصدقاء كثراً فيها من خلال تعاملي الصحافي معها، أو حتى المسؤولين سواء رجال أعمال أو حكوميين، أنها ستكون محطة مهمة في حياتي الصحافية، وسأظل اذكر هذه المنطقة طالما حييت رغماً عني، سواء شئت أم أبيت.
حرصت منذ بدايات حياتي الصحافية اهتماماتي السياحية من ناحية منتجات اقتصادية ومجموعة خدمات مشتملة متى ما توفرت، نجحت صناعة السياحة، وكونت علاقات جيدة مع مجموعة كبيرة من المستثمرين في مجال السياحة وملاك المشاريع.
في عام 1995 نظمت الغرفة التجارية في الباحة مؤتمراً وندوة عن المقومات السياحية، دعت إليه نخبة من رجال الأعمال العاملين في هذا المجال، وجميع الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، وتم ترشيحي آنذاك من صحيفة "الاقتصادية"، كنت متحمساً جداً لزيارة الباحة، خصوصاً أنني كنت سمعت عنها الشيء الكثير، واتجاه رجال الأعمال لإقامة مشروعات سياحية، وما جعلني متحمساً أكثر حينما وجدت على الرحلة نفسها المتوجهة إلى الباحة مجموعة من رجال الأعمال، فبقيت في داخل دائرة الاهتمام السياحي، وصلت إلى الباحة الثانية ظهراً، ومن المطار استغرق الوقت ما يقارب ساعة حتى وصلنا إلى الفندق، وهو الفندق الوحيد الذي كان موجوداً حينذاك وهو فندق الباحة، كل المؤشرات تقول أن إمارة الباحة أخذت كل الاستعدادات من اجل إنجاح المؤتمر، وأعدت الغرفة التجارية في الباحة أوراق عمل ومحاضرات وندوات كلها تصب في مصلحة التسويق لمشروعات سياحية في الباحة، عشت الجو كاملاً، فالتجمع الموجود هنا هو من أجل تسويق مشروعات سياحية في الباحة، ولم يترك رجال الأعمال وأصحاب المال مكاتبهم الفارهة وقطعوا هذه المسافات لتذهب سدى دون فائدة، وفي المساء حينما افتتح أمير منطقة الباحة الأمير محمد بن سعود المؤتمر كانت كلماته واضحة أنه يريد من رجال الأعمال أن يضخوا أموالهم في هذه المنطقة الخصبة، وينعشوا السياحة.
بعد انتهاء مراسم الافتتاح الرسمي للمؤتمر، كان عليّ أن أرسل مادة صحافية إلى جدة لكي تنشر في اليوم الثاني، مر أمامي شريط الأحداث منذ وصلت الباحة وفي الطريق من المطار إلى الفندق، وكل من قابلتهم من رجال أعمال وأجواء المؤتمر، وتصريحات المسؤولين، فأخبرت الصحيفة أنني سأرسل له قصة صحافية في حدود 550 كلمة للصفحة الأولى.
المكان الذي يقع فيه فندق الباحة كان موحشاً ومظلماً، ومن الصعب أن تستلهم من الطبيعة بعد الثامنة مساء، إذ يبدو المكان مظلماً ولا تسمع سوى أصوات من بعيد للكلاب، بحثت عن سيارة ليموزين أو استأجر سيارة من الفندق، لم افلح، فالفندق لا يوجد لديه سوى مكتب صغير لتأجير السيارات، وهذا المكتب لديه سيارة واحدة فقط، وإذا رغبت في استئجار سيارة عليك أن تستعيذ من الشيطان الرجيم وان تجد من يرافقك.
على العموم استعنت بالله واستحضرت الأفكار، فكتبت قصة صحافية هذه بدايتها: "منذ سنوات طويلة تنام في منطقة الباحة جنوب غربي السعودية، جميلات فاتنات بملابسهن الزاهية وحليهن الجذابة وزينتهن الكاملة، ورغم ذلك لم يستطعن كسب ود الخطاب، بمثل هذه القصص والحكايات يتناول الأهالي قصة منطقة الباحة التي تنعم بجمال الطبيعة الخلابة وفرص السياحة والاستثمار، ولعل هذا هو السبب الذي دفع المسؤولين في الغرفة التجارية الصناعية في الباحة، إلى عقد العزم لإنهاء هذه القطيعة بين المستثمرين السعوديين وجمال طبيعة الباحة من خلال ندوة الاستثمار السياحي"... طبعاً القصة الصحافية طويلة كانت هذه هي المقدمة، ونشرت في الصفحة الأولى من الصحيفة في اليوم التالي وتحت عنوان "جميلات الباحة ينتظرن المستثمرين والسياح".
تلك الليلة بعد أن أرسلت مادتي الصحافية خرجت مع مجموعة زملاء، إلى أحد المقاهي وهي بعيدة، وليست كما هي موجودة في جدة، إذ تبدو المقاهي وكأنها موقع مهرجانات، واحتفالات ولها نكهة خاصة، المهم وجدنا مقهى مظلماً ونوراً خافتاً، يقدم الشيشة، جلسنا قليلاً، حتى طلبنا المغادرة فالجو كان بارداً مع أننا في منتصف الصيف.
في اليوم التالي كان من ضمن جدول المؤتمر، زيارة الوفود إلى مواقع سياحية، خصوصاً غابة رغدان ومناطق وغابات أخرى تشتهر بها الباحة، تناولنا الفطور في احد المرتفعات، وكان عبارة عن لحم وسمن وبيض وأكلات مما تشتهر بها المنطقة مثل عصيدة المرق و"الدغابيس" و"خبز التنور".
كان يرافقنا في تلك الرحلة رئيس مجموعة الحكير عبدالمحسن الحكير، والمدير العام لشركة الشيكات السياحية عبدالعزيز العجروش وعدد كبير من رجال الأعمال لا تحضرني الآن أسماؤهم.
بعد نهاية الغداء، قال لي عبدالمحسن الحكير أن القصة الصحافية التي نشرتها اليوم كانت جميلة، وقد أعجب بها، فشكرته، وأشاد بها أكثر من مسؤول، فكنت انتشي كلما سمعت كلمات إعجاب، والصحافي لا يهمه المال بقدر ما يهمه إعجاب الناس بما يقدمه من أخبار تنال رضاهم، وقبل أن أصعد إلى الحافلة التي كانت تطوف بنا في معظم غابات الباحة، أخذني عبدالمحسن الحكير جانباً، وقال لي: لماذا وضعت صورة فتاة على القصة الصحافية التي نشرتها اليوم، قلت له أنا لم أضع صورة، وليس مع المادة صورة، حيث كان من الصعب إرسال صورة لعدم وجود إمكانات متوافرة لنشر الصورة، وقال لي الحكير أن العنوان الذي وضعته مرافقاً للصورة أعطى انطباعاً غير جيد للمعنى، وهذا قد يغضب الأهالي هنا منك ومن الصحيفة أيضاً.
كنت وقتها لم أقرأ الصحيفة بعد، أو أنني لم أشاهدها نتيجة تأخر وصولها إلى المنطقة... هذا الكلام جعل "الفأر" يلعب في عبي، ذهبت مسرعاً إلى إحدى المكتبات في بلجرشي، ورغم أن الصحف تصل متأخرة في المناطق البعيدة من المدن السعودية، "سبحان الله" وجدتها في ذلك اليوم تطل من بين جميع الصحف، وكأنها تنتظرني، قرأت العنوان، هو العنوان نفسه والقصة نفسها التي أرسلتها، إذا أين الخلل؟ المشكلة أن الزملاء في التحرير استهووا الموضوع، وانسجموا، فوضع أحد العاملين الفنيين صورة "موتيفة" لفتاة مبرقعة مع المادة، فجاءت الكارثة، أو الطامة التي لم أكن أتوقعها، فقد ظن الناس أنني اكتب عن فتيات شاهدتهن في الباحة، أو أنني أتغزل بفتيات الباحة، وهذا طبعاً في الأعراف القبلية والمدنية والحضرية وفي المجتمع السعودي ممنوع وغير مقبول، الناس فسروا هذا الموضوع، أن المشاريع السياحية يجب أن تتوفر فيها مثلما تعودنا أن نراه في الفنادق الأخرى، وظنوا أنني أدعو إلى مساواة فنادقنا بتلك الفنادق الموجودة في الخارج، مع أن القصة غير هذا تماماً ولا تمت للفتيات أو البنات بصلة إطلاقاً، الموضوع وما فيه أنني شبهت الغابات والمناطق السياحية بجميلات، وان المستثمرين ورجال الأعمال هم خطاب لهذه المناطق، وكسب ود هذه المناطق، وجذب المستثمرين يتطلب وضع مغريات وتسهيلات من اجل إقامة هذه المشروعات.
تنامى إلى مسامعي أن أهالي الباحة، خصوصاً المتشددين، أو الذين أساءوا الفهم، قرروا محاكمتي ورفع شكوى ضدي، وطالبوا بإنزال اشد العقوبة ضدي ومنها إهدار دمي بالقتل، لأن الموضوع من وجهة نظرهم يتعلق "بالعار".
بهدوء شديد، جمعت أغراضي وأخذت سيارة إلى المطار ولم أكمل بقية أيام المؤتمر الذي يفترض أن أبقى معهم ثلاثة أيام، اتصلت برئيس التحرير محمد التونسي، الذي كان منزعجاً من الموضوع، وان اتصالات عدة جاءته من قبائل وأهالي الباحة، وأيضاً من مسؤولين كبار في الدولة.
قلت له أن هذا ليس خطأي بل خطأ فني من عامل تقني، أخبرني "لا تشيل هم بس ارجع بسرعة"، عدت مساء إلى جدة، لم أذهب إلى الصحيفة، في اليوم التالي كانت الصحيفة قد نشرت في صفحتها الأولى تصحيحاً بعنوان "الباحة واحة" وكلاما ًإنشائياً جميلاً، وحينما قابلت رئيس التحرير، أخذني إلى مكتبه وقال لي: "ماذا فعلت انهالت علي الاتصالات وقد قرروا مقاضاتك وطلبوا إنزال الحكم القضائي عليك"، قالها التونسي، وهو يطمئنني، وهذه كانت طريقته بالتعامل مع جميع الزملاء والصحافيين الذين يعملون معه، يساندهم ويقف إلى جانبهم.
لم تهدأ العاصفة، بالفعل تقدموا بشكوى إلى وزارة الداخلية والى وزارة الإعلام، واستدعيت للتحقيق، وذهبت في جلسات عدة، وشرحت لهم موقفي ومقصدي وما أرمي إليه من العنوان.
أحدهم سألني سؤالاً: "كيف استطعت أن ترى فتيات الباحة ونحن هنا منذ سنوات لم نستطع رؤية أظافرهن"؟ حاولت أن أقنعه أنني لم أشاهد أياً منهن، فأنا ابن البلد واعرف عادات وتقاليد المجتمع، خصوصاً القبلية، وان ما صورته كان وصفاً تعبيرياً وصورة صحافية، وان الصورة التي نشرت لست مسؤولاً عنها ويسأل عنها جهاز التحرير، خلال فترة التحقيق، وحينما اخرج من الإدارة الحكومية وحتى من مكتب الصحيفة، كنت التفت يميناً وشمالاً وأتأكد أنه لا يوجد أحد يراقبني أو يسير خلفي أو يتبع سيارتي، خشية أن يتهجم علي أحد، أو أتعرض للضرب، أو يلحق بي أذى، لهذا ما كنت أغادر المكتب إلا بعد أن أراقب المكان وأتأكد أنني في أمان، إلا أنني عشت أيام رعب وقلق وخوف، بعد أسابيع عدة من مراجعتي للجهات المعنية، أبلغت وزارة الإعلام بخطاب رسمي إلى جميع الصحف ووسائل الإعلام بوقفي عن الكتابة، قضيت عقوبة ثلاثة أشهر متوقفاً عن الكتابة. بالتأكيد أوقفت عن الكتابة... وتعرضت لتهديد شديد... ولكن خرجت بدرس لا زلت أتألم منه، وهو أننا لا نزال لدينا حساسية مفرطة في التعامل مع الموضوعات الصحافية والأخبار التي تنشر، ومعظم الناس لا يقرؤون الصحف، بل يحكمون عليها من خلال العناوين فقط.
جمال بنون - إعلامي وكاتب اقتصادي
عن صحيفة الحياة
http://www.arabianbusiness.com/images/magazines/arabianbusiness.com/web/JamalBanoon3039_thumb.jpg
بقلم جمال بنون في يوم الخميس, 27 أغسطس 2009
لم أكن اعلم أن الباحة التي سمعت عنها فقط وأعرف زملاء وأصدقاء كثراً فيها من خلال تعاملي الصحافي معها، أو حتى المسؤولين سواء رجال أعمال أو حكوميين، أنها ستكون محطة مهمة في حياتي الصحافية، وسأظل اذكر هذه المنطقة طالما حييت رغماً عني، سواء شئت أم أبيت.
حرصت منذ بدايات حياتي الصحافية اهتماماتي السياحية من ناحية منتجات اقتصادية ومجموعة خدمات مشتملة متى ما توفرت، نجحت صناعة السياحة، وكونت علاقات جيدة مع مجموعة كبيرة من المستثمرين في مجال السياحة وملاك المشاريع.
في عام 1995 نظمت الغرفة التجارية في الباحة مؤتمراً وندوة عن المقومات السياحية، دعت إليه نخبة من رجال الأعمال العاملين في هذا المجال، وجميع الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، وتم ترشيحي آنذاك من صحيفة "الاقتصادية"، كنت متحمساً جداً لزيارة الباحة، خصوصاً أنني كنت سمعت عنها الشيء الكثير، واتجاه رجال الأعمال لإقامة مشروعات سياحية، وما جعلني متحمساً أكثر حينما وجدت على الرحلة نفسها المتوجهة إلى الباحة مجموعة من رجال الأعمال، فبقيت في داخل دائرة الاهتمام السياحي، وصلت إلى الباحة الثانية ظهراً، ومن المطار استغرق الوقت ما يقارب ساعة حتى وصلنا إلى الفندق، وهو الفندق الوحيد الذي كان موجوداً حينذاك وهو فندق الباحة، كل المؤشرات تقول أن إمارة الباحة أخذت كل الاستعدادات من اجل إنجاح المؤتمر، وأعدت الغرفة التجارية في الباحة أوراق عمل ومحاضرات وندوات كلها تصب في مصلحة التسويق لمشروعات سياحية في الباحة، عشت الجو كاملاً، فالتجمع الموجود هنا هو من أجل تسويق مشروعات سياحية في الباحة، ولم يترك رجال الأعمال وأصحاب المال مكاتبهم الفارهة وقطعوا هذه المسافات لتذهب سدى دون فائدة، وفي المساء حينما افتتح أمير منطقة الباحة الأمير محمد بن سعود المؤتمر كانت كلماته واضحة أنه يريد من رجال الأعمال أن يضخوا أموالهم في هذه المنطقة الخصبة، وينعشوا السياحة.
بعد انتهاء مراسم الافتتاح الرسمي للمؤتمر، كان عليّ أن أرسل مادة صحافية إلى جدة لكي تنشر في اليوم الثاني، مر أمامي شريط الأحداث منذ وصلت الباحة وفي الطريق من المطار إلى الفندق، وكل من قابلتهم من رجال أعمال وأجواء المؤتمر، وتصريحات المسؤولين، فأخبرت الصحيفة أنني سأرسل له قصة صحافية في حدود 550 كلمة للصفحة الأولى.
المكان الذي يقع فيه فندق الباحة كان موحشاً ومظلماً، ومن الصعب أن تستلهم من الطبيعة بعد الثامنة مساء، إذ يبدو المكان مظلماً ولا تسمع سوى أصوات من بعيد للكلاب، بحثت عن سيارة ليموزين أو استأجر سيارة من الفندق، لم افلح، فالفندق لا يوجد لديه سوى مكتب صغير لتأجير السيارات، وهذا المكتب لديه سيارة واحدة فقط، وإذا رغبت في استئجار سيارة عليك أن تستعيذ من الشيطان الرجيم وان تجد من يرافقك.
على العموم استعنت بالله واستحضرت الأفكار، فكتبت قصة صحافية هذه بدايتها: "منذ سنوات طويلة تنام في منطقة الباحة جنوب غربي السعودية، جميلات فاتنات بملابسهن الزاهية وحليهن الجذابة وزينتهن الكاملة، ورغم ذلك لم يستطعن كسب ود الخطاب، بمثل هذه القصص والحكايات يتناول الأهالي قصة منطقة الباحة التي تنعم بجمال الطبيعة الخلابة وفرص السياحة والاستثمار، ولعل هذا هو السبب الذي دفع المسؤولين في الغرفة التجارية الصناعية في الباحة، إلى عقد العزم لإنهاء هذه القطيعة بين المستثمرين السعوديين وجمال طبيعة الباحة من خلال ندوة الاستثمار السياحي"... طبعاً القصة الصحافية طويلة كانت هذه هي المقدمة، ونشرت في الصفحة الأولى من الصحيفة في اليوم التالي وتحت عنوان "جميلات الباحة ينتظرن المستثمرين والسياح".
تلك الليلة بعد أن أرسلت مادتي الصحافية خرجت مع مجموعة زملاء، إلى أحد المقاهي وهي بعيدة، وليست كما هي موجودة في جدة، إذ تبدو المقاهي وكأنها موقع مهرجانات، واحتفالات ولها نكهة خاصة، المهم وجدنا مقهى مظلماً ونوراً خافتاً، يقدم الشيشة، جلسنا قليلاً، حتى طلبنا المغادرة فالجو كان بارداً مع أننا في منتصف الصيف.
في اليوم التالي كان من ضمن جدول المؤتمر، زيارة الوفود إلى مواقع سياحية، خصوصاً غابة رغدان ومناطق وغابات أخرى تشتهر بها الباحة، تناولنا الفطور في احد المرتفعات، وكان عبارة عن لحم وسمن وبيض وأكلات مما تشتهر بها المنطقة مثل عصيدة المرق و"الدغابيس" و"خبز التنور".
كان يرافقنا في تلك الرحلة رئيس مجموعة الحكير عبدالمحسن الحكير، والمدير العام لشركة الشيكات السياحية عبدالعزيز العجروش وعدد كبير من رجال الأعمال لا تحضرني الآن أسماؤهم.
بعد نهاية الغداء، قال لي عبدالمحسن الحكير أن القصة الصحافية التي نشرتها اليوم كانت جميلة، وقد أعجب بها، فشكرته، وأشاد بها أكثر من مسؤول، فكنت انتشي كلما سمعت كلمات إعجاب، والصحافي لا يهمه المال بقدر ما يهمه إعجاب الناس بما يقدمه من أخبار تنال رضاهم، وقبل أن أصعد إلى الحافلة التي كانت تطوف بنا في معظم غابات الباحة، أخذني عبدالمحسن الحكير جانباً، وقال لي: لماذا وضعت صورة فتاة على القصة الصحافية التي نشرتها اليوم، قلت له أنا لم أضع صورة، وليس مع المادة صورة، حيث كان من الصعب إرسال صورة لعدم وجود إمكانات متوافرة لنشر الصورة، وقال لي الحكير أن العنوان الذي وضعته مرافقاً للصورة أعطى انطباعاً غير جيد للمعنى، وهذا قد يغضب الأهالي هنا منك ومن الصحيفة أيضاً.
كنت وقتها لم أقرأ الصحيفة بعد، أو أنني لم أشاهدها نتيجة تأخر وصولها إلى المنطقة... هذا الكلام جعل "الفأر" يلعب في عبي، ذهبت مسرعاً إلى إحدى المكتبات في بلجرشي، ورغم أن الصحف تصل متأخرة في المناطق البعيدة من المدن السعودية، "سبحان الله" وجدتها في ذلك اليوم تطل من بين جميع الصحف، وكأنها تنتظرني، قرأت العنوان، هو العنوان نفسه والقصة نفسها التي أرسلتها، إذا أين الخلل؟ المشكلة أن الزملاء في التحرير استهووا الموضوع، وانسجموا، فوضع أحد العاملين الفنيين صورة "موتيفة" لفتاة مبرقعة مع المادة، فجاءت الكارثة، أو الطامة التي لم أكن أتوقعها، فقد ظن الناس أنني اكتب عن فتيات شاهدتهن في الباحة، أو أنني أتغزل بفتيات الباحة، وهذا طبعاً في الأعراف القبلية والمدنية والحضرية وفي المجتمع السعودي ممنوع وغير مقبول، الناس فسروا هذا الموضوع، أن المشاريع السياحية يجب أن تتوفر فيها مثلما تعودنا أن نراه في الفنادق الأخرى، وظنوا أنني أدعو إلى مساواة فنادقنا بتلك الفنادق الموجودة في الخارج، مع أن القصة غير هذا تماماً ولا تمت للفتيات أو البنات بصلة إطلاقاً، الموضوع وما فيه أنني شبهت الغابات والمناطق السياحية بجميلات، وان المستثمرين ورجال الأعمال هم خطاب لهذه المناطق، وكسب ود هذه المناطق، وجذب المستثمرين يتطلب وضع مغريات وتسهيلات من اجل إقامة هذه المشروعات.
تنامى إلى مسامعي أن أهالي الباحة، خصوصاً المتشددين، أو الذين أساءوا الفهم، قرروا محاكمتي ورفع شكوى ضدي، وطالبوا بإنزال اشد العقوبة ضدي ومنها إهدار دمي بالقتل، لأن الموضوع من وجهة نظرهم يتعلق "بالعار".
بهدوء شديد، جمعت أغراضي وأخذت سيارة إلى المطار ولم أكمل بقية أيام المؤتمر الذي يفترض أن أبقى معهم ثلاثة أيام، اتصلت برئيس التحرير محمد التونسي، الذي كان منزعجاً من الموضوع، وان اتصالات عدة جاءته من قبائل وأهالي الباحة، وأيضاً من مسؤولين كبار في الدولة.
قلت له أن هذا ليس خطأي بل خطأ فني من عامل تقني، أخبرني "لا تشيل هم بس ارجع بسرعة"، عدت مساء إلى جدة، لم أذهب إلى الصحيفة، في اليوم التالي كانت الصحيفة قد نشرت في صفحتها الأولى تصحيحاً بعنوان "الباحة واحة" وكلاما ًإنشائياً جميلاً، وحينما قابلت رئيس التحرير، أخذني إلى مكتبه وقال لي: "ماذا فعلت انهالت علي الاتصالات وقد قرروا مقاضاتك وطلبوا إنزال الحكم القضائي عليك"، قالها التونسي، وهو يطمئنني، وهذه كانت طريقته بالتعامل مع جميع الزملاء والصحافيين الذين يعملون معه، يساندهم ويقف إلى جانبهم.
لم تهدأ العاصفة، بالفعل تقدموا بشكوى إلى وزارة الداخلية والى وزارة الإعلام، واستدعيت للتحقيق، وذهبت في جلسات عدة، وشرحت لهم موقفي ومقصدي وما أرمي إليه من العنوان.
أحدهم سألني سؤالاً: "كيف استطعت أن ترى فتيات الباحة ونحن هنا منذ سنوات لم نستطع رؤية أظافرهن"؟ حاولت أن أقنعه أنني لم أشاهد أياً منهن، فأنا ابن البلد واعرف عادات وتقاليد المجتمع، خصوصاً القبلية، وان ما صورته كان وصفاً تعبيرياً وصورة صحافية، وان الصورة التي نشرت لست مسؤولاً عنها ويسأل عنها جهاز التحرير، خلال فترة التحقيق، وحينما اخرج من الإدارة الحكومية وحتى من مكتب الصحيفة، كنت التفت يميناً وشمالاً وأتأكد أنه لا يوجد أحد يراقبني أو يسير خلفي أو يتبع سيارتي، خشية أن يتهجم علي أحد، أو أتعرض للضرب، أو يلحق بي أذى، لهذا ما كنت أغادر المكتب إلا بعد أن أراقب المكان وأتأكد أنني في أمان، إلا أنني عشت أيام رعب وقلق وخوف، بعد أسابيع عدة من مراجعتي للجهات المعنية، أبلغت وزارة الإعلام بخطاب رسمي إلى جميع الصحف ووسائل الإعلام بوقفي عن الكتابة، قضيت عقوبة ثلاثة أشهر متوقفاً عن الكتابة. بالتأكيد أوقفت عن الكتابة... وتعرضت لتهديد شديد... ولكن خرجت بدرس لا زلت أتألم منه، وهو أننا لا نزال لدينا حساسية مفرطة في التعامل مع الموضوعات الصحافية والأخبار التي تنشر، ومعظم الناس لا يقرؤون الصحف، بل يحكمون عليها من خلال العناوين فقط.
جمال بنون - إعلامي وكاتب اقتصادي
عن صحيفة الحياة