المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العمل القضائي المتميز يصنعه قاض ويهندسه محام


رحال العمر
16/12/2010, 04:42 PM
العمل القضائي المتميز يصنعه قاض ويهندسه محامٍٍ



الأمر بالعدل أمر إلهي، وقد حرم الله الظلم على نفسه، وجعله محرما، وجاءت قواعد الشريعة الإسلامية الغراء مثبتة أنه أينما وجد العدل فثم شرع الله.
ومرفق العدالة ـ وهو وليد المجتمعات المنظمة ـ ملجأ الناس لحمايتهم، والساهر على إقرار السلام بين أفراده، ولا يمكن بناء دولة النظام المطمئنة، ولا الازدهار المستدام لأي مجتمع، بدون القضاء.
إن حق الدفاع المقدس من الحقوق الأساسية للإنسان، يقاس به المستوى الحضاري للمجتمع، ومن هذا المنطلق كانت مهنة المحاماة رسالة إنسانية سامية. ومن ثمة، فنشأة المحاماة، كانت مع صنوها: القضاء، بحسبانهما وجهان لإرساء العدالة، من خلال علاقة تشاركية إيجابية فاعلة. لذلك، فتطوير القضاء، يعود حتما بالأثر على أصحاب الحقوق والمحامين، وتطوير المحاماة يسهم في خدمة القضاء، في دورة واضحة تظهر أهمية العلاقة بينهما.
إن دور المحامي يتجاوز مجرد تولي المرافعة عن موكله، أو تقديم المشورة إليه، إذ تمتد مهماته إلى المجتمع كاملا، لدفع عجلة التنمية فيه. وإنه لمن الخطأ الظن أن المحامي لسان موكله الناطق باسمه. فمهنة المحاماة، بعراقتها، ليس مصدرها العقد فحسب، بل وتتعلق برعاية حسن سير المنظومة العدلية بأسرها، وحفظ الحقوق والحريات.
وبالنظر في السياق التاريخي للعلاقة بين القاضي وبين المحامي، يستبين أنهما كانا بكفتي ميزان، يحلف كلاهما عند نظر كل قضية، ألا يحيد عن الحق.
وقد وضعت قديما قواعد للمحامين، منها:
1- أداء اليمين بأداء رسالته بإخلاص وذمة.
2- عدم قبول قضية يعرف بطلانها.
3- تجنب الإدلاء ببيانات كاذبة.
4- عدم الحصول على أموال من موكليه بأسباب مصطنعة.
إن شأن المحامي في جميع أنواع الأقضية، ومنها: القضاء الإداري، شأن واحد تقريبا. ولا يختلف إلا بالقدر الذي يمتاز به القضاء الإداري عن القضاء العام. ولاريب أنهما يتشاطران السمات الإجمالية، بيد أن القضاء الإداري يستقل عنه بخصائص متفردة، تنبثق من ارتباطه الوثيق بمبدأ المشروعية، المتصل بأعمال الإدارة، فدولة الحق والنظام ـ كبلادنا ـ تتصف بخضوعها للشرعية في مناشطها كافة، باستهدافها تحقيق المصلحة العامة، والغاية التي رسمها المنظم، نصا وروحا.
وغني عن البيان أن ثمة عناصر عديدة يجب توافرها في أية دولة، لكيما توصف بدولة النظام، وهي:
1- وجود نظام أساسي للحكم، يبين قواعد ممارسة السلطة فيها، وحقوق الأفراد وحرياتهم.
2- قيام الفصل بين السلطات، لتكون كل منها رقيبة على الأخرى، ومكملة لها، للتأكد من مدى التزام كل بالقواعد النظامية السارية.
3- تدرج القواعد النظامية، بحيث تلتزم القاعدة الأدنى إطار القاعدة الأعلى.
4- قيام رقابة قضائية.
ذلك بأن توالي نشاط الإدارة، يلجئها ـ بلا شك ـ لاستخدام وسائل السلطة العامة في تصرفاتها النظامية والمادية، الأمر الذي تتعرض معه، قطعا، لحريات الأفراد، وتمس مراكزهم النظامية، وقد تلحق بهم وبممتلكاتهم الضرر، ما يتطلب وجود ضمانات للأفراد، قبل الحكومة، بما يحقق التوازن بينهما، لهذا، فقد اتفقت معظم النظم الحديثة على إسناد هذه الرقابة، للقضاء الإداري.
ولا جرم أن أحد طرفي الدعوى الإدارية لابد أن يكون شخصا عاما، له سلطة الأمر والنهي. ومن ثم، فينبغي أن يعي المحامي أنه لا يتعامل مع خصم عادي، بل مع زميل له يمثل الحكومة. وعليه ـ مثلا ـ مراعاة المسائل الخلافية التي تمتلئ بها كتب فقه القضاء الإداري حيال أي من وسائل الإثبات معتبر في الدعوى الإدارية، وغيرها من الأحكام التي لا مثيل لها لدى القاضي العام الذي يحكم وفق أرجحية البينات المقدمة أمامه، تحقيقا لمبدأ المساواة. ولذلك، فإن القاضي الإداري طالما استقر في وجدانه أن رجل الإدارة هو وحده غالبا الذي يملك أدلة الإثبات ومستندات الدعوى، ما يتطلب من المحامي في الدعوى الإدارية جهدا مضاعفا. في حين يتمتع القاضي الإداري بدور أكثر إيجابية، يفتقده نظيره في الدعاوى المدنية، ومآل ذلك، طبيعة الدعاوى الإدارية، بما تتصف به من انعدام التوازن بين طرفيها، ما يستوجب تدخل القاضي لمساعدة المدعي للحصول على حقه، في ضوء ما تملكه الإدارة من دلائل قد يعيق الوصول إليها لو كان القاضي حياديا، إذ إن مبادرة القاضي الإداري تنبع في ميدان الإثبات، من الطابع التحقيقي الإجباري للإجراءات الإدارية، ما يتيح للمحامي الاستفادة من ذلك في إثبات حق موكله.
هذا، وللقاضي الإداري سلطات أوسع من القاضي العام. فله دور إيجابي في تسيير الدعوى أمامه، لأنها ليست محض حق للخصوم، وإنما هي ملك للقاضي، يسيرها، ويوجهها، ويكلف الخصوم فيها بما يراه لازما لتحضيرها، واستيفائها، وتهيئتها للفصل فيها، فلا يتقيد بما يبديه الخصم الذي يسعى دائما إلى تحقيق مصلحته الخاصة.
ولذا، يمكن القول بصفة عامة: إن الإجراءات أمام القاضي المدني ملك للخصوم، وهي حق لهم لمساواتهم أمام النظام، (والقاضي خفيرها). والإجراءات أمام القاضي الجزائي تتغيا تحقيق العدالة، وهي ضمانة لحرية الناس، وكرامتهم، (والقاضي أسيرها). والإجراءات أمام القاضي الإداري وسيلة لإعلان الحقيقة، وسيادة النظام، (والقاضي أميرها).
وبناء عليه، فلا بد أن يدرك المحامي أن للقاضي الإداري:
سلطة تقديرية واسعة: فهو الذي يقدر ما إذا كانت الدعوى بحاجة إلى إجراء تحقيق من عدمه، وقيمة الوثائق المقدمة من أي الخصمين، ويأمر بضرورة تقديم مستندات، أو مذكرات معينة بالرد على ما قدم، وبتعيين الخبراء، وبإدخال خصم في الدعوى، وتقدير متى تعد الدعوى صالحة للحكم فيها.
وله رفض كل طلب يتقدم به خصم يرى أن من شأنه تعطيل الفصل في الدعوى.
وينبغي ألا يعزب عن علم المحامي أن الإجراءات الإدارية ذات صبغة كتابية، إذ القضاء الإداري يقوم أساسا على المرافعات التحريرية، ما يجعل عنصر المفاجأة مستبعدا. وهذه مزية للمحامي أمام القضاء الإداري، تقتضي منه الاهتمام بالصياغة والتحضير المسبق للمرافعة، والقراءة النهمة.
ولئن كان على القاضي الإداري أن ينزل أحكام الشرع والنظام على الواقعات، وأن يتأكد باجتهاده من المشروعية، ابتغاء المصلحة العامة، فإن عليه أن يضع، بنفسه، في كثير من الأحيان، القاعدة النظامية واجبة التطبيق. مأرز ذلك، أن النظام الإداري يتسم بقلة نصوصه المكتوبة، ومن هنا، يبرز الدور الخلاق للقاضي الإداري الذي ينشئ القواعد ويطوعها للتطبيق، في مرونة تتناسب مع تنوع الواقعات التي تخلقها الحياة العملية. ولا إلزام عليه بتطبيق القواعد العامة، إلا بما يتناسب مع طبيعة الدعوى الإدارية، فله الحرية في ابتداع الحلول الملائمة للروابط النظامية التي تنشأ بين الحكومة وبين الأفراد. وهذا يتطلب من المحامي مساعدة القاضي الإداري في ابتكار أفضل الحلول، وصنع أعدل المبادئ القضائية. لذا، فإن العمل القضائي المتميز، صانعه القاضي، ومهندسه المحامي. كما أن الدعوى الإدارية دعوى مصلحة عامة، توجه للنشاط الإداري ذاته، وليس للقائمين على تلك الأنشطة بأشخاصهم.
ولن تؤتي رقابة المشروعية ثمارها إلا بتدخل القاضي الإداري بطلب من المحامي أو موكله في الوقت المناسب، كحماية للشرعية، للاحتياط، لدفع ضرر محدق، أو الاستيثاق لحق يخشى زوال دليله.
ومفاد ما تقدم، أن على المحامي في الدعوى الإدارية، مراعاة:
1- الإجراءات اللازمة قبل رفع الدعوى، من تظلمات وجوبية، أو جوازية، ونحوها، وأثرها، في انفتاح الميعاد، وسريانه، وانقطاعه.
2- والالتزام بالمواعيد النظامية لكل مرحلة.
3- والتأكد من شروط قبول الدعوى.
4- والتقدم للمحكمة المختصة، وعدم إضاعة وقت موكله.
5- والتقيد بالنظم واللوائح، ومتابعتها.
6- والاهتمام بالسوابق القضائية.
7- مع صحة تكييف طلبات موكله، وفقا للنظام.
8- والتحلي بما يجب على المحامي عموما الاتصاف به، من البعد عن اللدد في الخصومة، وعدم البيان.
وإذا كان التزام القاضي بعدم تأسيس حكمه إلا بناء على ما يظهر أمامه، من بينات ووقائع ومناقشات، والحكم في حدود طلبات الخصوم، وعدم الإفتاء لهم، والالتزام بتسبيب الأحكام. فإن مهمات المحامي تكون في تكريس هذه المبادئ والتمسك بها، إذ غالبا ما تلعب دور دليل للقاضي في تحقيقها، أو تذكره بها، إذا ما شده أمر ما عنها.
هذا من جهة، ومن جهة مدى ارتباط عمل المحامي بالقاضي، فلا شك أن المحامي مستقل في ممارسته لواجبات مهنته عن القضاء، ومقتضى الاستقلال: عدم خضوع المحامي لأي تدخل من جانب أي كان، بما في ذلك القضاء، ولا تتوقف مظاهر الاستقلالية عند هذا الحد، لأن الترابط القائم ما بين القضاء وما بين المحاماة من حيث وظيفتيهما في إقامة العدل، استوجب التزامات متبادلة بين الطرفين، فالمحامي في سعيه لحفظ استقلاليته، يتعين عليه: أن يسلك تجاه القضاة مسلكا محترما، بأن يرتقي بأدب المخاطبة والمرافعة أمام القاضي، وأن يتحاشى كل ما يخل بسير العدالة، كل ذلك دون انتقاص من دوره في الدفاع عن موكله، وحقه في الانتقاد والاعتراض الموضوعي المؤسس على النظام، ودونما خوف، أو اتخاذ أي اعتبارات شخصية قد تعيقه عن أداء مهماته، وأن يساند القضاة في مواجهة كل إساءة يتعرضون لها، وأن يقيم علاقته مع القضاة على أساس علاقات الزمالة، والتعامل الرسمي، فيتجنب التعامل الشخصي، والاتصال، أو المناقشة على انفراد، من غير داع، ويتجنب التناحر، والنزاع مع القاضي، ويسعى للحفاظ على العلاقة المهنية، كشريكين في إقامة العدل، وهو ما يستوجب الحرص لحل أي خلاف مع القاضي بشكل ودي، بعيدا عن التشكي، إلا في الحالات التي تستلزم ذلك ضرورة. وعليه الامتناع عن الاهتمام الزائد بالقاضي، أو ممارسة النفوذ عليه.
وفي إزاء ذلك، فإن مبدأ استقلال المحاماة يقيم على القضاة التزامات لحماية هذا المبدأ، باحترامهم، بإتاحة الفرصة كاملة لهم للقيام بواجبهم، فلا يرفض القاضي مثول المحامي أمامه، وإبداء أقواله واعتراضاته بكل حرية، واستيفاء حق المرافعة له، ومنحه المواعيد المقررة نظاما، للتأجيل، أو الاستمهال، وإعطائه الزمن الكافي للمرافعة، والاستعداد لها، ومناقشة الشهود، وغير ذلك مما هو من أعمال مهنته.
جدير بالإشارة ما جاء في منتدى الرياض الاقتصادي سنة 1428هـ عن (البيئة العدلية ومتطلبات التنمية الاقتصادية): أن تأهيل المحامين الوارد في نظام المحاماة، قد لا يكون كافيا لممارسة هذه المهنة وإتقانها، وقد اتضح عدم وجود برامج مهنية تؤهل للعمل في مكاتب المحاماة، وأن من المؤسف أن مهنة المحاماة في المملكة، اقتحمتها فئة لا ترعى للمهنة وقارها، ودورها المتمثل في تقديم العون للقضاء للوصول إلى حكم عادل. وهو أمر سبق أن أكدته الهيئة العامة للاستثمار، في التقرير الذي أعدته عن معوقات البيئة الاستثمارية في المملكة سنة 1424هـ وفيه: أن نظام المحاماة يتضمن بعض الثغرات التي ينبغي تلافيها، ولعل أهمها: عدم اشتراط خضوع المتقدمين للحصول على ترخيص المحاماة، لامتحان تحديد الكفاءة، للحد من دخول غير الأكفاء إلى هذه المهنة ذات الطابع المهم والحساس.
* القاضي بديوان المظالم ورئيس الدائرة التأديبية السابعة والدائرة الادارية التاسعة.