صقر الجنوب
05/07/2005, 02:11 PM
التعريف بقبيلتي غامد وزهران
بقلم الاستاذ المؤرخ /
علي بن محمد بن سدران الزهراني
تاريخ غامد وزهران
منطقة الباحة من كبريات مناطق المملكة ، تقع في الجنوب الغربي للمملكة ، يقطنها ، حسب تقديرات الأمارة ما يقارب من مليون نسمة يتوزعون على ما يقارب ألفي قرية في السراة وتهامة والبادية ، تعود هذه القرى لقبائل ترجع جميعها إلى قبيلة الأزد العربية .
وسيتم الحديث في هذا المحور عن القبائل التي تنطوي إدارياً تحت إمارة منطقة الباحة ، وأكبرها قبيلتي غامد وزهران.
التعريف بقبيلتي غامد وزهران
غامد وزهران قبيلتان عربيتان أزديتان تجتمعان في كعب بن الحارث الأزدي ، وتعودان في أصلهما إلى يعرب بن قحطان ، كانت منازلهما إلى جانب منازل بقية عشائر الأزديين في سبأ جنوب الجزيرة العربية ، حيث الجنات التي كانت تُسقى بمياه سد مأرب الشهير ، قال تعالى: } لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ[1]{ .
ولقد كانوا في أنعم حال واسرّ بال إلى أن ضعفت جدران السد بسبب كفرهم بالله كما قال تعالى : } فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ [2] { .
بالإضافة إلى عدم تعهده من قبلهم بالصيانة ، فلما رأوا أنه آخذ في التداعي رحلت جموع الأزد قبيل انهدامه بوقت قصير ، واستقرت قبيلتا غامد وزهران على مواقعهما الحالية من جبال السروات وما يليها من أرض تهامة في أقصى جنوب الحجاز بعد أن اتفقتا هي والجموع المهاجرة مع قبيلة بجيلة على زحزحة قبيلة خثعم عنها ، ونزلت بطون الحجر (باللسمر وباللحمر وبنو عمرو وبنو شهر) في منازلها التي هي عليها في هذا الوقت ، وسارت بقية قبائل الأزد نحو الشمال فنزلت خزاعة مكة المكرمة فيما واصلت غسان سيرها حتى حطت رحالها في المدينة المنورة ونزل بقيتهم وهم من أولاد جفنة بلاد الشام .
ويحسن أن نورد أسماء تلك الجموع الأزدية المهاجرة من سبأ وأماكن استقرارها كما جاء عن الهمداني إذْ يقول : فأما ساكن عُمَان من الأزد ؛ فيحمد وحدان ومالك والحارث وعتيك وجديد ، وأما من سكن الحيرة والعراق فدوس ، وأما من سكن الشام فآل الحارث : محرق وآل جفنة وبني عمرو ، وأما من سكن المدينة فالأوس والخزرج ، وأما من سكن مكة فخزاعة وأما من سكن السروات فالحجر بن الهنو ، ولهب ، وناه ، وغامد ، ومن دوس ، وشكر ، وبارق السوداء ، وحاء ، وعلي بن عثمان، والنمر، وحوالة ، وثمالة ، والبقوم ، وشمران وعمرو
ولحق كثير من ولد نصر بن الأزد بنواحي الشحر وريسوت وأطراف بلد فارس فالجويم فموضع
آل الجلندي ([3]) .
واشتهر سكان هذه السروات بالفصاحة وحسن البيان ، ومما قاله عنهم الهمداني في معرض حديثه عن فصاحة أهل الجزيرة " ثم الفصاحة من العرض في وادعة ، فجنب ، فيام ، فزبيد ، فبنى الحارث مما اتصل ببلد شاكر من نجران إلى أرض يام فأرض سنحان فأرض نهد وبني أسامة فعنْز فخثعم فهلال فعامر بن ربيعة فسراة الحجر فدوس فغامد فشكر ففهم فثقيف فبجيلة فبنو علي ، غير أن أسافل سروات هذه القبائل ما بين سراة خولان والطائف دون أعاليها في الفصاحة "([4]) .
وقد عدّ بعض علماء النسب الأزد ستاً وعشرين قبيلة هي : جفنة ، وغسان ، والأوس ، والخزرج ، وخزاعة ، ومازن ، وبارق ، وألمع ، والحجر ، والعتيك (العتيق) ، وراسب ، وغامد ووالبة ، و ثمالة ، ولهب ، وزهران ، ودهمان ، والحدان ، وشكر ، و عك ، ودوس ، وفهم ، والجهاضم ، والأشاقر ، والقسامل ، والفراهيد ([5]) .
وصنف المؤرخون هذه القبائل إلى أربع مجموعات رئيسة ([6]) ، تبعاً لتقارب أنساب أفرادها وهي : أزد السراة : وهم الذين أقاموا في سراة اليمن .
وأزد عُمَان ( أزد العتيك) وهم الذين استوطنوا : أرض عُمَان السلطنة المعروفة .
وأزد شنوءة : وهم الذين أقاموا في سراة الحجاز وعسير ، ومن هؤلاء قبائل زهران ، وغامد .
وأزد غسان : ومنهم الذين نزلوا مكة ( وهم خزاعة ) ، والمدينة وهم الأوس والخزرج ، وحلت بقيتهم أرض الشام ومنهم آل جفنة .
وكان لرجال الأزد في الجاهلية أدوار بارزة في التاريخ حيث حلوا منه في المقام الأعلى، فكانت خزاعة والية للبيت الحرام في عهد ملكهم عمرو بن لحي الأزدي ، الذي استهوته الشياطين فكان أول من غير دين إبراهيم عليه السلام ، ونصب الأوثان ودعا العرب إلى عبادتها حيث أتى بِهُبَل من الشام ونصبه على البئر التي كانت في بطن الكعبة ([7]) . كما أنه أول من سيب السائبة ووصل الوصيلة ، وبحر البحيرة ، وحمى الحامي ، وفيه يقول الرسول r : ) رفعت لي النار فرأيت عمرا رجلاً قصيراً أحمر أزرق يجر قصبه في النار . قلت : من هذا ؟ قيل : هذا عمرو بن لحي ، أول من بحر البحيرة ووصل الوصيلة وسيب السائبة وحمى الحامي وغيرّ دين إبراهيم ودعا العرب إلى عبادة الأوثان00[8](. وقال تعالى : ) مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [9]( .
وكان لآل جفنة مملكة عريضة بأرض الشام ومنهم جبلة بن الأيهم الغساني المتنصر بعد إسلامه في خلافة عمر بن الخطاب t .
ويحدثنا التاريخ عن نشوء مملكتين لبطون زهران المهاجرة من ديارهم . إحداهما في عُمان ، ذلك البلد المطل على بحر العرب ، امتدت إلى ما بعد مجئ النبي r ، ومن ملوكها : الجلندي بن كركر الزهراني الذي تملَّك على عُمان السلطنة المعروفة حالياً في زمن النبي موسى عليه السلام وكان فيما يبدو جباراً من جبابرة ملوك ذلك الزمان حتى ضرب به المثل فقيل : أعدى من الدهر ومن التمساح ومن الجلندا ([10]) ، إذْ كان يعشر التجار ويَغْيرُ في البحر وكل سفينة تروق له يغتصبها من أصحابها ، وقد ذكره الله تعالى في القرآن المجيد حيث قال عز من قائل : )أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [11]( .
ومن نسله ، كما ذكر زكريا بن محمد القزويني، جمع بأرض فارس يقال لهم آل عمارة، لهم
مملكة عريقة على سيف البحر زعموا أن ملكهم كان قبل موسى عليه السلام ، وإلى زماننا هذا لهم بأس ومنعة وإرصاد البحر وعشور السفن ([12]) .
ومن ملوك هذه المملكة زمن النبي r : الجلندي بن المستكبر بن مسعود بن الجرار بن عبدالعزى بن معولة بن شمس بن عمرو بن غانم بن غالب عثمان بن نصر بن زهران ([13]) .
وولداه جيفر وعبد ، وقد أكرمهما الله بالإسلام في السنة الثامنة للهجرة على يد عمرو بن العاص t ([14]) . وفيما يلي صيغة كتاب النبي r الذي حمله عمرو بن العاص إليهما :
)بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد بن عبدالله إلى جيفر وعبد ([15]) ابني الجلندي ، سلام الله على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوكما بدعاية الإسلام ، أسلما تسلما ، فإني رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ، فإنكما إن أقررتما بالإسلام ولّيتكما ، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام ، فإن ملككما زائل عنكما ، وخيلي يحل بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما ( . وكتب أبي بن كعب ، وختم الكتاب ([16]) .
والمملكة الثانية أنشئت في الحيرة في العراق قُضي عليها قبل الرسالة المحمدية . ومن أشهر ملوكها جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران . المعروف بجذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش . وقد أرَّخ بعضهم مجيئه بعد عيسى ، عليه السلام، بثلاثين سنة. كان جذيمة الوضاح من أفضل ملوك العرب رأياً ، وأبعدهم مغاراً ، وأشدهم نكاية ، وأظهرهم حزماً ، وهو أول من اسُتجْمِعُ له الملك بأرض العراق ، وضم إليه العرب ، وغزا بالجيوش ، وأول من احتذى النعال ، ورفع له الشمع ، ورمى بالمنجنيق ، وكانت تجبى إليه الأموال ، وتفد إليه الوفود ([17]) .
أما في ديارهما بأرض السراة فكان لكل قبيلة ، ولا يزال شيخ من بين أبنائها ، من ذوي الغنى والجاه وكان يقال له الرئيس .
ولما جاء الإسلام سارعت قبائل الأزد إلى اعتناقه ، وتسابقت القبائل الأزدية إلى أن تنال شرف إيواء الرسول r ونصرته بعد أن عاداه قومه ، فعرض الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني t على النبي r استضافته في دوس قائلاً له : هلم إلى حصن حصين ، وعدد وعدة - قال أبو الزبير الدوسي : حصن في رأس جبل لا يؤتى إلا مثل الشراك- فأبى ذلك رسول الله r ، للذي ذخر الله للأنصار ([18]) . فهنيئا للأوس والخزرج حيازة ذلك الشرف العظيم .
وسارعت قبيلتا زهران وغامد إلى الدخول في هذا الدين الجديد والرسول r لم يزل في مكة يدعو الناس سلماً كما سيأتي ، ورحل إليه آنذاك من زهران : الطفيل بن عمرو وأبو هريرة ، الدوسيان الزهرانيان رضي الله عنهما . كما رحل إليه من غامد أبو ظبيان الأعرج وعمير بن الحارث ، الغامديان رضي الله عنهما في جماعة من قومهما . وبدأت هجرة أبناء زهران وغامد الجماعية منذ السنة السابعة للهجرة لينالوا شرف الصحبة والمشاركة في رفع راية الجهاد ونشرها ،ولقد انخرط رجال القبيلتين في صفوف الأمة الإسلامية المجاهدة في الشام والعراق ومصر وفارس وما وراء فارس . وكان منهم الصحابي الجليل ، والقائد المحنك ، والوالي العادل ، والفارس الشجاع ، والمحدث البارع ، والفقيه المجتهد ، والحافظ الثقة ، والأديب الأريب ، والكريم الفياض ، والشاعر المبدع ، والخطيب المصقع ، والطبيب الحاذق .
فمن الصحابة من زهران ، على سبيل المثال لا الحصر : أبو هريرة الدوسي t أكثر الصحابة حفظا لحديث رسول الله r . والطفيل بن عمرو الدوسي t سيد دوس والذي استصدر موافقة الرسول r على أن يجعل شعار الأزد في المعارك لفظة (مبرور) . ومعيقيب بن أبي فاطمة الزهراني t ، الذي كان على خاتم رسول الله r ، وكان على بيت المال في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم . وجنادة بن أبي أمية t أمير البحر في عهد معاوية بن أبي سفيان t . وجندب بن عمرو بن الطفيل الدوسي t ، الفارس الذي أرسله النبي r وهو يقاتل يهود في خيبر إلى قومه يستمدهم فقال عمرو t : قد نشب القتال يا رسول الله تغيبني عنه ! فقال الرسول r: ) أما ترضى أن تكون رسول رسول الله [19]( ؟ . والحارث بن عبدالله النمري الزهراني t ، مستشار خالد بن الوليد t . وسعد بن أبي ذباب الدوسي t أمير دوس في الجاهلية والإسلام والذي قال لرسول الله r حين أسلم : اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم . ففعل رسول الله r . والطفيل بن عبدالله بن الحارث بن سخبرة الزهراني t ، أخو عائشة بنت أبي بكر من أمها أم رومان رضي الله عنها .
ومن الصحابة من قبيلة غامد : أبو ظبيان الأعرج الغامدي t ، رئيس وفد قومه إلى النبي r
وفارسها الذي لا يُجارى ، وهو الذي مشى إلى الأسد راجلاً فقتله . وجندب بن زهير الغامدي t ، الذي كانت تتحاشاه الفرسان في المعارك ، فقد ذكر ابن دريد في أماليه بسنده إلى يونس قال : كان عبدالله بن الزبير اصطفنا يوم الجمل وكان في جيش عائشة رضي الله عنها ، فخرج علينا صائح كالمنتصح من أصحاب علي t فقال : يا معشر فتيان قريش أحذركم رجلين جندب بن زهير الغامدي والأشتر ، فلا تقوموا لسيوفهما . وجندب بن كعب الغامدي t ، قاتل الساحر في عهد عثمان بن عفان t ، وسفيان بن عوف الغامدي t أمير البحر في عهد معاوية بن أبي سفيان t وهو الذي ذكره علي بن أبي طالب t في إحدى خطبه بقوله : وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار ..، ومخنف بن سليم الغامدي t ، بيت الأزد بالكوفة والوالي على أصفهان وهمدان في عهد علي بن أبي طالب t وكان على رأس قومه في معركة الجمل مع علي بن أبي طالب t . وصخر بن وداعة الغامدي t ، التاجر المعروف في أول الإسلام .
أما من التابعين فمن زهران : كعب بن سور الزهراني ، ثاني قضاة الإسلام في البصرة في عهد عمر بن الخطاب t . وسليمان بن حرب الواشحي الزهراني ، أحد رواة الحديث . ويوسف بن محمد المغامي الزهراني ، صاحب التصانيف في الفقه المالكي . وعقبة بن سلم الهنائي الزهراني ، ولي البصرة والبحرين في عهد أبي جعفر المنصور . وصبرة بن شيمان الحداني الزهراني زعيم الأزد أيام الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ، وهو الذي استجار به زياد بن أبيه حين تولى البصرة من قبل معاوية بن أبي سفيان t . والعالم اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي الزهراني ، صاحب علم العروض ، ومخترع حركات الإعراب (الفتحة والضمة والكسرة والسكون) وكذلك الشدة والهمزة . وكل هذه لم تكن موجودة في الحرف العربي حتى جاء الخليل ، وقد خدم بها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وكتب الأدب وغيرها [20] .
ومن التابعين من قبيلة غامد : محمد بن عمار الغامدي ، أحد رواة الحديث . وعبدالرحمن بن
نعيم الغامدي ، من وجوه خراسان وأحد ولاة عمر بن عبد العزيز رحمه الله على خراسان ،
وعبدالرحمن بن مخنف الغامدي ، يضرب به المثل في الشرف وعلو المنزلة ، يقول رجل من غامد لرجل يعاتبه :
تروح وتغدو كل يوم معظَّما
كأنك فينا مخنف وابن مخنف
ولوط بن يحيى الغامدي أحد علماء التاريخ والسير , وقد نقل عنه ابن جرير الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك ، وابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ ، وابن كثير في كتابه البداية والنهاية ، وغيرهم .
هذا غيض من فيض أولئك الأفذاذ الذين ساهموا بأرواحهم وأموالهم وأقلامهم في خدمة الإسلام والمسلمين ، وقد كانوا بحق حماة للدِّين وعوناً لولاة أمور المسلمين منذ بزوغ فجر الإسلام ، وسيكون أحفادهم كذلك بإذن الله ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
ويكفي الأزد فخرا بعد إسلامهم قول المصطفى r : )الملك في قريش ، والقضاء في الأنصار ، والأذان في الحبشة ، والأمانة في الأزد( .[21] كما صح عن أنس بن مالك t قوله : إن لم نكن من الأزد فلسنا من الناس [22] .
ومن المعلوم أن هاتين القبيلتين كانتا قبل الإسلام تُحكم بواسطة أمراء من أبنائها شأنها في ذلك شأن القبائل العربية الأخرى التي كانت تأنف حكم أحد من غير أفرادها ، وقد عرفنا من بين أمراء القبيلتين على سبيل المثال : سعد بن أبي ذباب الدوسي الزهراني كان على دوس ، وعمير بن الحارث الغامدي كان على غامد ، ولما جاء الإسلام أقرهما الرسول r على ما كانا عليه ، وكانت القبيلتان في صدر الإسلام مرتبطتين إدارياً بالطائف التابعة بدورها لولاية مكة المكرمة , ودليلنا في ذلك أنه لما توفي الرسول r كان على الطائف عثمان بن أبي العاص الثقفي t فبعث من أهل الطائف بعثاً إلى شنوءة وقد تجمعت بها جماع من الأزد وبجيلة وخثعم عليهم حميضة بن النعمان ، وعلى أهل الطائف عثمان بن ربيعة ، فهزموا تلك الجماع .
واستمر عثمان بن أبي العاص t والياً على الطائف والأزد مدة خلافة أبي بكر الصديق t , ولما تولى الخلافة عمر بن الخطاب t عزله وسيره أميراً على أرض عمان والبحرين وذلك سنة خمس عشرة[23] . ويغلب على الظن أن القبيلتين بقيتا على تبعيتهما للطائف في العهد الأموي ولا سيما في عهد والى الطائف عتبة بن أبي سفيان ، إذ كان ولاة الطائف يشرفون على عالية نجد وعلى السراة [24] . ثم يضن التاريخ بمعلوماته التاريخية عن أخبار هاتين القبيلتين إلى أن تأتي دولة بني العباس فنجد أن المهدي يعين في خلافته على السراة عبدالرحمن بن عبدالله بن النعمان الدوسي [25] الذي قُتل في معركة مع أمير عسير علي بن محمد بعد سنة 169 من الهجرة [26] .
ولما استقل الأشراف بحكم الحجاز في القرن الرابع الهجري كان الحكم على هاتين القبيلتين من قبلهم اسمياً لصعوبة وصول الجيوش آنذاك إلى هذه المناطق الجبلية الوعرة ، فكان أمر قبائل عسير والسراة لشيوخهما [27] . ولا نكاد نعرف بعد هذا التاريخ إلاَّ نتفاً من صراع إمارتي آل عائض بعسير والأشراف بمكة على حيازة أملاك هاتين القبيلتين إلى أن يطل العهد السعودي الزاهر فنجد أن قبيلتي زهران وغامد من أوائل القبائل التي بايعت الحكام السعوديين منذ نشوء حكومتهم في دورها الأول ، فهاهو مثلا الشيخ علي القفعي شيخ قبائل بني أوس (بني يوس) بزهران ، يتلقى منشوراً من الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد ، يحوي باقة من التوجيهات الدينية التي ينبغي أن يسير عليها الأمراء ، ثم يأمر في ذلك المنشور بتعيينه أميراً على العامة في بلاد زهران[28] ، بينما يقود الأمير بخروش بن علاَّس الزهراني أمير قبائل بني عمر ، جيشاً مؤلفا من أبناء غامد وزهران وينضم بهم إلى جيش الإمام فيصل بن سعود لمحاربة محمد علي باشا في بسل قرب بلدة تربة وذلك في أول سنة ألف ومائتين وثلاثين للهجرة [29] . وتدخل القبيلتان بعد ذلك في صراع عنيف مع جيوش الدولة العثمانية التي حاولت السيطرة عليها ولم تفلح بحمد الله تعالى في ذلك ، حيث هُزمت جيوشها المدربة هزيمة منكرة سنة 1321 هجرية . وبعد هذا التاريخ نرى حكومات ذلك العصر (الأشراف وآل عائض والأدارسة) تحاول السيطرة على هاتين القبيلتين مما جعلهما عرضة للدمار والتخلف الاقتصادي بسبب ما ينشأ على أراضيهما من حروب بين تلك الحكومات المتصارعة . وما إن أشرقت شمس عام 1338 هجرية حتى سارع الشيخان راشد بن جمعان بن رقوش شيخ شمل قبائل زهران ، والشيخ محمد بن عبدالعزيز الغامدي ، شيخ شمل قبائل غامد ، إلى البيعة لملك البلاد الجديد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ، فتنعم القبيلتان منذ ذلك التاريخ بالأمن والاستقرار والرخاء . ويشارك أبناء القبيلتين غيرهم من أبناء قبائل المملكة العربية السعودية في مسيرة البناء الحضاري لهذا المجتمع الذي مزقته الحروب قرونا عديدة ، ومن المشاركات التي تحدث عنها التاريخ لأبناء هاتين القبيلتين احتفالهما سنة 1369 هجرية ، بمرور خمسين عاماً [30] على فتح الرياض على يد صقر الجزيرة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود يرحمه الله سنة 1319 هجرية والذي كان فاتحة عهد جديد لفتوحات تتابعت وانتهت بإعلان توحيد هذا الكيان الشامخ تحت مسمى (المملكة العربية السعودية) . وابتهاجا بعودة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود من جمهورية مصر العربية سنة 1365 هجرية ، ساهمت القبيلتان في بناء مستشفى بمكة المكرمة[31] .
وعندما صنفت المملكة إلى مناطق إدارية كانت القبيلتان تشكلان إحدى مناطق المملكة ، حيث سميت (منطقة الباحة) ، وفيما يلي لمحة موجزة تتعلق بنسب وإسلام القبيلتين .
[1]سورة سبأ : الآية رقم : 15 .
[2]سورة سبأ آية رقم : 16 .
[3] صفة جزيرة العرب : 374 .
[4] صفة جزيرة العرب : 279 .
[5]المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام : 4/441 .
[6]انظر المصدر السابق : 4/441 ، معجم البلدان : 3/369 .
[7] الأصنام : 8 . وأخبار مكة للأزرقي : 1/116 .
[8]الأصنام : 58 ، أخبار مكة للأزرقي : 1/116 ، والقصب : الأمعاء .
[9]سورة المائدة آية رقم : 103 . البحيرة التي يمنع درّها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة: التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء ، والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإِبل بأنثى، ثم تثني بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى ليس بينهما ذكر . والحام : فحل الإِبل يضرب الضراب المعدود ، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل عليه فلا يحمل عليه شيء وسموه الحامي .
[10] انظر محاضرات الأدباء : 1/ 218 .
[11]سورة الكهف من الآية رقم : 79 .
[12]آثار البلاد وأخبار العباد : 235 .
[13] السيرة النبوية :4/ 607 ، تاريخ الطبري : 3/ 29، 95 ، أسد الغابة في معرفة الصحابة
ببعض الاختلاف : 1/ 313 ، تاريخ ابن خلدون : 2/ 562 . ، في سراة غامد وزهران : 242 .
[14] الإصابة في تمييز الصحابة : 1/ 262 ، 1/264 . الاستيعاب : 1/ 261 .
[15] تسميه بعض الكتب : عياذا ، انظر مثلا : الكامل لابن الأثير: 2/ 232 ، فتح الباري : 8/ 76 ، السيرة النبوية : 4/ 607 ، الإصابة في تمييز الصحابة : 3/ 123 .
[16] زاد المعاد في هدي خير العباد : 3/693 .
[17] الأوائل : 50 . وكتاب الاختيارين : 718 . وتاريخ الطبري : 1/610 وما بعدها . والأصفهاني : 15/250 وما بعدها .
[18] الأنساب للسمعاني ورقة : 232 .
[19] أسد الغابة في معرفة الصحابة : 4/115 .
[20] المحكم في نقط المصحف : 6 . و فصول في اللغة العربية : 400 .
[21] صحيح سنن الترمذي ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني : 3/251 .
[22] صحيح سنن الترمذي ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني : 3/252 .
[23] تاريخ الطبري : 3/142 ، والطبقات : 4/64/ق2 ، والتاريخ الكبير : 4/45/ق2/ج2 ، والاستيعاب : 2/60 ، 26 .
[24] تاريخ الدولة السعودية : 1/21 .
[25] جمهرة أنساب العرب : 2/382 .
[26] امتاع السامر : 9 .
[27] تاريخ الدولة السعودية : 1/22 ، 33 .
[28] مكتبة الأستاذ : عبدالرحمن بن خميس القفعي .
[29] عنوان المجد في تاريخ نجد : 1/244 .
[30] مكتبة الشبخ سعيد بن جمعان السبيحي ، شيخ قبيلتي بني حرير وبني عدوان .
منقول
بقلم الاستاذ المؤرخ /
علي بن محمد بن سدران الزهراني
تاريخ غامد وزهران
منطقة الباحة من كبريات مناطق المملكة ، تقع في الجنوب الغربي للمملكة ، يقطنها ، حسب تقديرات الأمارة ما يقارب من مليون نسمة يتوزعون على ما يقارب ألفي قرية في السراة وتهامة والبادية ، تعود هذه القرى لقبائل ترجع جميعها إلى قبيلة الأزد العربية .
وسيتم الحديث في هذا المحور عن القبائل التي تنطوي إدارياً تحت إمارة منطقة الباحة ، وأكبرها قبيلتي غامد وزهران.
التعريف بقبيلتي غامد وزهران
غامد وزهران قبيلتان عربيتان أزديتان تجتمعان في كعب بن الحارث الأزدي ، وتعودان في أصلهما إلى يعرب بن قحطان ، كانت منازلهما إلى جانب منازل بقية عشائر الأزديين في سبأ جنوب الجزيرة العربية ، حيث الجنات التي كانت تُسقى بمياه سد مأرب الشهير ، قال تعالى: } لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ[1]{ .
ولقد كانوا في أنعم حال واسرّ بال إلى أن ضعفت جدران السد بسبب كفرهم بالله كما قال تعالى : } فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ [2] { .
بالإضافة إلى عدم تعهده من قبلهم بالصيانة ، فلما رأوا أنه آخذ في التداعي رحلت جموع الأزد قبيل انهدامه بوقت قصير ، واستقرت قبيلتا غامد وزهران على مواقعهما الحالية من جبال السروات وما يليها من أرض تهامة في أقصى جنوب الحجاز بعد أن اتفقتا هي والجموع المهاجرة مع قبيلة بجيلة على زحزحة قبيلة خثعم عنها ، ونزلت بطون الحجر (باللسمر وباللحمر وبنو عمرو وبنو شهر) في منازلها التي هي عليها في هذا الوقت ، وسارت بقية قبائل الأزد نحو الشمال فنزلت خزاعة مكة المكرمة فيما واصلت غسان سيرها حتى حطت رحالها في المدينة المنورة ونزل بقيتهم وهم من أولاد جفنة بلاد الشام .
ويحسن أن نورد أسماء تلك الجموع الأزدية المهاجرة من سبأ وأماكن استقرارها كما جاء عن الهمداني إذْ يقول : فأما ساكن عُمَان من الأزد ؛ فيحمد وحدان ومالك والحارث وعتيك وجديد ، وأما من سكن الحيرة والعراق فدوس ، وأما من سكن الشام فآل الحارث : محرق وآل جفنة وبني عمرو ، وأما من سكن المدينة فالأوس والخزرج ، وأما من سكن مكة فخزاعة وأما من سكن السروات فالحجر بن الهنو ، ولهب ، وناه ، وغامد ، ومن دوس ، وشكر ، وبارق السوداء ، وحاء ، وعلي بن عثمان، والنمر، وحوالة ، وثمالة ، والبقوم ، وشمران وعمرو
ولحق كثير من ولد نصر بن الأزد بنواحي الشحر وريسوت وأطراف بلد فارس فالجويم فموضع
آل الجلندي ([3]) .
واشتهر سكان هذه السروات بالفصاحة وحسن البيان ، ومما قاله عنهم الهمداني في معرض حديثه عن فصاحة أهل الجزيرة " ثم الفصاحة من العرض في وادعة ، فجنب ، فيام ، فزبيد ، فبنى الحارث مما اتصل ببلد شاكر من نجران إلى أرض يام فأرض سنحان فأرض نهد وبني أسامة فعنْز فخثعم فهلال فعامر بن ربيعة فسراة الحجر فدوس فغامد فشكر ففهم فثقيف فبجيلة فبنو علي ، غير أن أسافل سروات هذه القبائل ما بين سراة خولان والطائف دون أعاليها في الفصاحة "([4]) .
وقد عدّ بعض علماء النسب الأزد ستاً وعشرين قبيلة هي : جفنة ، وغسان ، والأوس ، والخزرج ، وخزاعة ، ومازن ، وبارق ، وألمع ، والحجر ، والعتيك (العتيق) ، وراسب ، وغامد ووالبة ، و ثمالة ، ولهب ، وزهران ، ودهمان ، والحدان ، وشكر ، و عك ، ودوس ، وفهم ، والجهاضم ، والأشاقر ، والقسامل ، والفراهيد ([5]) .
وصنف المؤرخون هذه القبائل إلى أربع مجموعات رئيسة ([6]) ، تبعاً لتقارب أنساب أفرادها وهي : أزد السراة : وهم الذين أقاموا في سراة اليمن .
وأزد عُمَان ( أزد العتيك) وهم الذين استوطنوا : أرض عُمَان السلطنة المعروفة .
وأزد شنوءة : وهم الذين أقاموا في سراة الحجاز وعسير ، ومن هؤلاء قبائل زهران ، وغامد .
وأزد غسان : ومنهم الذين نزلوا مكة ( وهم خزاعة ) ، والمدينة وهم الأوس والخزرج ، وحلت بقيتهم أرض الشام ومنهم آل جفنة .
وكان لرجال الأزد في الجاهلية أدوار بارزة في التاريخ حيث حلوا منه في المقام الأعلى، فكانت خزاعة والية للبيت الحرام في عهد ملكهم عمرو بن لحي الأزدي ، الذي استهوته الشياطين فكان أول من غير دين إبراهيم عليه السلام ، ونصب الأوثان ودعا العرب إلى عبادتها حيث أتى بِهُبَل من الشام ونصبه على البئر التي كانت في بطن الكعبة ([7]) . كما أنه أول من سيب السائبة ووصل الوصيلة ، وبحر البحيرة ، وحمى الحامي ، وفيه يقول الرسول r : ) رفعت لي النار فرأيت عمرا رجلاً قصيراً أحمر أزرق يجر قصبه في النار . قلت : من هذا ؟ قيل : هذا عمرو بن لحي ، أول من بحر البحيرة ووصل الوصيلة وسيب السائبة وحمى الحامي وغيرّ دين إبراهيم ودعا العرب إلى عبادة الأوثان00[8](. وقال تعالى : ) مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [9]( .
وكان لآل جفنة مملكة عريضة بأرض الشام ومنهم جبلة بن الأيهم الغساني المتنصر بعد إسلامه في خلافة عمر بن الخطاب t .
ويحدثنا التاريخ عن نشوء مملكتين لبطون زهران المهاجرة من ديارهم . إحداهما في عُمان ، ذلك البلد المطل على بحر العرب ، امتدت إلى ما بعد مجئ النبي r ، ومن ملوكها : الجلندي بن كركر الزهراني الذي تملَّك على عُمان السلطنة المعروفة حالياً في زمن النبي موسى عليه السلام وكان فيما يبدو جباراً من جبابرة ملوك ذلك الزمان حتى ضرب به المثل فقيل : أعدى من الدهر ومن التمساح ومن الجلندا ([10]) ، إذْ كان يعشر التجار ويَغْيرُ في البحر وكل سفينة تروق له يغتصبها من أصحابها ، وقد ذكره الله تعالى في القرآن المجيد حيث قال عز من قائل : )أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [11]( .
ومن نسله ، كما ذكر زكريا بن محمد القزويني، جمع بأرض فارس يقال لهم آل عمارة، لهم
مملكة عريقة على سيف البحر زعموا أن ملكهم كان قبل موسى عليه السلام ، وإلى زماننا هذا لهم بأس ومنعة وإرصاد البحر وعشور السفن ([12]) .
ومن ملوك هذه المملكة زمن النبي r : الجلندي بن المستكبر بن مسعود بن الجرار بن عبدالعزى بن معولة بن شمس بن عمرو بن غانم بن غالب عثمان بن نصر بن زهران ([13]) .
وولداه جيفر وعبد ، وقد أكرمهما الله بالإسلام في السنة الثامنة للهجرة على يد عمرو بن العاص t ([14]) . وفيما يلي صيغة كتاب النبي r الذي حمله عمرو بن العاص إليهما :
)بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد بن عبدالله إلى جيفر وعبد ([15]) ابني الجلندي ، سلام الله على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوكما بدعاية الإسلام ، أسلما تسلما ، فإني رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ، فإنكما إن أقررتما بالإسلام ولّيتكما ، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام ، فإن ملككما زائل عنكما ، وخيلي يحل بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما ( . وكتب أبي بن كعب ، وختم الكتاب ([16]) .
والمملكة الثانية أنشئت في الحيرة في العراق قُضي عليها قبل الرسالة المحمدية . ومن أشهر ملوكها جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران . المعروف بجذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش . وقد أرَّخ بعضهم مجيئه بعد عيسى ، عليه السلام، بثلاثين سنة. كان جذيمة الوضاح من أفضل ملوك العرب رأياً ، وأبعدهم مغاراً ، وأشدهم نكاية ، وأظهرهم حزماً ، وهو أول من اسُتجْمِعُ له الملك بأرض العراق ، وضم إليه العرب ، وغزا بالجيوش ، وأول من احتذى النعال ، ورفع له الشمع ، ورمى بالمنجنيق ، وكانت تجبى إليه الأموال ، وتفد إليه الوفود ([17]) .
أما في ديارهما بأرض السراة فكان لكل قبيلة ، ولا يزال شيخ من بين أبنائها ، من ذوي الغنى والجاه وكان يقال له الرئيس .
ولما جاء الإسلام سارعت قبائل الأزد إلى اعتناقه ، وتسابقت القبائل الأزدية إلى أن تنال شرف إيواء الرسول r ونصرته بعد أن عاداه قومه ، فعرض الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني t على النبي r استضافته في دوس قائلاً له : هلم إلى حصن حصين ، وعدد وعدة - قال أبو الزبير الدوسي : حصن في رأس جبل لا يؤتى إلا مثل الشراك- فأبى ذلك رسول الله r ، للذي ذخر الله للأنصار ([18]) . فهنيئا للأوس والخزرج حيازة ذلك الشرف العظيم .
وسارعت قبيلتا زهران وغامد إلى الدخول في هذا الدين الجديد والرسول r لم يزل في مكة يدعو الناس سلماً كما سيأتي ، ورحل إليه آنذاك من زهران : الطفيل بن عمرو وأبو هريرة ، الدوسيان الزهرانيان رضي الله عنهما . كما رحل إليه من غامد أبو ظبيان الأعرج وعمير بن الحارث ، الغامديان رضي الله عنهما في جماعة من قومهما . وبدأت هجرة أبناء زهران وغامد الجماعية منذ السنة السابعة للهجرة لينالوا شرف الصحبة والمشاركة في رفع راية الجهاد ونشرها ،ولقد انخرط رجال القبيلتين في صفوف الأمة الإسلامية المجاهدة في الشام والعراق ومصر وفارس وما وراء فارس . وكان منهم الصحابي الجليل ، والقائد المحنك ، والوالي العادل ، والفارس الشجاع ، والمحدث البارع ، والفقيه المجتهد ، والحافظ الثقة ، والأديب الأريب ، والكريم الفياض ، والشاعر المبدع ، والخطيب المصقع ، والطبيب الحاذق .
فمن الصحابة من زهران ، على سبيل المثال لا الحصر : أبو هريرة الدوسي t أكثر الصحابة حفظا لحديث رسول الله r . والطفيل بن عمرو الدوسي t سيد دوس والذي استصدر موافقة الرسول r على أن يجعل شعار الأزد في المعارك لفظة (مبرور) . ومعيقيب بن أبي فاطمة الزهراني t ، الذي كان على خاتم رسول الله r ، وكان على بيت المال في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم . وجنادة بن أبي أمية t أمير البحر في عهد معاوية بن أبي سفيان t . وجندب بن عمرو بن الطفيل الدوسي t ، الفارس الذي أرسله النبي r وهو يقاتل يهود في خيبر إلى قومه يستمدهم فقال عمرو t : قد نشب القتال يا رسول الله تغيبني عنه ! فقال الرسول r: ) أما ترضى أن تكون رسول رسول الله [19]( ؟ . والحارث بن عبدالله النمري الزهراني t ، مستشار خالد بن الوليد t . وسعد بن أبي ذباب الدوسي t أمير دوس في الجاهلية والإسلام والذي قال لرسول الله r حين أسلم : اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم . ففعل رسول الله r . والطفيل بن عبدالله بن الحارث بن سخبرة الزهراني t ، أخو عائشة بنت أبي بكر من أمها أم رومان رضي الله عنها .
ومن الصحابة من قبيلة غامد : أبو ظبيان الأعرج الغامدي t ، رئيس وفد قومه إلى النبي r
وفارسها الذي لا يُجارى ، وهو الذي مشى إلى الأسد راجلاً فقتله . وجندب بن زهير الغامدي t ، الذي كانت تتحاشاه الفرسان في المعارك ، فقد ذكر ابن دريد في أماليه بسنده إلى يونس قال : كان عبدالله بن الزبير اصطفنا يوم الجمل وكان في جيش عائشة رضي الله عنها ، فخرج علينا صائح كالمنتصح من أصحاب علي t فقال : يا معشر فتيان قريش أحذركم رجلين جندب بن زهير الغامدي والأشتر ، فلا تقوموا لسيوفهما . وجندب بن كعب الغامدي t ، قاتل الساحر في عهد عثمان بن عفان t ، وسفيان بن عوف الغامدي t أمير البحر في عهد معاوية بن أبي سفيان t وهو الذي ذكره علي بن أبي طالب t في إحدى خطبه بقوله : وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار ..، ومخنف بن سليم الغامدي t ، بيت الأزد بالكوفة والوالي على أصفهان وهمدان في عهد علي بن أبي طالب t وكان على رأس قومه في معركة الجمل مع علي بن أبي طالب t . وصخر بن وداعة الغامدي t ، التاجر المعروف في أول الإسلام .
أما من التابعين فمن زهران : كعب بن سور الزهراني ، ثاني قضاة الإسلام في البصرة في عهد عمر بن الخطاب t . وسليمان بن حرب الواشحي الزهراني ، أحد رواة الحديث . ويوسف بن محمد المغامي الزهراني ، صاحب التصانيف في الفقه المالكي . وعقبة بن سلم الهنائي الزهراني ، ولي البصرة والبحرين في عهد أبي جعفر المنصور . وصبرة بن شيمان الحداني الزهراني زعيم الأزد أيام الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ، وهو الذي استجار به زياد بن أبيه حين تولى البصرة من قبل معاوية بن أبي سفيان t . والعالم اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي الزهراني ، صاحب علم العروض ، ومخترع حركات الإعراب (الفتحة والضمة والكسرة والسكون) وكذلك الشدة والهمزة . وكل هذه لم تكن موجودة في الحرف العربي حتى جاء الخليل ، وقد خدم بها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وكتب الأدب وغيرها [20] .
ومن التابعين من قبيلة غامد : محمد بن عمار الغامدي ، أحد رواة الحديث . وعبدالرحمن بن
نعيم الغامدي ، من وجوه خراسان وأحد ولاة عمر بن عبد العزيز رحمه الله على خراسان ،
وعبدالرحمن بن مخنف الغامدي ، يضرب به المثل في الشرف وعلو المنزلة ، يقول رجل من غامد لرجل يعاتبه :
تروح وتغدو كل يوم معظَّما
كأنك فينا مخنف وابن مخنف
ولوط بن يحيى الغامدي أحد علماء التاريخ والسير , وقد نقل عنه ابن جرير الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك ، وابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ ، وابن كثير في كتابه البداية والنهاية ، وغيرهم .
هذا غيض من فيض أولئك الأفذاذ الذين ساهموا بأرواحهم وأموالهم وأقلامهم في خدمة الإسلام والمسلمين ، وقد كانوا بحق حماة للدِّين وعوناً لولاة أمور المسلمين منذ بزوغ فجر الإسلام ، وسيكون أحفادهم كذلك بإذن الله ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
ويكفي الأزد فخرا بعد إسلامهم قول المصطفى r : )الملك في قريش ، والقضاء في الأنصار ، والأذان في الحبشة ، والأمانة في الأزد( .[21] كما صح عن أنس بن مالك t قوله : إن لم نكن من الأزد فلسنا من الناس [22] .
ومن المعلوم أن هاتين القبيلتين كانتا قبل الإسلام تُحكم بواسطة أمراء من أبنائها شأنها في ذلك شأن القبائل العربية الأخرى التي كانت تأنف حكم أحد من غير أفرادها ، وقد عرفنا من بين أمراء القبيلتين على سبيل المثال : سعد بن أبي ذباب الدوسي الزهراني كان على دوس ، وعمير بن الحارث الغامدي كان على غامد ، ولما جاء الإسلام أقرهما الرسول r على ما كانا عليه ، وكانت القبيلتان في صدر الإسلام مرتبطتين إدارياً بالطائف التابعة بدورها لولاية مكة المكرمة , ودليلنا في ذلك أنه لما توفي الرسول r كان على الطائف عثمان بن أبي العاص الثقفي t فبعث من أهل الطائف بعثاً إلى شنوءة وقد تجمعت بها جماع من الأزد وبجيلة وخثعم عليهم حميضة بن النعمان ، وعلى أهل الطائف عثمان بن ربيعة ، فهزموا تلك الجماع .
واستمر عثمان بن أبي العاص t والياً على الطائف والأزد مدة خلافة أبي بكر الصديق t , ولما تولى الخلافة عمر بن الخطاب t عزله وسيره أميراً على أرض عمان والبحرين وذلك سنة خمس عشرة[23] . ويغلب على الظن أن القبيلتين بقيتا على تبعيتهما للطائف في العهد الأموي ولا سيما في عهد والى الطائف عتبة بن أبي سفيان ، إذ كان ولاة الطائف يشرفون على عالية نجد وعلى السراة [24] . ثم يضن التاريخ بمعلوماته التاريخية عن أخبار هاتين القبيلتين إلى أن تأتي دولة بني العباس فنجد أن المهدي يعين في خلافته على السراة عبدالرحمن بن عبدالله بن النعمان الدوسي [25] الذي قُتل في معركة مع أمير عسير علي بن محمد بعد سنة 169 من الهجرة [26] .
ولما استقل الأشراف بحكم الحجاز في القرن الرابع الهجري كان الحكم على هاتين القبيلتين من قبلهم اسمياً لصعوبة وصول الجيوش آنذاك إلى هذه المناطق الجبلية الوعرة ، فكان أمر قبائل عسير والسراة لشيوخهما [27] . ولا نكاد نعرف بعد هذا التاريخ إلاَّ نتفاً من صراع إمارتي آل عائض بعسير والأشراف بمكة على حيازة أملاك هاتين القبيلتين إلى أن يطل العهد السعودي الزاهر فنجد أن قبيلتي زهران وغامد من أوائل القبائل التي بايعت الحكام السعوديين منذ نشوء حكومتهم في دورها الأول ، فهاهو مثلا الشيخ علي القفعي شيخ قبائل بني أوس (بني يوس) بزهران ، يتلقى منشوراً من الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد ، يحوي باقة من التوجيهات الدينية التي ينبغي أن يسير عليها الأمراء ، ثم يأمر في ذلك المنشور بتعيينه أميراً على العامة في بلاد زهران[28] ، بينما يقود الأمير بخروش بن علاَّس الزهراني أمير قبائل بني عمر ، جيشاً مؤلفا من أبناء غامد وزهران وينضم بهم إلى جيش الإمام فيصل بن سعود لمحاربة محمد علي باشا في بسل قرب بلدة تربة وذلك في أول سنة ألف ومائتين وثلاثين للهجرة [29] . وتدخل القبيلتان بعد ذلك في صراع عنيف مع جيوش الدولة العثمانية التي حاولت السيطرة عليها ولم تفلح بحمد الله تعالى في ذلك ، حيث هُزمت جيوشها المدربة هزيمة منكرة سنة 1321 هجرية . وبعد هذا التاريخ نرى حكومات ذلك العصر (الأشراف وآل عائض والأدارسة) تحاول السيطرة على هاتين القبيلتين مما جعلهما عرضة للدمار والتخلف الاقتصادي بسبب ما ينشأ على أراضيهما من حروب بين تلك الحكومات المتصارعة . وما إن أشرقت شمس عام 1338 هجرية حتى سارع الشيخان راشد بن جمعان بن رقوش شيخ شمل قبائل زهران ، والشيخ محمد بن عبدالعزيز الغامدي ، شيخ شمل قبائل غامد ، إلى البيعة لملك البلاد الجديد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ، فتنعم القبيلتان منذ ذلك التاريخ بالأمن والاستقرار والرخاء . ويشارك أبناء القبيلتين غيرهم من أبناء قبائل المملكة العربية السعودية في مسيرة البناء الحضاري لهذا المجتمع الذي مزقته الحروب قرونا عديدة ، ومن المشاركات التي تحدث عنها التاريخ لأبناء هاتين القبيلتين احتفالهما سنة 1369 هجرية ، بمرور خمسين عاماً [30] على فتح الرياض على يد صقر الجزيرة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود يرحمه الله سنة 1319 هجرية والذي كان فاتحة عهد جديد لفتوحات تتابعت وانتهت بإعلان توحيد هذا الكيان الشامخ تحت مسمى (المملكة العربية السعودية) . وابتهاجا بعودة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود من جمهورية مصر العربية سنة 1365 هجرية ، ساهمت القبيلتان في بناء مستشفى بمكة المكرمة[31] .
وعندما صنفت المملكة إلى مناطق إدارية كانت القبيلتان تشكلان إحدى مناطق المملكة ، حيث سميت (منطقة الباحة) ، وفيما يلي لمحة موجزة تتعلق بنسب وإسلام القبيلتين .
[1]سورة سبأ : الآية رقم : 15 .
[2]سورة سبأ آية رقم : 16 .
[3] صفة جزيرة العرب : 374 .
[4] صفة جزيرة العرب : 279 .
[5]المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام : 4/441 .
[6]انظر المصدر السابق : 4/441 ، معجم البلدان : 3/369 .
[7] الأصنام : 8 . وأخبار مكة للأزرقي : 1/116 .
[8]الأصنام : 58 ، أخبار مكة للأزرقي : 1/116 ، والقصب : الأمعاء .
[9]سورة المائدة آية رقم : 103 . البحيرة التي يمنع درّها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة: التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء ، والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإِبل بأنثى، ثم تثني بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى ليس بينهما ذكر . والحام : فحل الإِبل يضرب الضراب المعدود ، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل عليه فلا يحمل عليه شيء وسموه الحامي .
[10] انظر محاضرات الأدباء : 1/ 218 .
[11]سورة الكهف من الآية رقم : 79 .
[12]آثار البلاد وأخبار العباد : 235 .
[13] السيرة النبوية :4/ 607 ، تاريخ الطبري : 3/ 29، 95 ، أسد الغابة في معرفة الصحابة
ببعض الاختلاف : 1/ 313 ، تاريخ ابن خلدون : 2/ 562 . ، في سراة غامد وزهران : 242 .
[14] الإصابة في تمييز الصحابة : 1/ 262 ، 1/264 . الاستيعاب : 1/ 261 .
[15] تسميه بعض الكتب : عياذا ، انظر مثلا : الكامل لابن الأثير: 2/ 232 ، فتح الباري : 8/ 76 ، السيرة النبوية : 4/ 607 ، الإصابة في تمييز الصحابة : 3/ 123 .
[16] زاد المعاد في هدي خير العباد : 3/693 .
[17] الأوائل : 50 . وكتاب الاختيارين : 718 . وتاريخ الطبري : 1/610 وما بعدها . والأصفهاني : 15/250 وما بعدها .
[18] الأنساب للسمعاني ورقة : 232 .
[19] أسد الغابة في معرفة الصحابة : 4/115 .
[20] المحكم في نقط المصحف : 6 . و فصول في اللغة العربية : 400 .
[21] صحيح سنن الترمذي ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني : 3/251 .
[22] صحيح سنن الترمذي ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني : 3/252 .
[23] تاريخ الطبري : 3/142 ، والطبقات : 4/64/ق2 ، والتاريخ الكبير : 4/45/ق2/ج2 ، والاستيعاب : 2/60 ، 26 .
[24] تاريخ الدولة السعودية : 1/21 .
[25] جمهرة أنساب العرب : 2/382 .
[26] امتاع السامر : 9 .
[27] تاريخ الدولة السعودية : 1/22 ، 33 .
[28] مكتبة الأستاذ : عبدالرحمن بن خميس القفعي .
[29] عنوان المجد في تاريخ نجد : 1/244 .
[30] مكتبة الشبخ سعيد بن جمعان السبيحي ، شيخ قبيلتي بني حرير وبني عدوان .
منقول