نواف بيك البريدية
24/05/2011, 03:35 AM
بعد تجارب مُجحفة مع "خرائب" عربيّة للنشر والتوزيع
مؤلّفون مغبونون يتساءلون: أين هي الجهات المتخصصّة برعاية حقوق المؤلّف في وطننا العربي؟
كتبت: زينب ع.م البحراني
تأليف الكُتُب.. عملٌ يُصنّف ضمن أرقى عشر مِهن في الولايات المُتّحدة الأمريكيّة، حيث الكُتّاب يعتاشون على عائدات مؤلّفاتهم، وحيث يتمتّعون برعاية الجهات الرّسميّة الكفيلة بالمُحافظة قانونيًا على حقوق المؤلّف واحترامه. بينما يتقلّب المؤلّف في وطننا العربي بين درجات الإحباط القاصم لطموحاته، ويواجه الظلم، والغبن، وانعدام التقدير على أكثر من صعيد، ومن أخطر الجهات التي تسرح وتمرح في افتراس حقوق المؤلّفين في وطننا العربي دون أدنى رادع هي دور النّشر التي تحوّلت إلى "خرائب" نشرٍ عربيّة، وتعوّدت الإيغال في فسادها وامتصاص حقوق مؤلّفيها دون حدود، ودون أن تُفعّل تلك القوانين التي يسمع المؤلّف أنها وُجِدت لحفظ حقوقه، ثمّ يكتشف أنّ وجودها شقيق رابع للغول، والعنقاء، والخل الوفيّ.
انطلاقًا من تلك القضيّة، توجّهنا إلى عددٍ من المؤلّفين العرب؛ لنسمع حكاياتهم الشخصيّة مع بعض خرائب النشر تلك في أكثر من دولةٍ عربيّة. وكان ما سمعناه حقائق تنطق بالدهشة.. الحُزن.. الصدمة.. الحسرة.. إضافةً إلى الغيظ والشعور بالإهانة والرّثاء.
التجربة الأولى.. ومُعاناة أولى
الرّوائي السّعودي "ي.خ"، رفض ذكر اسمه الصّريح على صفحات الصّحافة تفاديًا للمشاكل مع الجهة التي مضغت حقوقه، لكنّه في الوقت ذاته عبّر عن سروره البالغ بفُرصة سرد حكايته كاملة ولو من باب إطلاق مشاعره السلبيّة بعد تلك التجربة المؤذية. بدأ "ي.خ" حكايته قائلاً:
"في البداية، عندما قررت خوض مجال النشر لروايتي الأولى، لم أعرف أين أذهب، وما هي الطريقة المثلى للتعامل مع الطباعة والنشر. جربت زيارة بعض المطابع التجارية في المنطقة الشرقية للتعرف على طريقة الطباعة والتكاليف، فصُدمت بالأسعار المهولة، والجودة المتدنية للمنتج المطبوع عندهم. كما أن هناك مشكلة أخرى تكمن في استلام الكمية الكبيرة من النسخ من المطبعة ومن ثم توزيعها بنفسي على المكتبات أو التعاقد مع شركة متخصصة للتوزيع، وأين هي هذه الشركة؟.. يعني الكثير من الأمور المجهولة على المؤلف الذي يخوض التجربة للمرة الأولى ..
وعن طريق الموظف في وزارة الإعلام في الدّمّام، اقترح علي التعامل مع إحدى دور النشر والتوزيع السعوديّة، حيث أنهم متخصصون في نشر الروايات، فأخذت رقمهم من إحدى مطبوعاتهم لدى الموظف وقمت بالاتصال بهم .. وبدأت المرحلة الثانية من المعاناة .."
وُعودٌ.. ثمّ صُدود!
ويُكمل الرّوائي "ي.خ" : "في البداية؛ تعامل مسؤول خدمة المؤلفين معي بشكل مغرٍ، قام بتضخيم حجم خدماتهم، واعدًا بأنهم سيقدمونني للجمهور بشكل كبير، وسيدعمون روايتي مادياً، وسيقومون بوضع البوسترات والاعلانات في كل مكان، والعديد من الوعود التي يسيل لها اللعاب .. ولما أرسلت لهم نسخة الكترونية من روايتي ليطالعوها، وافقوا عليها، ولكن .. على شرط أن أتحمل أنا تكاليف الطباعة كاملة!، لأنهم لا يستطيعون تقديم الدعم المادي حالياً بسبب نفاد الميزانية المخصصة لذلك!، ولأنني كنت أحلم بطبع ونشر روايتي فقد قررت دفع التكاليف والمضي قدماً في تحقيق الحلم .. ولكن ..حصل هذا بعد رحلة طويلة من التأخير مع الدار بسبب السفر المفاجئ لمسؤول خدمة المؤلفين إلى منطقة أخرى، حيث أصبح لا يرد على جواله، ولا يجيب على الايميلات المرسلة له! .. وقد حاول مسؤول النشر مساعدتي في انهاء أمور تجهيز النسخة للطباعة، مثل الصف الضوئي والتدقيق اللغوي وتصميم الغلاف، لكن في النهاية لم يتمكن من اتخاذ القرار النهائي للغلاف حتى عاد مسؤول خدمة المؤلفين من سفره الطويل الذي امتد ثلاثة شهور!.."
مزيدٌ من حرق الأعصاب
ويستمر في سرد فصول حكايته قائلاً:"وخلال تلك الفترة، كنت أحضر إلى مقر الدار في الدّمّام قادماً من الجبيل (حوالي 120 كم) عدة مرات إما لاستلام نسخة مطبوعة لمراجعتها، أو لاعادة النسخة المراجعة، أو للاجتماع مع مسؤول النشر، وكلما طلبت منهم إرسال النسخة لي عبر مكتب (دي. اتش. إل) القريب منهم، يُقابل طلبي بالرفض .. المهم .. جاء وقت الطباعة .. ودخلنا في مرحلة جديدة من المتاعب .. المطبعة مُزدحمة بكُتُبٍ أخرى تحت الطبع، المكتبة بها خلل في المكائن، المكتبة تنتقل إلى مقر جديد، والعديد من المعاذير، والمشاكل، والتأخير .. وفي النهاية .. اعترف لي مسؤول خدمة المؤلفين بأن خطأً حصل في عملية الطباعة لروايتي، مما دعاهم إلى إعادة عملية الطباعة من جديد!!..
وهكذا .. استغرقت عملية الطباعة عدة أشهر أخرى ضاعفت من التأخير للمشروع، ومن حرقة دمي وأعصابي!!.. أضيفي إلى هذا أن مسؤول خدمة المؤلفين لا يرد على الاتصالات الا ما ندر، ولا يرد على الايميلات الا بعد إرسال عدة ايميلات تذكيرية!.. يعني كثير من التجاهل، وتقليل لقيمة المؤلّف، "تحسس الواحد انه قاعد يشحت منهم!!".. وبعد وصول النسخ المطبوعة وجدت أن بعضها يحتوي على أخطاء مطبعية مثل انحراف السطور إلى خارج الصفحة، أو طباعة صفحة فوق صفحة أخرى، والغلاف في معظم النسخ متسخ وبه أضرار، وغيرها من المشاكل في جودة الطباعة!! على الرغم من ارتفاع تكلفتها!!.."
الضّربةُ القاضية:
ويسترسل الرّوائي السعودي بحسرة: "حسبي الله ونعم الوكيل فيهم بس .. ولما جاء دور التوزيع والنشر .. أخذ الموضوع وقتا طويلا أيضاً .. وحين سألت الرّجُل: "ها .. وين الاعلانات والبوسترات والحاجات هذي؟".. قال لي: "هذي إنت تتحمل تكاليفها وليس الدار!!".. لاحول ولاقوة الا بالله .. والله بدأت أطبع بطاقات دعائية صغيرة للرّواية من جيبي الخاص وأوزعها بنفسي، وصرت أدخل منتديات وأنشر الخبر عن الرواية وأتحاور مع القراء ، يعني مجهودات الدعاية والاعلان والانتشار كلها أنا الذي تحمّلتها في سبيل تحقيق الانتشار والنجاح للرواية ..
والضربة القاضية لي معهم كانت في العقد المجحف الذي غبن حقوقي الماديّة إلى حدٍ كبير.. لكنني ضحيت بالمردود المادي وقتها لأني كنت أتعجّل تحقيق حلم النشر لروايتي .. وقدر الله وما شاء فعل ..
في روايتي الثانية تعاملت مع دار نشر مختلفة، وحصلت منهم على عقد أفضل بكثير من الدّار السّابقة، ومسؤول خدمة المؤلفين في الدار شخص رائع .. يعطي المؤلف كل التقدير والتعاون الذي يستحقة .. لأنه كان أحد ضحايا الدّار التي خُدعتُ بها من قبل".
ربع قرنٍ من الغبن!
ومن حكاية الرّوائي السعودي إلى تجربة الكاتب والأكاديمي العراقي الدّكتور عبد الرّضا علي الذي رحّب بسرد حكايته قائلاً: "في سنة 1983م، وخلال إقامة معرض الكتاب الدولي في جامعة الموصل(العراق)، زارني أحد أصحاب دون النّشر اللبنانيّة عارضاً عليّ إعادة طبع كتابي الموسوم بـ (ألأسطورة في شعر السيّاب) طبعة ثانية،علماً أنَّ دار الشؤون الثقافيّة في بغداد قد أصدرت طبعته الأولى سنة 1978م، فوافقتُ على العرض، وتسلّمتُ منه مبلغاً هزيلاً تافهاً أخجل ُ من ذكره، ووقّعتُ العقد متنازلاً له عن أربع طبعات فقط، بواقع ألفي نسخة للطبعة الواحدة، أي بمجموعٍ كلّي حدّد بثمانية آلاف نسخةٍ ليس أكثر. وها قد مضى على العقد ربع قرن بالتمام والكمال ،و النّاشر اللبناني المذكور يصوّر الكتاب تصويراً رديئاً ،ويوزّعه ويبيعه دونما أيّة حقوقٍ يدفعها لي، علماً أنّه لم يقم بطبع الكتاب، إنّما اكتفى بتصوير طبعته الأولى، وتغيير الغلاف فقط.
وحينما زرتُ بيروت في آذار الماضي لتسلّم بعض نسخي من كتابي الجديد الذي أصدرته المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر(الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون). عملتُ جاهداً على اللقاء بهذا الرجُل، لاستيضاح بعض الأمور منه فيما يخصّ الكتاب، وحقوق المؤلّف، وحين التقيتُه (وقد أصبح رجل أعمال كبيرا ) أعلمته برغبتي في إعادة طبع الكتاب عند ناشر ٍ غيره أبدى رغبة ً في طبعهِ ثالثة ً، لكون الكتاب مطلوباً، فقال لي: لماذا تعيد طبعه؟ أنا على استعداد أن أزوّد الناشر الجديد بالنسخ التي يطلبها... تصوّروا! بعد مضيّ ربع قرنٍ على العقد ولا يزال (رجل الأعمال الكبير) يحلب من ضرع "الأسطورة في شعر السيّاب"، ويمنع من إعادة طبعه دون وازع يمنعه، لكوني عراقيّاً لم يوقّع بلدي على اتّفاقيّة حقوق المؤلّف الدوليّة، فضلاً عن أنَّ الشخص ذاته فعل الشيء نفسه مع أساتذتي: (مهدي المخزومي)، و(عليّ جواد الطاهر) ، و (جلال خيّاط ) الذين رحلوا إلى عالم الخلد وتركوا لديه مؤلّفاتهم من غير أن يقدّم لورثتهم الحقوق المترتّبة على ما نشره من كتبهم" ويؤكّد في ختام حديثه: "هكذا هم أكثر الناشرين العرب يا سيّدتي. وفي الجعبة أمثلةٌ أخرى".
رجُلٌ وقور!
الشاعر والناقد الدكتور "مقداد رحيم" كانت له حكاياتٍ ثريّة بالأحداث مع أكثر من خرابة نشر عربيّة، استهلها بحكايته مع إحدى دور النشر اللبنانيّة قائلاً: "اتفقتُ مع إحدى دور النّشر ببيروت وكان صاحبها، وهو رجل طيب وقور، يتردد على بغداد والقاهرة، حيث كنت ألتقيه في كلتيهما، على طبع كتابي "الموشحات في بلاد الشام"، وبعد مدةٍ لم يلبث في ذهني مقدارها عرضتُ على الدار نفسها، والرجل الطيب الوقور نفسه، كتابي "النوريات في الشعر الأندلسي"، فطبع الثاني في العام 1986 وكنت في القاهرة ورأيته موزعاً في مكتباتها آنذاك، بينما طبع الأول في العام 1987، ورأيته موزعاً في بغداد بعد عودتي من القاهرة، والكتابان وردا في قائمة منشورات هذه الدار مذيلين بسعر البيع بالدولار الأمريكي: وكان سعر الأول ستة دولارات والثاني اثني عشر دولاراً.
ويُكمل الدكتور رحيم: "عند مطالبتي بحقوقي المادية امتنع الرجل الطيب الوقور من دفع حقوقي بالدولار وهو العملة التي يبيع بها الكتب، وأصر على الدفع بالدينار العراقي، وكان الدينار آنذاك يساوي أكثر من ثلاثة دولارات عند التحويل، ولكنه لا يساوي سنتاً واحداً عند التعامل به في العِراق، وكان التحويل إلى العملة الصعبة من المحرمات في العراق والحرب قائمة، فعرض عليَّ مبلغ تسعمائة دينار عن الكتابين، وهو مبلغ حقير جداً، فرفضت استلامه، وصادف وجود الدكتور (يونس أحمد السامرائي) وهو أستاذي، فهمس في ذهني أنْ أتسلم المبلغ وذكر لي مثلاً عراقياً يناسب الحال، لا أجد من المناسب ذكره هنا. فتسلّمتُ المبلغ على كراهية ومضض"
بعد عشرِ سنوات..
ويسترسل: "بعد انقضاء عشر سنوات أرسلتُ إلى هذه الدّار خطاباً أسأل فيه عن إمكان طبع الكتابين طبعة ثانية، لظني أن المستوعات أفرغتْ حمولتها منه، خاصة وقد بلغني اهتمام الجامعات العربية وأسواق الكتب بالكتابين، ونفادهما من الأسواق، وكنت أدركت هذا بنفسي من خلال زياراتي إلى ليبيا وتونس والمغرب ومصر والأردن وسوريا على سبيل المثال. وأنا أعرف أن مثل هذه الدور الضخمة تشارك في جميع معارض الكتب التي تقام في أقطار الوطن العربي دون ارتجاع ما لم يتم بيعه، وأنها لا تطبع أقل من خمسة ألاف نسخة من كل كتاب، أو هي تطبع المزيد من الكتاب الذي تلتهمه الأسواق بسرعة تحت غطاء "الطبعة الأولى".
جاء الرد في خطاب من الرّجُل نفسه بأن المطبوع من كلا الكتابين هو 2100 نسخة والباقي من أحدهما 1240 نسخة ومن الثاني 1241 نسخة في مستوعات الدار، وبالحساب البسيط يتبين أن المبيع من كل منهما لم يبلغ الألف نسخة خلال السنوات العشر المذكورة. أنا لم أصدِّقْ الخبر طبعاً، ورأيت أن من المناسب بعد ذلك أن أمتنع عن التعامل مع هذه الدار وإنْ كان صاحبها رجلاً طيباً ووقوراً!"
ما بعد البشاشة
ومن بيروت إلى تونس، وحكاية أخرى يسردها الدكتور رحيم في السياق ذاته:"كنت أعمل أستاذاً في إحدى الجامعات الليبية وكنت أتردد على تونس. وفي إحدى زياراتي إليها تعرفت إلى أستاذ جامعي مثلي، يعمل في الجامعة التونسية، ويملك داراً لنشر الكتب. كان صديقي الروائي طيب الذكر (الأستاذ عبد الرحمن مجيد الربيعي) قد سبقني إليه، فأفرحني جداً أن أعثر على ناشر يحمل الصفة الأكاديمية والتربوية، وحفزني ذلك على التعامل معه دون طويل تفكير أو تأخير.
زرتُ الأستاذ في مكتبه في يوم من أيام صيف العام 1994 فوجدته في غاية في اللطف والكرم، وعرضتُ عليه طبع ديواني "مَجمرة النبض" فهشَّ وبشَّ ورحَّب وأطنب، واطلع على مخطوطة الديوان فأبدى إعجابه، وتحمس لإبرام عقد بيني وبيني لطبعه. سررتُ كثيراً بالأمر، ولم أناقشه في أمر حقوقي المادية المنصوص عليها في العقد المطبوع سلفاً، وهي عشرة بالمائة من سعر الغلاف، وقلت في نفسي "خيرٌ قليل خيرٌ من لا خير"، فتركت المخطوطة بين يديه وودعته على أمل أن يرسل إليَّ تجارب الطبع بعد مدة، لأقوم بتصحيحها والموافقة النهائية على الطبع، فجوبهتُ بسلسلة من التسويفات من خلال اتصالاتي الهاتفية الدولية وزياراتي المباشرة تحت أعذار ساذجة.
وفي إحدى المكالمات الدولية التي أجريتها معه أخبرني بأنَّ عليّ أن أدفع نصف تكاليف الطبع قبل أن يطبع منه حرفاً واحداً، والسبب هو تكاليف الحياة وارتفاع الأسعار! رفضتُ العرض لا لأن المبلغ المطلوب كان كبيراً، ولا لأن مسألة أن يدفع المؤلف من جيبه أمر غير منطقي آنذاك، بل لأن الأستاذ التربوي لم يكن تربوياً ولم يكن صادقاً، وأكثر ما آلمني منه أنه كتبَ في العقد كلمة "النبض" بالظاء لا بالضاد!"
ويستطرد الدكتور رحيم قائلاً: "بعد اثني عشر عاماً دُعيتُ إلى حضور مؤتمر دولي في العاصمة الأردنية عمّان عقدته جامعة فيلادلفيا، فحضرتُه وانتهزتُ فرصة وجودي هناك فاتصلتُ بالأديب الأردني الكبير ذي الأخلاق الكريمة الأستاذ (ألياس فركوح) الذي آلى على نفسه أن يزورني في محل إقامتي في الفندق لنتفق على إصدار الديوان من خلال دار "أزمنة" التي يرعاها أو يرعى الثقافة من خلالها، فصدر الديوان في العام نفسه عن هذه الدار دون أن أتكلف زيارة الإدارة أو المكتب، لكرم أخلاق الأديب الكبير وتواضعه. و الذي له الفضل كذلك في إصدار كتابي "نقد الشعر في الأندلس – قضايا ومواقف".
مؤسسة حكوميّة.. عاجزة!
ونبقى مع الدكتور مقداد رحيم في تونس أيضًا، لكن مع مؤسسة حكومية سرد حكايته معها قائلاً:"لاشك في أن "المجمع الـتونسي للعلوم والآداب والفنون" اسم عظيم جذاب، وقد وقعت في شراك جاذبيته فتوجهتُ إليه في العام 1995 بكتابي "اتجاهات نقد الشعر في الأندلس" بعد ست سنوات من تأليفه، وهو مؤسسة رسمية حكومية، فتكونَ لي أمل قوي بأن يُطبع الكتاب ويصدر عن مجمع ضخم كبير كهذا سنوات انتظار، وبعد انتظار أشهر جاءني خطاب منه يُطيل الاعتذار عن طبعه ونشره لأن "الإمكانات الحالية للمجمع" لاتسمح بذلك، فعجبتُ كيف تكون مؤسسة حكومية عاجزة عن تحقيق أهدافها الاعتيادية بسبب ضعف الإمكانات!
وأعترف أن الحفاوة التي كان يستقبلني بها الإخوة التونسيون لم أر مثيلاً لها على الإطلاق ولا أستثني المشتغلين في هذا المجمع أبداً.
توجهتُ إلى مؤسسة حكومية أخرى في دولة الإمارات العربية المتحدة وهي مجمع كذلك، وأعني "المجمع الثقافي" في أبو ظبي، فلم تتأخر عن طبعه فصدر في العام 2000، وأشهد أن ما نلته منها من حقوق مادية عن هذا الكتاب كان أكبر مبلغ عن كتابٍ أتسلمه في حياتي كلها، مع أن المبلغ كان أقل من نصف مرتبي الشهري! وكان لها الفضل كذلك في نشر كتابي "مصادر التراث الأندلسي" في العام 1999"
مشغولون بغير كتابك!
ثم نذهب مع الدكتور رحيم إلى الأردن في حكايةٍ واقعيةٍ جديدة:"ورأيتُ أن "أغتنم" فرصة وجودي في عمّان مرة أخرى في ربيع العام 1997 فأتفق مع إحدى دور النّشر الأردنيّة على طبع ديواني "بكاء النخيل"، فقمت بزيارة الأستاذ "أبو العبد" مدير الدار في مكتبه في عمّان، وعرضت عليه طبع هذا الديوان ونشره من خلال هذه الدار الرصينة، فوافق الرجل على أن أترك لديه القرص المدمج وهو يحتوي على مخطوطة الديوان لغرض نشره.
وبعد أن عدتُ إلى دار غربتي بمدة ليست قصيرة كتبت إلى الأستاذ أسأله عما تم بهذا الشأن، فتفضل بالجواب، وكان اعتذاراً عن طبع "بكاء النخيل" لأن الدار مشغولة هذا العام بطبع سِواه.
أشهد أنني لم أدفع له مالاً على سبيل المقدمة، ولم أسأله عن الحقوق المادية في اللقاء الأول، على أنْ يكون هذا بعد الاطلاع على نص الديوان والموافقة على طبعه"
انتظار.. دون اعتذار
ونبقى مع الدكتور رحيم في الأردن.. للمرّة الثانية:"اتفقتُ مع صاحب دار نشر أخرى في عمّان، وهو رجل خيِّر كما يبدو لأول وهلة، على طبع كتابي "رثاء النفس في الشعر الأندلسي"، ووافقت على جميع شروطه بما في ذلك حصولي على خمس عشرة نسخة فقط من الكتاب هدية المؤلف من الدار!، ولا بأس فالأهم عندي أن يُطبع الكتاب وهو من مؤلفاتي التي أعتز بها جداً، وكانت أستاذة وزميلة فاضلة معروفة بفضلها وعلمها قد أرشدتني إليه وكان طبعَ لها كتاباً أو أكثر من كتاب، كما غرَّني قوله لي في أول لقاء بيننا: "جئتَ إلى المكان الصحيح يا دكتور".
طُبع "رثاء النفس" في مفتتح العام 2007 بعد معاناة طويلة الأمد سببها كثرة المواعيد ومخالفتها، وأخذ يدور في معارض الكتب العربية، وصرتُ أتصل بـ"الرجل الخيِّر" عبر نداءات دولية أسأله عن حقوقي المادية المنصوص عليها في العقد، فتتكرر تسويفاته ومواعيده، فمرة يطلب مهلة أسبوع، فأسبوعين، فمعرض كتاب قادم، فمعرضين، فثلاثة، حتى إنني زرت عمان فاتصلت به من هناك فوعدني بالمجئ للقائه في مكتبه وجئت إلى الموعد وانتظرتُ طويلاً فلم يجئ ولا تحامل على نفسه بالاتصال والاعتذار!"
شعور بالإهانة.. ورثاء
ويُكمل:"أخذتُ أتصل به هاتفياً من السويد فلا يرد، وأكتب له رسائل تلفونية فيهمل الرد على بعضها ويرد على البعض الآخر، ففي السادس من شهر أكتوبر 2008 كتب لي رسالة تلفونية بلهجته نصها: "بأكد انو حقك حيصلك في الحد الأعلى عند معرض القاهرة"، وبعد ثلاثة أيام كتب لي "اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك وأعنّا على السداد يا رب"، فاستبشرتُ خيراً كثيراً من الرجل الخيِّر هذا، وانتظرتُ افتتاح معرض الكتاب في القاهرة، ثم مضى ومضت بعده عدة أسابيع ولم يصدر من الرجل الخيِّر أي خبر، فبعثتُ إليه برسالة أذكّره فلعله نسي، فجاء رده في رسالة في الخامس من شهر آذار/ مارس 2009 يقول فيها: "أهلاً وسهلاً دكتور خلال أسبوع يكون بحسابك فلوس"، وقد أوشك العام على الانتهاء وحسابي المصرفي ينتظر فلوس الرجل الخيِّر، ولعله سيبقى منتظراً إلى الأبد. شعرتُ بالإهانة ورثيتُ نفسي بسبب كتاب "رثاء النفس"!.... "
هُنا يؤكّد الدّكتور مقداد رحيم: "بعد هذا قررتُ ألاّ أوقع أي عقد مع أي ناشر عربي، فما الفائدة من توقيع العقود إنْ لم تكن لمجرد الذكرى؟!" ويختم حديثه بقوله: "وهناك تجارب، أو إخفاقات أخرى لم أشأ أن أتحدث عنها لأنها تمس من كنتُ أعُدّهم أصدقاء أوفياء"
المزيد... (http://www.nawafnet.ws/msg-4586.htm)
مؤلّفون مغبونون يتساءلون: أين هي الجهات المتخصصّة برعاية حقوق المؤلّف في وطننا العربي؟
كتبت: زينب ع.م البحراني
تأليف الكُتُب.. عملٌ يُصنّف ضمن أرقى عشر مِهن في الولايات المُتّحدة الأمريكيّة، حيث الكُتّاب يعتاشون على عائدات مؤلّفاتهم، وحيث يتمتّعون برعاية الجهات الرّسميّة الكفيلة بالمُحافظة قانونيًا على حقوق المؤلّف واحترامه. بينما يتقلّب المؤلّف في وطننا العربي بين درجات الإحباط القاصم لطموحاته، ويواجه الظلم، والغبن، وانعدام التقدير على أكثر من صعيد، ومن أخطر الجهات التي تسرح وتمرح في افتراس حقوق المؤلّفين في وطننا العربي دون أدنى رادع هي دور النّشر التي تحوّلت إلى "خرائب" نشرٍ عربيّة، وتعوّدت الإيغال في فسادها وامتصاص حقوق مؤلّفيها دون حدود، ودون أن تُفعّل تلك القوانين التي يسمع المؤلّف أنها وُجِدت لحفظ حقوقه، ثمّ يكتشف أنّ وجودها شقيق رابع للغول، والعنقاء، والخل الوفيّ.
انطلاقًا من تلك القضيّة، توجّهنا إلى عددٍ من المؤلّفين العرب؛ لنسمع حكاياتهم الشخصيّة مع بعض خرائب النشر تلك في أكثر من دولةٍ عربيّة. وكان ما سمعناه حقائق تنطق بالدهشة.. الحُزن.. الصدمة.. الحسرة.. إضافةً إلى الغيظ والشعور بالإهانة والرّثاء.
التجربة الأولى.. ومُعاناة أولى
الرّوائي السّعودي "ي.خ"، رفض ذكر اسمه الصّريح على صفحات الصّحافة تفاديًا للمشاكل مع الجهة التي مضغت حقوقه، لكنّه في الوقت ذاته عبّر عن سروره البالغ بفُرصة سرد حكايته كاملة ولو من باب إطلاق مشاعره السلبيّة بعد تلك التجربة المؤذية. بدأ "ي.خ" حكايته قائلاً:
"في البداية، عندما قررت خوض مجال النشر لروايتي الأولى، لم أعرف أين أذهب، وما هي الطريقة المثلى للتعامل مع الطباعة والنشر. جربت زيارة بعض المطابع التجارية في المنطقة الشرقية للتعرف على طريقة الطباعة والتكاليف، فصُدمت بالأسعار المهولة، والجودة المتدنية للمنتج المطبوع عندهم. كما أن هناك مشكلة أخرى تكمن في استلام الكمية الكبيرة من النسخ من المطبعة ومن ثم توزيعها بنفسي على المكتبات أو التعاقد مع شركة متخصصة للتوزيع، وأين هي هذه الشركة؟.. يعني الكثير من الأمور المجهولة على المؤلف الذي يخوض التجربة للمرة الأولى ..
وعن طريق الموظف في وزارة الإعلام في الدّمّام، اقترح علي التعامل مع إحدى دور النشر والتوزيع السعوديّة، حيث أنهم متخصصون في نشر الروايات، فأخذت رقمهم من إحدى مطبوعاتهم لدى الموظف وقمت بالاتصال بهم .. وبدأت المرحلة الثانية من المعاناة .."
وُعودٌ.. ثمّ صُدود!
ويُكمل الرّوائي "ي.خ" : "في البداية؛ تعامل مسؤول خدمة المؤلفين معي بشكل مغرٍ، قام بتضخيم حجم خدماتهم، واعدًا بأنهم سيقدمونني للجمهور بشكل كبير، وسيدعمون روايتي مادياً، وسيقومون بوضع البوسترات والاعلانات في كل مكان، والعديد من الوعود التي يسيل لها اللعاب .. ولما أرسلت لهم نسخة الكترونية من روايتي ليطالعوها، وافقوا عليها، ولكن .. على شرط أن أتحمل أنا تكاليف الطباعة كاملة!، لأنهم لا يستطيعون تقديم الدعم المادي حالياً بسبب نفاد الميزانية المخصصة لذلك!، ولأنني كنت أحلم بطبع ونشر روايتي فقد قررت دفع التكاليف والمضي قدماً في تحقيق الحلم .. ولكن ..حصل هذا بعد رحلة طويلة من التأخير مع الدار بسبب السفر المفاجئ لمسؤول خدمة المؤلفين إلى منطقة أخرى، حيث أصبح لا يرد على جواله، ولا يجيب على الايميلات المرسلة له! .. وقد حاول مسؤول النشر مساعدتي في انهاء أمور تجهيز النسخة للطباعة، مثل الصف الضوئي والتدقيق اللغوي وتصميم الغلاف، لكن في النهاية لم يتمكن من اتخاذ القرار النهائي للغلاف حتى عاد مسؤول خدمة المؤلفين من سفره الطويل الذي امتد ثلاثة شهور!.."
مزيدٌ من حرق الأعصاب
ويستمر في سرد فصول حكايته قائلاً:"وخلال تلك الفترة، كنت أحضر إلى مقر الدار في الدّمّام قادماً من الجبيل (حوالي 120 كم) عدة مرات إما لاستلام نسخة مطبوعة لمراجعتها، أو لاعادة النسخة المراجعة، أو للاجتماع مع مسؤول النشر، وكلما طلبت منهم إرسال النسخة لي عبر مكتب (دي. اتش. إل) القريب منهم، يُقابل طلبي بالرفض .. المهم .. جاء وقت الطباعة .. ودخلنا في مرحلة جديدة من المتاعب .. المطبعة مُزدحمة بكُتُبٍ أخرى تحت الطبع، المكتبة بها خلل في المكائن، المكتبة تنتقل إلى مقر جديد، والعديد من المعاذير، والمشاكل، والتأخير .. وفي النهاية .. اعترف لي مسؤول خدمة المؤلفين بأن خطأً حصل في عملية الطباعة لروايتي، مما دعاهم إلى إعادة عملية الطباعة من جديد!!..
وهكذا .. استغرقت عملية الطباعة عدة أشهر أخرى ضاعفت من التأخير للمشروع، ومن حرقة دمي وأعصابي!!.. أضيفي إلى هذا أن مسؤول خدمة المؤلفين لا يرد على الاتصالات الا ما ندر، ولا يرد على الايميلات الا بعد إرسال عدة ايميلات تذكيرية!.. يعني كثير من التجاهل، وتقليل لقيمة المؤلّف، "تحسس الواحد انه قاعد يشحت منهم!!".. وبعد وصول النسخ المطبوعة وجدت أن بعضها يحتوي على أخطاء مطبعية مثل انحراف السطور إلى خارج الصفحة، أو طباعة صفحة فوق صفحة أخرى، والغلاف في معظم النسخ متسخ وبه أضرار، وغيرها من المشاكل في جودة الطباعة!! على الرغم من ارتفاع تكلفتها!!.."
الضّربةُ القاضية:
ويسترسل الرّوائي السعودي بحسرة: "حسبي الله ونعم الوكيل فيهم بس .. ولما جاء دور التوزيع والنشر .. أخذ الموضوع وقتا طويلا أيضاً .. وحين سألت الرّجُل: "ها .. وين الاعلانات والبوسترات والحاجات هذي؟".. قال لي: "هذي إنت تتحمل تكاليفها وليس الدار!!".. لاحول ولاقوة الا بالله .. والله بدأت أطبع بطاقات دعائية صغيرة للرّواية من جيبي الخاص وأوزعها بنفسي، وصرت أدخل منتديات وأنشر الخبر عن الرواية وأتحاور مع القراء ، يعني مجهودات الدعاية والاعلان والانتشار كلها أنا الذي تحمّلتها في سبيل تحقيق الانتشار والنجاح للرواية ..
والضربة القاضية لي معهم كانت في العقد المجحف الذي غبن حقوقي الماديّة إلى حدٍ كبير.. لكنني ضحيت بالمردود المادي وقتها لأني كنت أتعجّل تحقيق حلم النشر لروايتي .. وقدر الله وما شاء فعل ..
في روايتي الثانية تعاملت مع دار نشر مختلفة، وحصلت منهم على عقد أفضل بكثير من الدّار السّابقة، ومسؤول خدمة المؤلفين في الدار شخص رائع .. يعطي المؤلف كل التقدير والتعاون الذي يستحقة .. لأنه كان أحد ضحايا الدّار التي خُدعتُ بها من قبل".
ربع قرنٍ من الغبن!
ومن حكاية الرّوائي السعودي إلى تجربة الكاتب والأكاديمي العراقي الدّكتور عبد الرّضا علي الذي رحّب بسرد حكايته قائلاً: "في سنة 1983م، وخلال إقامة معرض الكتاب الدولي في جامعة الموصل(العراق)، زارني أحد أصحاب دون النّشر اللبنانيّة عارضاً عليّ إعادة طبع كتابي الموسوم بـ (ألأسطورة في شعر السيّاب) طبعة ثانية،علماً أنَّ دار الشؤون الثقافيّة في بغداد قد أصدرت طبعته الأولى سنة 1978م، فوافقتُ على العرض، وتسلّمتُ منه مبلغاً هزيلاً تافهاً أخجل ُ من ذكره، ووقّعتُ العقد متنازلاً له عن أربع طبعات فقط، بواقع ألفي نسخة للطبعة الواحدة، أي بمجموعٍ كلّي حدّد بثمانية آلاف نسخةٍ ليس أكثر. وها قد مضى على العقد ربع قرن بالتمام والكمال ،و النّاشر اللبناني المذكور يصوّر الكتاب تصويراً رديئاً ،ويوزّعه ويبيعه دونما أيّة حقوقٍ يدفعها لي، علماً أنّه لم يقم بطبع الكتاب، إنّما اكتفى بتصوير طبعته الأولى، وتغيير الغلاف فقط.
وحينما زرتُ بيروت في آذار الماضي لتسلّم بعض نسخي من كتابي الجديد الذي أصدرته المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر(الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون). عملتُ جاهداً على اللقاء بهذا الرجُل، لاستيضاح بعض الأمور منه فيما يخصّ الكتاب، وحقوق المؤلّف، وحين التقيتُه (وقد أصبح رجل أعمال كبيرا ) أعلمته برغبتي في إعادة طبع الكتاب عند ناشر ٍ غيره أبدى رغبة ً في طبعهِ ثالثة ً، لكون الكتاب مطلوباً، فقال لي: لماذا تعيد طبعه؟ أنا على استعداد أن أزوّد الناشر الجديد بالنسخ التي يطلبها... تصوّروا! بعد مضيّ ربع قرنٍ على العقد ولا يزال (رجل الأعمال الكبير) يحلب من ضرع "الأسطورة في شعر السيّاب"، ويمنع من إعادة طبعه دون وازع يمنعه، لكوني عراقيّاً لم يوقّع بلدي على اتّفاقيّة حقوق المؤلّف الدوليّة، فضلاً عن أنَّ الشخص ذاته فعل الشيء نفسه مع أساتذتي: (مهدي المخزومي)، و(عليّ جواد الطاهر) ، و (جلال خيّاط ) الذين رحلوا إلى عالم الخلد وتركوا لديه مؤلّفاتهم من غير أن يقدّم لورثتهم الحقوق المترتّبة على ما نشره من كتبهم" ويؤكّد في ختام حديثه: "هكذا هم أكثر الناشرين العرب يا سيّدتي. وفي الجعبة أمثلةٌ أخرى".
رجُلٌ وقور!
الشاعر والناقد الدكتور "مقداد رحيم" كانت له حكاياتٍ ثريّة بالأحداث مع أكثر من خرابة نشر عربيّة، استهلها بحكايته مع إحدى دور النشر اللبنانيّة قائلاً: "اتفقتُ مع إحدى دور النّشر ببيروت وكان صاحبها، وهو رجل طيب وقور، يتردد على بغداد والقاهرة، حيث كنت ألتقيه في كلتيهما، على طبع كتابي "الموشحات في بلاد الشام"، وبعد مدةٍ لم يلبث في ذهني مقدارها عرضتُ على الدار نفسها، والرجل الطيب الوقور نفسه، كتابي "النوريات في الشعر الأندلسي"، فطبع الثاني في العام 1986 وكنت في القاهرة ورأيته موزعاً في مكتباتها آنذاك، بينما طبع الأول في العام 1987، ورأيته موزعاً في بغداد بعد عودتي من القاهرة، والكتابان وردا في قائمة منشورات هذه الدار مذيلين بسعر البيع بالدولار الأمريكي: وكان سعر الأول ستة دولارات والثاني اثني عشر دولاراً.
ويُكمل الدكتور رحيم: "عند مطالبتي بحقوقي المادية امتنع الرجل الطيب الوقور من دفع حقوقي بالدولار وهو العملة التي يبيع بها الكتب، وأصر على الدفع بالدينار العراقي، وكان الدينار آنذاك يساوي أكثر من ثلاثة دولارات عند التحويل، ولكنه لا يساوي سنتاً واحداً عند التعامل به في العِراق، وكان التحويل إلى العملة الصعبة من المحرمات في العراق والحرب قائمة، فعرض عليَّ مبلغ تسعمائة دينار عن الكتابين، وهو مبلغ حقير جداً، فرفضت استلامه، وصادف وجود الدكتور (يونس أحمد السامرائي) وهو أستاذي، فهمس في ذهني أنْ أتسلم المبلغ وذكر لي مثلاً عراقياً يناسب الحال، لا أجد من المناسب ذكره هنا. فتسلّمتُ المبلغ على كراهية ومضض"
بعد عشرِ سنوات..
ويسترسل: "بعد انقضاء عشر سنوات أرسلتُ إلى هذه الدّار خطاباً أسأل فيه عن إمكان طبع الكتابين طبعة ثانية، لظني أن المستوعات أفرغتْ حمولتها منه، خاصة وقد بلغني اهتمام الجامعات العربية وأسواق الكتب بالكتابين، ونفادهما من الأسواق، وكنت أدركت هذا بنفسي من خلال زياراتي إلى ليبيا وتونس والمغرب ومصر والأردن وسوريا على سبيل المثال. وأنا أعرف أن مثل هذه الدور الضخمة تشارك في جميع معارض الكتب التي تقام في أقطار الوطن العربي دون ارتجاع ما لم يتم بيعه، وأنها لا تطبع أقل من خمسة ألاف نسخة من كل كتاب، أو هي تطبع المزيد من الكتاب الذي تلتهمه الأسواق بسرعة تحت غطاء "الطبعة الأولى".
جاء الرد في خطاب من الرّجُل نفسه بأن المطبوع من كلا الكتابين هو 2100 نسخة والباقي من أحدهما 1240 نسخة ومن الثاني 1241 نسخة في مستوعات الدار، وبالحساب البسيط يتبين أن المبيع من كل منهما لم يبلغ الألف نسخة خلال السنوات العشر المذكورة. أنا لم أصدِّقْ الخبر طبعاً، ورأيت أن من المناسب بعد ذلك أن أمتنع عن التعامل مع هذه الدار وإنْ كان صاحبها رجلاً طيباً ووقوراً!"
ما بعد البشاشة
ومن بيروت إلى تونس، وحكاية أخرى يسردها الدكتور رحيم في السياق ذاته:"كنت أعمل أستاذاً في إحدى الجامعات الليبية وكنت أتردد على تونس. وفي إحدى زياراتي إليها تعرفت إلى أستاذ جامعي مثلي، يعمل في الجامعة التونسية، ويملك داراً لنشر الكتب. كان صديقي الروائي طيب الذكر (الأستاذ عبد الرحمن مجيد الربيعي) قد سبقني إليه، فأفرحني جداً أن أعثر على ناشر يحمل الصفة الأكاديمية والتربوية، وحفزني ذلك على التعامل معه دون طويل تفكير أو تأخير.
زرتُ الأستاذ في مكتبه في يوم من أيام صيف العام 1994 فوجدته في غاية في اللطف والكرم، وعرضتُ عليه طبع ديواني "مَجمرة النبض" فهشَّ وبشَّ ورحَّب وأطنب، واطلع على مخطوطة الديوان فأبدى إعجابه، وتحمس لإبرام عقد بيني وبيني لطبعه. سررتُ كثيراً بالأمر، ولم أناقشه في أمر حقوقي المادية المنصوص عليها في العقد المطبوع سلفاً، وهي عشرة بالمائة من سعر الغلاف، وقلت في نفسي "خيرٌ قليل خيرٌ من لا خير"، فتركت المخطوطة بين يديه وودعته على أمل أن يرسل إليَّ تجارب الطبع بعد مدة، لأقوم بتصحيحها والموافقة النهائية على الطبع، فجوبهتُ بسلسلة من التسويفات من خلال اتصالاتي الهاتفية الدولية وزياراتي المباشرة تحت أعذار ساذجة.
وفي إحدى المكالمات الدولية التي أجريتها معه أخبرني بأنَّ عليّ أن أدفع نصف تكاليف الطبع قبل أن يطبع منه حرفاً واحداً، والسبب هو تكاليف الحياة وارتفاع الأسعار! رفضتُ العرض لا لأن المبلغ المطلوب كان كبيراً، ولا لأن مسألة أن يدفع المؤلف من جيبه أمر غير منطقي آنذاك، بل لأن الأستاذ التربوي لم يكن تربوياً ولم يكن صادقاً، وأكثر ما آلمني منه أنه كتبَ في العقد كلمة "النبض" بالظاء لا بالضاد!"
ويستطرد الدكتور رحيم قائلاً: "بعد اثني عشر عاماً دُعيتُ إلى حضور مؤتمر دولي في العاصمة الأردنية عمّان عقدته جامعة فيلادلفيا، فحضرتُه وانتهزتُ فرصة وجودي هناك فاتصلتُ بالأديب الأردني الكبير ذي الأخلاق الكريمة الأستاذ (ألياس فركوح) الذي آلى على نفسه أن يزورني في محل إقامتي في الفندق لنتفق على إصدار الديوان من خلال دار "أزمنة" التي يرعاها أو يرعى الثقافة من خلالها، فصدر الديوان في العام نفسه عن هذه الدار دون أن أتكلف زيارة الإدارة أو المكتب، لكرم أخلاق الأديب الكبير وتواضعه. و الذي له الفضل كذلك في إصدار كتابي "نقد الشعر في الأندلس – قضايا ومواقف".
مؤسسة حكوميّة.. عاجزة!
ونبقى مع الدكتور مقداد رحيم في تونس أيضًا، لكن مع مؤسسة حكومية سرد حكايته معها قائلاً:"لاشك في أن "المجمع الـتونسي للعلوم والآداب والفنون" اسم عظيم جذاب، وقد وقعت في شراك جاذبيته فتوجهتُ إليه في العام 1995 بكتابي "اتجاهات نقد الشعر في الأندلس" بعد ست سنوات من تأليفه، وهو مؤسسة رسمية حكومية، فتكونَ لي أمل قوي بأن يُطبع الكتاب ويصدر عن مجمع ضخم كبير كهذا سنوات انتظار، وبعد انتظار أشهر جاءني خطاب منه يُطيل الاعتذار عن طبعه ونشره لأن "الإمكانات الحالية للمجمع" لاتسمح بذلك، فعجبتُ كيف تكون مؤسسة حكومية عاجزة عن تحقيق أهدافها الاعتيادية بسبب ضعف الإمكانات!
وأعترف أن الحفاوة التي كان يستقبلني بها الإخوة التونسيون لم أر مثيلاً لها على الإطلاق ولا أستثني المشتغلين في هذا المجمع أبداً.
توجهتُ إلى مؤسسة حكومية أخرى في دولة الإمارات العربية المتحدة وهي مجمع كذلك، وأعني "المجمع الثقافي" في أبو ظبي، فلم تتأخر عن طبعه فصدر في العام 2000، وأشهد أن ما نلته منها من حقوق مادية عن هذا الكتاب كان أكبر مبلغ عن كتابٍ أتسلمه في حياتي كلها، مع أن المبلغ كان أقل من نصف مرتبي الشهري! وكان لها الفضل كذلك في نشر كتابي "مصادر التراث الأندلسي" في العام 1999"
مشغولون بغير كتابك!
ثم نذهب مع الدكتور رحيم إلى الأردن في حكايةٍ واقعيةٍ جديدة:"ورأيتُ أن "أغتنم" فرصة وجودي في عمّان مرة أخرى في ربيع العام 1997 فأتفق مع إحدى دور النّشر الأردنيّة على طبع ديواني "بكاء النخيل"، فقمت بزيارة الأستاذ "أبو العبد" مدير الدار في مكتبه في عمّان، وعرضت عليه طبع هذا الديوان ونشره من خلال هذه الدار الرصينة، فوافق الرجل على أن أترك لديه القرص المدمج وهو يحتوي على مخطوطة الديوان لغرض نشره.
وبعد أن عدتُ إلى دار غربتي بمدة ليست قصيرة كتبت إلى الأستاذ أسأله عما تم بهذا الشأن، فتفضل بالجواب، وكان اعتذاراً عن طبع "بكاء النخيل" لأن الدار مشغولة هذا العام بطبع سِواه.
أشهد أنني لم أدفع له مالاً على سبيل المقدمة، ولم أسأله عن الحقوق المادية في اللقاء الأول، على أنْ يكون هذا بعد الاطلاع على نص الديوان والموافقة على طبعه"
انتظار.. دون اعتذار
ونبقى مع الدكتور رحيم في الأردن.. للمرّة الثانية:"اتفقتُ مع صاحب دار نشر أخرى في عمّان، وهو رجل خيِّر كما يبدو لأول وهلة، على طبع كتابي "رثاء النفس في الشعر الأندلسي"، ووافقت على جميع شروطه بما في ذلك حصولي على خمس عشرة نسخة فقط من الكتاب هدية المؤلف من الدار!، ولا بأس فالأهم عندي أن يُطبع الكتاب وهو من مؤلفاتي التي أعتز بها جداً، وكانت أستاذة وزميلة فاضلة معروفة بفضلها وعلمها قد أرشدتني إليه وكان طبعَ لها كتاباً أو أكثر من كتاب، كما غرَّني قوله لي في أول لقاء بيننا: "جئتَ إلى المكان الصحيح يا دكتور".
طُبع "رثاء النفس" في مفتتح العام 2007 بعد معاناة طويلة الأمد سببها كثرة المواعيد ومخالفتها، وأخذ يدور في معارض الكتب العربية، وصرتُ أتصل بـ"الرجل الخيِّر" عبر نداءات دولية أسأله عن حقوقي المادية المنصوص عليها في العقد، فتتكرر تسويفاته ومواعيده، فمرة يطلب مهلة أسبوع، فأسبوعين، فمعرض كتاب قادم، فمعرضين، فثلاثة، حتى إنني زرت عمان فاتصلت به من هناك فوعدني بالمجئ للقائه في مكتبه وجئت إلى الموعد وانتظرتُ طويلاً فلم يجئ ولا تحامل على نفسه بالاتصال والاعتذار!"
شعور بالإهانة.. ورثاء
ويُكمل:"أخذتُ أتصل به هاتفياً من السويد فلا يرد، وأكتب له رسائل تلفونية فيهمل الرد على بعضها ويرد على البعض الآخر، ففي السادس من شهر أكتوبر 2008 كتب لي رسالة تلفونية بلهجته نصها: "بأكد انو حقك حيصلك في الحد الأعلى عند معرض القاهرة"، وبعد ثلاثة أيام كتب لي "اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك وأعنّا على السداد يا رب"، فاستبشرتُ خيراً كثيراً من الرجل الخيِّر هذا، وانتظرتُ افتتاح معرض الكتاب في القاهرة، ثم مضى ومضت بعده عدة أسابيع ولم يصدر من الرجل الخيِّر أي خبر، فبعثتُ إليه برسالة أذكّره فلعله نسي، فجاء رده في رسالة في الخامس من شهر آذار/ مارس 2009 يقول فيها: "أهلاً وسهلاً دكتور خلال أسبوع يكون بحسابك فلوس"، وقد أوشك العام على الانتهاء وحسابي المصرفي ينتظر فلوس الرجل الخيِّر، ولعله سيبقى منتظراً إلى الأبد. شعرتُ بالإهانة ورثيتُ نفسي بسبب كتاب "رثاء النفس"!.... "
هُنا يؤكّد الدّكتور مقداد رحيم: "بعد هذا قررتُ ألاّ أوقع أي عقد مع أي ناشر عربي، فما الفائدة من توقيع العقود إنْ لم تكن لمجرد الذكرى؟!" ويختم حديثه بقوله: "وهناك تجارب، أو إخفاقات أخرى لم أشأ أن أتحدث عنها لأنها تمس من كنتُ أعُدّهم أصدقاء أوفياء"
المزيد... (http://www.nawafnet.ws/msg-4586.htm)