تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نبذة عن المتنبي


صقر الجنوب
07/02/2013, 03:31 PM
نبذة عن المتنبي

فلسفة الحياة لدى شاعر الحكمة والطموح

أبو الطيب المتنبي، أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، صاحب كبرياء وشجاع طموح محب للمغامرات. في شعره اعتزاز بالعروبة، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. ترك تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدأ فيها وكأنه يودعه الدنيا عندما قال: أبلى الهوى بدني. لنتعرف على هذا الشاعر العظيم ونقترب أكثر من سيرة حياته:

ظهور الموهبة الشعرية:

هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي. ولد في كندة بالكوفة سنة 303 هـ=915 م. وتقع حالياً على مسافة عشرة كيلومترات من النجف وخمسة وستون من كربلاء تقريباً. يقال إن والده الحسين سماه أحمد و لقبه بأبي الطيب، ويقال إنه لم يعرف أمه لموتها وهو طفل فربته جدته لأمه. قضى طفولته في كندة (304-308 هـ= 916-920م)، اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً، فقال الشعر صبياً، وهو في حوالي العاشرة، وبعض ما كتبه في هذه السن موجود في ديوانه. في الثانية عشر من عمره رحل إلى بادية السماوة، أقام فيها سنتين يكتسب بداوة اللغة العربية وفصاحتها، ثم عاد إلى الكوفة حيث أخذ يدرس بعناية الشعر العربي، وبخاصة شعر أبي نواس وابن الرومي ومسلم بن الوليد وابن المعتز. وعني على الأخص بدراسة شعر أبي تمام وتلميذه البحتري. انتقل إلى الكوفة والتحق بكتاب (309-316 هـ=921-928م) يتعلم فيه أولاد أشراف الكوفة دروس العلوية شعراً ولغة وإعراباً. اتصل في صغره بأبي الفضل في الكوفة، وكان من المتفلسفة، فهوسه وأضله. كان أبو الطيب سريع الحفظ، فقيل أنه حفظ كتاباً نحو ثلاثين ورقة من نظرته الأولى إليه.

من البادية إلى السجن:

لم يستقر أبو الطيب في الكوفة، اتجه خارجاً ليعمق تجربته في الحياة وليصبغ شِعره بلونها، أدرك بما يتملك من طاقات وقابليات ذهنية أن مواجهة الحياة في آفاق أوسع من آفاق الكوفة تزيد من تجاربه ومعارفه، فرحل إلى بغداد برفقة والده، وهو في الرابعة عشرة من عمره، قبل أن يتصلب عوده، وفيها تعرف على الوسط الأدبي، وحضر بعض حلقات اللغة والأدب، ثم احترف الشعر ومدح رجال الكوفة وبغداد. غير أنه لم يمكث فيها إلا سنة، ورحل بعدها برفقة والده إلى بادية الشام يلتقي القبائل والأمراء هناك، يتصل بهم و يمدحهم، فتقاذفته دمشق وطرابلس واللاذقية وحمص. دخل البادية فخالط الأعراب، وتنقل فيها يطلب الأدب واللغة العربية وأيام الناس، وفي بادية الشام التقي القبائل والأمراء، اتصل بهم ومدحهم، وتنقل بين مدن الشام يمدح شيوخ البدو والأمراء والأدباء. قيل أنه تنبأ في بادية السماوة بين الكوفة والشام فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد، فأسره وسجنه سنة 323-324 هجرية، حتى تاب ورجع عن دعواه. كان السجن علامة واضحة في حياته وجداراً سميكاً اصطدمت به آماله وطموحاته، فأخذ بعد خروجه منه منهك القوى يبحث عن فارس قوى يتخذ منه مساعداً لتحقيق طموحاته. عاد مرة أخرى يعيش حياة التشرد والقلق، فتنقل من حلب إلى أنطاكية إلى طبرية.

شاعر لا يقل عن الأمير منزلة:

وفيها التقى ببدر بن عمار سنة 328 هجرية، وهو أول من قتل أسداً بالسوط، فنعم عنده حقبة من الزمن، راضياً بما لقيه عنده من الراحة بعد التعب والاستقرار بعد التشرد، إلا أنه أحس بالملل في مقامه وشعر بأنه لم يلتق بالفارس الذي كان يبحث عنه والذي يشاركه في ملاحمه وتحقيق آماله. فعاوده الضجر الذي ألفه والقلق الذي لم يفارقه، فسقم من حياة الهدوء ووجد فيها ما يستذل كبرياءه. فهذا الأمير يحاول أن يتخذ منه شاعراً متكسباً كسائر الشعراء، وهو لا يريد لنفسه أن يكون شاعر أمير، وإنما يريد أن يكون شاعراً فارساً لا يقل عن الأمير منزلة. فلم يفقده السجن كل شيء لأنه بعد خروجه منه استعاد إرادته وكبرياءه. فالسجن أسهم في تعميق تجربته في الحياة، وتنبيهه إلى أنه ينبغي أن يقف على أرض صلبة لتحقيق ما يريده من طموح. لذلك أخذ يبحث عن نموذج الفارس القوي الذي يشترك معه لتنفيذ ما يرسمه في ذهنه. أما بدر فلم يكن هو ذاك، ثم ما كان يدور بين حاشية بدر من الكيد لأبي الطيب ومحاولة الإبعاد بينهما، جعل أبا الطيب يتعرض لمحن من الأمير ومن الحاشية تريد تقييده بإرادة الأمير. لقد رأى ذلك إهانة وإذلالاً، عبّر عنه بنفس جريحة ثائرة بعد فراقه لبدر متصلاً بصديق له هو أبو الحسن علي بن أحمد الخراساني في قوله : لا افتخار إلا لمن لا يضام. وعاد المتنبي بعد فراقه لبدر إلى حياة التشرد والقلق ثانية، وعبر عن ذلك أصدق تعبير في رائيته التي هجا بها ابن كروس الأعور أحد الكائدين له عند بدر.

الاندفاع المخلص نحو سيف الدولة:

ظل باحثاً عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 ه، وعن طريقه اتصل بسيف الدولة بن حمدان، صاحب حلب، سنة 337 ه، انتقل معه إلى حلب فمدحه وحظي عنده. في مجلس هذا الأمير وجد أفقه وسمع صوته، وأحس أبو الطيب بأنه عثر على نموذج الفروسية الذي كان يبحث عنه، وسيكون مساعده على تحقيق ما كان يطمح إليه، فاندفع الشاعر مع سيف الدولة يشاركه في انتصاراته. ففي هذه الانتصارات أروع ملاحمه الشعرية، استطاع أن يرسم هذه الحقبة من الزمن وما كان يدور فيها من حرب أو سلم، فانشغل انشغالاً عن كل ما يدور حوله من حسد وكيد، ولم ينظر إلا إلى صديقه وشريكه سيف الدولة. فلا حجاب ولا واسطة بينهما. شعر سيف الدولة بهذا الاندفاع المخلص من الشاعر، واحتمل منه ما لا يحتمل من غيره من الشعراء، وكان هذا كبيراً على حاشية الأمير. ازداد أبو الطيب اندفاعاً وكبرياء واستطاع في حضرة سيف الدولة استطاع أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرماً مميزاً عن غيره من الشعراء. وهو لا يرى إلا أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة، إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده، إلى أنه مطمئن إلى إمارة عربية يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعداً وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحياناً بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه. ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية، إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان.

خيبة الأمل وجرح الكبرياء:

وهذا ما كان يغري حساده به فيستغلونه ليوغروا صدر سيف الدولة عليه حتى أصابوا بعض النجاح. وأحس الشاعر بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير. وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر وصديقه الأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما. وأحس أبو الطيب بأن السقف الذي أظله أخذ يتصدع، وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وأصابته خيبة الأمل لاعتداء ابن خالوية عليه بحضور سيف الدولة ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، لم يستطع أن يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 ه ومنها: لا تطلبن كريماً بعد رؤيته. فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلباً، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة من مصر حتى كادت الصلة تعود بينهما.

الممدوح الجديد:

فارق أبو الطيب حلباً إلى مصر وفي قلبه غضب كثير، وكأنه يضع خطة لفراقها ثم الرجوع إليها كأمير عاملاً حاكماً لولاية يضاهي بها سيف الدولة، ويعقد مجلساً يقابل سيف الدولة. من هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوي وأظنه هو أقوى الدوافع. دفع به للتوجه إلى مصر حيث كافور الذي يمتد بعض نفوذه إلى ولايات بلاد الشام. في مصر واجه بيئة جديدة ومجتمعاً آخر وظروفاً اضطرته إلى أن يتنازل في أول الأمر عما لم يتنازل عنه. ثم هو عند ملك لا يحبه، ولم يجد فيه البديل الأفضل من سيف الدولة إلا أنه قصده آملاً، ووطن نفسه على مدحه راضياً لما كان يربطه في مدحه من أمل الولاية، وظل صابراً محتملاً كل ذلك. وأخذ يخطط إلى أمله الذي دفعه للمجيء إلى هنا، ويهدأ كلما لاح بريق السعادة في الحصول على أمله، وهو حين يراوده نقيض لما يراه من دهاء هذا الممدوح الجديد ومكره يحس بالحسرة على فراقه صديقه القديم. في هذه البيئة الجديدة أخذ الشعور بالغربة يقوى في نفسه بل أخذ يشعر بغربتين غربته عن الأهل والأحبة، وعما كان يساوره من الحنين إلى الأمير العربي سيف الدولة. ويزداد ألمه حين يرى نفسه بين يدي غير عربي، إلا أنه حين يتذكر جرح كبريائه يعقد لسانه ويسكت. وغربته الروحية عمن حوله والتي كان يحس بها في داخله إحساساً يشعره بالتمزق في كثير من الأحيان. وظل على هذا الحال لا تسكته الجائزة، ولا يرضيه العطاء، وظل يدأب لتحقيق ما في ذهنه ويتصور أنه لو حصل عليها لحقق طموحه في مجلس كمجلس سيف الدولة تجتمع فيه الشعراء لمدحه، فيستمع لمديحه وإكباره على لسان الشعراء، بدلاً من أن يؤكد كبرياءه هو على لسانه. ولربما كان يريد إطفاء غروره بهذا. إلا أن سلوكه غير المداري وعفويته مثلت باباً سهلاً لدخول الحساد والكائدين بينه وبين الحاكم الممدوح، ثم حدته وسرعة غضبه وعدم السيطرة على لسانه. كان كل ذلك يوقعه في مواقف تؤول عليه بصور مختلفة وفق تصورات حساده ومنافسيه. وأكاد أعتقد أنه كان مستعداً للتنازل عن كل جوائزه وهباته لمن كان يتصور أنه كان يريد أن يتربع على عرش الشعر من أجل جائزة كافور وعطائه، ثم يصوره بصورة تشوه إحساسه وتزور مشاعره. وذلك هو الذي يغيظه ويغضبه ويدفعه إلى التهور أحياناً وإلى المواقف الحادة. كل ذلك يأخذ طابعاً في ذهن الحاكم مغايراً لما في ذهن الشاعر.

صريح في الرضا والسخط:

بدأت المسافة تتسع بينه وبين كافور، وكلما اتسعت كثر في مجالها الحاسدون والواشون، وكلما أحس الشاعر ولو وهما بانزواء كافور عنه تيقظت لديه آفاق جديدة لغربته، وثارت نفسه وأحس بالمرارة إحساساً حاداً. لقد أحس بأنه لم يطلب فوق حقه ولم يتصرف بما هو خطأ، لأنه لم يصدر منه تجاوز على حق أحد. إلا أن هذا التصور البريء في ذهن الشاعر بعيد عن واقع الصورة التي في ذهن حاشية كافور. وما يصل إلى كافور من أقوال عن الشاعر، وعادة المتملقين من الوجهاء يتوصلون إلى الحاكم بواسطة حاشيته وإغراء بعض أفرادها بأن يكونوا جسوراً بينهم وبين سيدهم. هذه الجسور قد تقطع عند الحاجة بين الحاكم وبين خصومهم. أما أبو الطيب فلم يحسن هذا اللون من التظاهر ولم يفكر فيه، وإنما كان صريحاً بكل شيء في رضاه وسخطه صريحاً بما يرغب دون احتيال ولا محاورة، فما دام يشعر بالحق طالب به دون تأجيل. هذه الصراحة كثيراً ما أوقعته في مواقف حرجة، عند سيف الدولة، وهنا أيضاً عند كافور. لذا صارت للمتنبي صورة سلبية في نفس كافور، وخشي على ملكه إذا أعطاه ما يمكنه من ذلك. ظل أبو الطيب يرغب ويلح في طلبه، وظل كافور يداوره ويحاوره. كافور يحسن الاحتيال والمداورة وأبو الطيب صريح لا يحسن من ذلك شيئاً حتى وصل إلى حالة لم يستطع بعدها أن يبقى صامتاً. وشعر كافور برغبته في مغادرته فظن أن تشديد الرقابة عليه وإغلاق الحدود دونه سيخيفه ويمنعه من عزمه، ويخضعه كما يفعل مع غيره من الشعراء بالترهيب حيناً والذهب حيناً آخر. إلا أن أبا الطيب لم يعقه ذلك كله عن تنفيذ ما عزم عليه بعد أن أحس باليأس من كافور، وندم على ما فعل بنفسه في قصده إياه، وهو عند أكثر أصدقائه إخلاصاً وحباً. وظل يخطط إلى الهرب ويصر على تحدي كافور ولو بركوب المخاطر حتى وجد فرصته في عيد الأضحى. وخرج من مصر، وهجاً كافوراً بأهاجيه المرة الساخرة. إن تحديه لكافور في هروبه وركوبه كل المخاطر، ثم هذه الطاقة المتفجرة من السخط والغضب في هجائه يدل على مبلغ اليأس والندم في نفسه، ويبدو أنه كان حائراً حين فارق سيف الدولة، وحاول أن يمنع نفسه من التوجه إلى كافور. إلا أنه رجح أمر توجهه إلى مصر بعد إطالة فكر. ويبدو أنه فكر بهذه النتيجة اليائسة من ملك مصر أراد أن يتقدم من نفسه على ارتكابه خطيئة التوجه إليه واحتمالها مدحه، والتقيد بأوامره حينا. فهو حاول بأي وجه أن يشعر بالانتصار على هذه السلطة، عندما تحداه في هروبه، وفخره بالشجاعة والفروسية في اقتحام المخاطر في طريقه إلى الكوفة في مقصورته: ضربت بها التيه ضرب القمار.

مدح ابن العميد:

بعد عودته إلى الكوفة، زار بلاد فارس، فمر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد، وكانت له معه مساجلات.

مدح عضد الدولة:

ثم رحل إلى شيراز، فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي.

معركة العودة:

ثم عاد من شيراز يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً. فاقتتل الفريقان حتى قتل أبو الطيب وابنه محسد وغلامه مفلح (354 هـ= 965 م) بالنعمانية بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد. وفاتك هذا هو خال ضبة بن يزيد الأسدي العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة، وهي من سقطات المتنبي. وكان التمس منه خفارة لبعض الرجالة ليسلكوا به الطريق ويحموا عنه فلم يفعل، وقال معي سيفي ورمحي أخفّر. ويقال إن الذين خرجوا عليه من بني كلاب مع ضبة بن محمد العيني لما هجاه به: ما أنصف اليوم ضبُ. وكان الفرسان نحو خمسين فارساً، فقتل منهم جماعة وجرح جماعة وأثخن فيهم عدة، وقدرت الحرب من ضحوة إلى الأولى، ثم كلّ أبو الطيب وولده ومملوكه، فلما تطاول الأمر استرسل وظفروا به. فقتلوه وولده والمملوك. وأخذ جميع ما كان معه، ودفنوه في الموضع، وكان له قيمة كثيرة، ولم يكن طلبهم ما معه سوى نفسه. والذي تولى قتله منهم فاتك بن فراس بن بداد وكان قرابة لضبّة. ويقال أنه لما قرب منه فاتك كان معه عبد يقال له سراج، فقال له: يا سراج أخرج إليّ الدرع، فأخرجها ولبسها، وتهيأ للقتال، ثم قال هذه القصيدة.

أفرغ الدرع يا سراج وأبصر ما ترى اليوم ها هنا من قتال
فلئن رحت في المكر صريعا فأنعَ للعالمين كل الرجال

ثم قال له فاتك: قبحاً لهذه اللحية يا سبّاب. فقال فاتك ألست الذي تقول:

الخيل والليل والبيداء تعرفني والطعن والضرب والقرطاس والقلم

فقال أنا عند ذاك يابن اللخناء العفلاء. ثم قاتل وبطح نفساً أو نفسين، فخانته قوائم فرسه، فغاصت إحداها في ثقبة كانت في الأرض، فتمكن منه الفرسان وأحاطوا به وقتلوه واقتسموا ماله ورحله، وأخذوا ابنه المحسّد وأرادوا أن يستبقوه، فقال أحدهم لا تفعلوا، واقتلوه، فقتلوه. وحكى الشريف ناصر قال: عبرت على بدنه وكان مفروقاً بينه وبين رأسه، ورأيت الزنابير تدخل في فيه وتخرج من حلقه. أعاذنا الله من كل سوء ومكروه بمنّه وطوله. وكتب في سنة ثلث وثمانين وأربع مائة.


عصر أبي الطيب:

شهدت الفترة التي نشأ فيها أبو الطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب كانت نشأة أبي الطيب، وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة مستغلاً شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام أثمر عن عبقرية في الشعر العربي. كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، أعلن عنه في شعره تلميحاً وتصريحاً حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في اللاذقية، فلم يستمع له وإنما أجابه مصرا ً: أبا عبد الإله معاذ أني. إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن.

نسب شريف:

في نسب أبو الطيب خلاف، إذ قيل أنه ابن سقاء كان يسقي الماء بالكوفة، وقيل أنه ابن عائلة فقيرة، وقيل أن أصوله من كندة، وهم ملوك يمنيون. ودس خصومه في نسبه، لكن الأستاذ الشاعر محمد السويدي يرجح أن نسب أبو الطيب نسب شريف، واستدل على ذلك بالتحاقه في مدرسة الأشراف العلويين وهو صغير.

صقر الجنوب
07/02/2013, 03:33 PM
مقالات عن المتنبي
الرسالة البحرية

2010-04-01

كتبها إلى الشيخ بدر الدين الدماميني وقد سار من ثغر طرابلس إلى ثغر الإسكندرية في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانمائة:

يا مولانا وأبثك ما لقيت من أهوال هذا البحر وأحدث عنه ولا حرج، فكم وقع المملوك في أعاريضه في زحافٍ تقطّع منه القلب لما دخل إلى دوائر اللجّ، وشاهدت منه سلطاناً جائراً يأخذ كل سفينة غصباً، ونظرت إلى الجواري الحسان وقد رمت أزر قلوعها وهي بين يديه لقلة رجالها تسبي، فتحققت أن رأى من رجاء يسمى في الفلك جالساً غير صائب، واستصوبت هنا رأي من جاء يمشي وهو راكب، وزاد الظمأ بالمملوك وقد أتخذ بالبحر سبيلاً، وكم قلت من شدة الظمأ يا ترى قبل الحفرة هي أطوي من البحر هذه الشقة الطويلة.
وهل أباكر بحر النيل منشرحاً وأشرب الحلو من أكواب ملاح
بحر تلاطمت علينا أمواجه حين متنا من الخوف وحملنا على نعش الغراب، وقامت واوات دوائره مقامع فنصبتنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب، وقارن العبد فيه سوداء استرقت موالينا وهي جارية، وغشيهم منها ما غشيهم فهل أتاك حديث الغاشية، واقعها الحرب فحملت بنا ودخلها الماء فجاءها المخاض، وانشق قلبها لفقد رجالها وجرى ما جرى على ذلك القلب وفاض، وتوشحت بالسواد في هذا الماء ثم سارت على البحر وهي مثل، كم سمع للمغاربة على ذلك التوشيح زجل، برح ما بين ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت، وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسندة من تبطنها عدَّ من المتصبرين في تابوت، تأتي بالطباق ولكن بالقلوب لأن صغيرها كبير وبياضها سواد، وتمشي على الماء وتطير مع الهواء وصلاحها عين الفساد، إن نقر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود، ورقص على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود، نتشامم وهي كما قيل أنف في السماء وإست في الماء، وكم نطيل الشكوى إلى قامة صاريها عند الميل وهي الصعدة الصماء، فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين، وتتصابى إذا هبت للصبا وهي بنت أربعمائة وثمانين، وتوقف أحوال القوم وهي تجري بهم في موج كالجبال، وتدعي براءة الذمة وكم استغرقت لهم من أموال، هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج، وكم وجلت القلوب لما صار لأهداب مجاديفها في مقلة البحر احتلاج، وكم أسبلت على وجنته طرة قلعها فبالغ الريح في تشويشها، وكم مر على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها، تتعاضم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعد، ولقد رأيناها بعد ذلك قد تبت وهي حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد، وخلص المملوك من كدر المالح إلى النيل المبارك فوجده من أهل الصفا وإخوان الوفا، وتنصّل من ذلك العدو الأزرق ذي الباطن الكدر، وجمع من عذوبة النيل ونضارة شطوطه بين عين الحياة والخصر، وتلا لسان الحال على المملوك وأصحابه أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين وقضي الأمر، وقيل بعداً للقوم الظالمين.


إبن حجّة الحموي

صقر الجنوب
07/02/2013, 03:41 PM
لا تحـارب بنـاظريكفــــؤادي........... فــضــعـيــفــان يــغـلــبــان قـويــــا.

إذامـارأت عـيـني جـمالـك مـقـبلاً......... وحـقـك يـا روحي سـكرت بـلا شرب.

كـتـب الـدمع بخـدي عـهــــــده........... لـلــهــوى و الـشـوق يمـليماكـتـب.

أحـبك حُـبـين حـب الـهـــــــــــوى........... وحــبــاًلأنــك أهـل لـذاكـــــا

رأيـت بهـا بدراً على الأرضماشـياً.......ولـم أر بـدراً قـط يـمشي عـلى الأرض.

قـالوا الفراقغـداً لا شك قـلت لهـم.....بـل مـوت نـفـسي مـن قبل الفراق غـداً.

قفيو دعيـنا قبل وشك التفـرق ........فمـا أنا مـن يـحـيا إلى حـيـن نـلـتقي.

موبس احبك انا والله من حبك.............احب حتى ثرى الارض الليتاطاها

ضممـتـك حتى قلت نـاري قد انطفت.........فلـم تـطـفَ نـيـرانيوزيـد وقودها.

لأخرجن من الدنيا وحبكــــم........... بـيـن الـجـوانـحلـم يـشـعر بـه أحـــــد.

تتبع الهوى روحي في مسالكه حـتى......جـرىالحب مجرى الروح في الجسد.

أحبك حباً لو يفض يسيره علـى........... الـخـلق مـات الـخـلـق من شـدة الـحب.

فقلت :كما شاءت و شاء لهاالهوى.........قـتـيلـك قـالـت : أيــهـم فـهم كـثر.

أنـت مـاض و فييديك فــؤادي...........ردقـلـبـي و حـيـث مـا شـئــت فامـضِ.

ولي فؤادإذا طال العذاب بــه........... هـام اشــتـيـاقـاً إلـى لـقـيا مـعـذبــه.

ما عالج الناس مثل الحب من سقم ........... و لا بـرى مـثـلـه عـظـماًو لا جسـداً.

قامت تـظـلـلـنـي و من عجــــــب........... شـمـستــظــلـلـنـي متن الـشـمـــس.
ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ

هجرتك حتى قيل لا يعرفالهــوى........و زرتـك حـتى قـيـل لـيـس لـه صـبـرا.

قـالت جنـنت بمنتهوى فقلت لهـا ........الـعـشـق أعـظــم مـمـا بالـمـجـانـين.

ولو خلطالـسـم المذاب بريقهـــا ........... وأسـقـيـت مـنـه نـهـلـة لـبـريــــت.

و قلت شهودي في هواك كـثيــرة .....وأَصـدَقـهَـا قـلـبي و دمـعيمـسـفـوح.

أرد إليه نظرتي و هو غافــــل ..........لـتسرق مـنـهعـيـنـي مـالـيـس داريــا.

لها القمر الساري شـقيـق وإنهــا........... لـتـطـلـع أحـيـانـاً لـه فـيـغــيـــب.

و إن حكمتجـارت علي بحكمهــا ......و لـكـن ذلـك الـجور أشـهى من العـدل.

صقر الجنوب
07/02/2013, 03:44 PM
ملكتقـلبي و أنـت فـيــــــه........... كـيـف حـويـت الـذي حـواكــــــــا.

قـل لـلأحبة كيف أنـعم بعدكـــم ........... و أنـا الـمـســافر والـقـلـب مــقـيم.

عـذبـيـنـي بـكـل شـيء ســوى........... الـصـدّفمـا ذقـت كالـصـدود عـذابــا.

و قد قـادت فؤادي في هـواهــا ........... و طـاع لـهـا الفؤاد و مـاعـصـاهــا.

خـضـعت لـهـا في الحبمن بعد عزتي ........... و كـل محب لـلأحـبـة خـاضـــع.

ولقد عـهدتالـنار شـيـمـتها الـهــدى ........و بـنار خـديـك كـل قـلـب حائـــر.

عـذبـي ما شئـت قـلـبـي عـذبـــي ........... فـعـذاب الحب أسـمـى مـطـلـبــي.

بعضي بـنار الـهـجر مـات حـريـقـا ......... و الـبعض أضـحى بالـدموعغـريقـا.

قـتل الـورد نـفسه حـسداً مـنــــــك ........... و ألـقىدمـاه في وجـنــتــيــك.

اعـتـيادي على غـيـابـك صـعــب ........... واعـتـيـادي على حـضورك أصعـب.

قد تـسربـت في مـسامـات جـلــدي ........... مـثـلـمـا قـطرة الـنـدى تـتـسـرب.

لـك عندي و إنتـنـاسـيـت عـهـد ........... في صمـيـم القـلـب غـيـر نـك



أغرك مني أن حبك قاتلي........... و أنك مهما تأمري القلب يفعل .

يهواكما عشت القلب فإن أمت ........... يتبع صداي صداك في الأقبر .

أنتالنعيم لقلبي و العذاب له ........... فما أمرّك في قلبي و أحلاك .

و ماعجبي موت المحبين في الهوى ........... و لكن بقاء العاشقين عجيب .

لقددب الهوى لك في فؤادي........... دبيب دم الحياة إلى عروقي .

خَليلَيَفيما عشتما هل رأيتما ........... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي .

لو كانقلبي معي ما اخترت غيركم ......... و لا رضيت سواكم في الهوى بدلا ً .

فياليت هذا الحب يعشق مرة........... فيعلم ما يلقى المحب من الهجر .

عيناكِ نازلتا القلوب فكلهـــــا........... إمـا جـريـح أو مـصـاب الـمـقـتــــلِ.

و إني لأهوى النوم في غير حينـه........... لـــعـل لـقـاء فـيالـمـنـام يـكون.

و لولا الهوى ما ذلّ في الأرض عاشـق......... ولـكنعـزيـز الـعاشـقـيـن ذلـيل.

نقل فؤادك حيث شئت من الهــــوى........... ما الــحـب إلا لـلـحـبـيــــب الأول.

د.ليل الوعد
07/02/2013, 07:35 PM
ـت بهـا بدراً على الأرض ماشـياً.......ولـم أر بـدراً قـط يـمشي عـلى الأرض.
بيض الله وجهك يا صقر الجنوب أمتعتنا وعطرت مسامعنا

الفقيرالى الله
08/02/2013, 12:26 AM
سلمت يداك يااخي وبارك الله في جهودك يالغالي

أبو أنــس
08/02/2013, 01:28 PM
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي*****وأسمعت كلماتي من به صمم






=================

واحـرَّ قلبـاهُ مِمَّـنْ قلبُـهُ شَبـِــمُ ... ومـنْ بجسمـي وحالـي عنـده سَقـَمُ

ما لي أكتمُ حبـاً قـد بـرى جسـدي ... وتدعـي حُـبَّ سيـفِ الدولـة الأمـمُ

إن كـان يجمعنـا حــبٌ لغرتــه ... فليـتَ أنـَّا بقـدرِ الحـب نقتسـِـمُ

قـد زُرتـُهُ وسيـوفُ الهنـْدِ مُغْمَـدَةٌ ... وقـد نظـرتُ إليـهِ والسيـــوفُ دمُ

فكـان أحســنَ خلـقِ اللهِ كلَّهـِــمِ ... وكـان أحسنَ مـا في الأحسـنِ الشيـمُ

فـَوْتُ العَـدُوِّ الـذي يَمّمتـُه ظفـَـرٌ ... فـي َطيِّـهِ أَسَـفٌ فـي َطيِّـهِ نِعَــمُ

قد نابَ عنكَ شديـدُ الخوفِ واصْطنَعَتْ ... لك المهـابة ُ مـا لا تصْنـعُ البُهَــمُ

ألزَمْـتَ نفسـك شيـئاً ليـسَ يلزمُها ... أنْ لا يُـواريـهُـمُ أَرْضٌ ولا عـلـمُ

أكلمـا رُمْـتَ جيشـاً فانثنـى هَرَبـاً ... تصَرَّفـَتْ بـِكَ فـي آثـارِهِ الهمَــمُ

عليـكَ هَزْمُهُــمُ فـي كـُلِّ مُعْتـَرَكٍ ... ومـا عليـك بهـم عـارٌ إذا انهزموا

أما ترى ظفـَراً حُلْـواً سِـوى ظَفَــرٍ ... تصافَحَـتْ فيهِ بيـضُ الهنـدِ و اللَّمَمُ

ياأعـدلَ النـاسِ إلاّ فـي معاملتــي ... فيكَ الخصـامُ وأنتَ الخصـمُ والحَكَـمُ

أعيذهـا نظـَراتٍ مِنـْكَ صادقـــة ً ... أنْ تحْسَـبَ الشحْـمَ فيمـن شَحْمُهُ وَرَمُ

ومـا انتفـاعُ أخـي الدنيـا بِناظِـرِهِ ... إذا استـَوَتْ عِندَهُ الأنـوارُ والظُّـلُـمُ

أنا الـذي نظـَرَ الأعمى إلى أدبــي ... وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـنْ بـه صَمَـمُ

أَنـامُ مـلءَ جفونـي عَـنْ شوارِدِهـا ... ويسهـرُ الخلـقُ جَرّاهـا وَيَخْـتصِـمُ

وجاهِـلٍ مَـدَّهُ فـي جَهْلِـهِ ضَحِكـي ... حتـى أتـتـهُ يَـدٌ فَرّاسـةٌ وَفـَــمُ

إذا نظـرتَ نيـوب اللـّيـثِ بـارزةً ... فـلا تظـنَنَ أَنَّ اللـّيـثَ يبْتسـِــمُ

ومُهْجَـةٍ مُهْجتـي مِـنْ هَـمِّ صاحِبها ... أَدْرَكتهـا بجَـوادٍ ظَهْـرُهُ حَـــرَمُ

رجـلاهُ فـي الركضِ رجلٌ واليدانِ يدٌ ... وفعلُـهُ ماتريـدُ الكَـفُّ والقـَــدَمُ

ومُرْهَـفٍ سِـرْتُ بيـن الجَحْفليْـنِ بِهِ ... حتـى ضَرَبْـتُ وَمَـوْجُ المَوْتِ يلتطِمِ

فالخيـلُ و الليـلُ و البيـداءُ تعـرفني ... والسيـفُ والرمـحُ والقرطاسُ و القلمُ

صَحِبْـتُ في الفَلَواتِ الوَحْـشَ مُنفرداً ... حتـى تعَجَـبَ مِنـِّي القـورُ والأَكَـمُ

يا مَـنْ يَعِـزُّ علينـا أَنْ نفارِقَهـُـمْ ... و جْداننـا كـُلَّ شـيءٍ بعدكـُمْ عَـدَمُ

مـا كـان أخلَقـَنا منكـم بتكرِمَــةٍ ... لـو أنَّ أَمْرَكـُمُ مـن أمرِنـا أَمَــمُ

إن كـان سَـرَّكمْ مـا قـال حاسِدنـا ... فمـا لجَـرِحٍ إذا أرضاكـُمُ ألـَــمُ

وبيننـا لو رعيتـمْ ذاكَ مَعْرِفـَــة ... إنَّ المَعَـارِفَ فـي أهْـلِ النهَـى ذِمَمُ

كـمْ تطلبـونَ لنـا عيبـاً فيُعْجزكـُمْ ... وَيكـرَهُ الله مـا تأتـونَ والكـَــرَمُ

مـا أبعـدَ العيبَ والنقصانَ عنْ شرَفِي ... أنـا الثريـا وذانِ الشيْـبُ والهَــرَمُ

ليتَ الغَمَـامَ الـذي عندي صَواعِقـُهُ ... يزيلُهُـنَّ إلى مـن عنـده الدَّيَــــمُ

أرى النّـَّوَى تقتضينـي كـلَّ مَرْحلةٍ ... لا تستقِـلُ بهـا الوخـّادَة ُالرُّسـُــمُ

لئـن تركـنَ ضميـراً عـن ميامِنِنا ... ليَحْدثـنَّ لِمــنْ ودَّعتهـم نـَـــدَمُ

إذا ترحّلـتَ عـنْ قـومٍ و قـد قدَروا ... أن لا تفارِقهُـمْ فالراحلـون هـُـــمُ

شـرُّ البـلادِ مكـانٌ لا صديـقَ بـِهِ ... وشـَرُّ مـا يكسِـبُ الإنسانُ ما يَصِـمُ

وشـرُّ ما قنَصَتـْهُ راحتـي قنـَـصٌ ... شهْـبُ البُـزاةِ سـواءٌ فيـهِ والرَّخـمُ

بأيِّ لفـظٍ تقـولُ الشعـرَ زِعْـنِفَــة ٌ ... تجـوزُ عِنـْدكَ لاعُـرْبٌ و لا عَجَـمُ

هـذا عِتابُــكَ إلاّ أنـّهُ مِقـَـــة ٌ ... قـد ضُمِّـنَ الـدُّرَّ إلاّ أنـه كَـلِــمُ

أبو أنــس
08/02/2013, 01:29 PM
أشكرك أخي الكريم أبو أحمد على أختيار شخصية المتنبي هذه الشخصية
الشعرية المليئة بالأثارة أسعدتنا بهذه الصفحة الجميله وفقك الله

صقر الجنوب
08/02/2013, 11:31 PM
شكرا أحبتي على مروركم الاجمل على صفحة سيد الشعراء بلا منازع ابو الطيب المتنبي
ستبقى هذه الصفحات مكانا نرتاده باستمرار لمزيدا من قصائد المتنبي

صقر الجنوب
08/02/2013, 11:36 PM
قصيدة للمتنبي هجاا بهاا كافور الاخشيدي



------------------------------------


عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيداً دونها بيد
لولا العلى لم تجب بي ما أجوب بها
وجناء حرف ولا جرداء قيدود
وكان أطيب من سيفي معانقة
أشباه رونقه الغيد الأماليد
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
شيئاً تتيمه عين ولا جيد
يا ساقيي أخمر في كؤوسكما
أم في كؤوسكما هم وتسهيد
أصخرة أنا ما لي لا تحركني
هذي المدام ولا هذي الأغاريد
إذا أردت كميت اللون صافية
وجدتها وحبيب النفس مفقود
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا شاك منه محسود
أمسيت أروح مثر خازنا ويداً
أنا الغني وأموالي المواعيد
إني نزلت بكذابين ضيفهم
عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي وجودهم
من اللسان فلا كانوا ولا الجود
ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه فله في مصر تمهيد
صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد معبود
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد
العبد ليس لحر صالح بأخ
لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن
يسيء بي فيه عبد وهو محمود
ولا توهمت أن الناس قد فقدوا
وأن مثل أبي البيضاء موجود
وأن ذا الأسود المثقوب مشفره
تطيعه ذي العضاريط الرعاديد
جوعان يأكل من زادي ويمسكني
لكي يقال عظيم القدر مقصود
ويلمها خطة ويلم قابلها
لمثلها خلق المهرية القود
وعندها لذ طعم الموت شاربه
إن المنية عند الذل قنديد
من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه البيض أم آباؤه الصيد
أم أذنه في يد النخاس دامية
أم قدره وهو بالفلسين مردود
أولى اللئام كويفير بمعذرة
في كل لؤم وبعض العذر تفنيد
وذاك أن الفحول البيض عاجزة
عن الجميل فكيف الخصية السود

صقر الجنوب
08/02/2013, 11:38 PM
هجاء مقذع


المتنبي اذا هجى كوى هذا هو مالئ الدنيا وشاغل الناس

صقر الجنوب
09/02/2013, 12:03 AM
قصيدة "وصف الحمى" للمتنبي

أقام أبو الطيب المتنبي في بلاط كافور الإخشيدي بعد أن هجر سيف الدولة وكان المتنبي يمدحه بالقصائد العظام وكافور لايألوا جهداً في إرضاء أبي الطيب المتنبي . لكن كافور لم يكن ليصل بإكرامه للمتنبي للحد الذي كان يتمناه المتنبي وهو أن يوليه إحدى الإمارات ، فكافور كان بحنكته يعلم مدى علو همة المتنبي وكرهه للماليك وتعصبه للعرب وكان يخاف أن المتنبي إذا تولى الولاية فقد يتمرد عليه ويسبب شرخاً كبيراً في دولته؛ لكن كافور ككل الولاة في كل زمان كان يحب أن يمدحه الشعراء وأهم شاعر في ذلك الزمان بل وفي كل زمان كان المتنبي فكان كافور يرضيه بجزيل العطايا ويمنيه ويماطله حتى طال الوقت على أبي الطيب ومل من الانتظار، فتناوشته هموم الغربة والانتظاروأمرضته الرفاهية وكثرة القعود فكانت الحمى تنتابه بين الفينة والفينة حتى إذا اشتدت عليه في أحد الأيام جادت قريحته بهذه القصيدة التي بدأها مفتخراً ثم تطرق إلى وصف الحمى بوصف لم يسمع تاريخ الأدب بمثله . ومنها قوله:


مَلومُكُمـا يَجِـلُّ عَـنِ الـمَـلامِ " " وَوَقـعُ فَعالِـهِ فَـوقَ الـكَـلامِ
ذَرانـي وَالفَـلاةَ بِـلا دَلـيـلٍ " " وَوَجهـي وَالهَجيـرَ بِـلا لِثـامِ
فَإِنّـي أَستَريـحُ بِــذا وَهَــذا " " وَأَتعَـبُ بِالإِنـاخَـةِ وَالمُـقـامِ
عُيونُ رَواحِلي إِن حُرتُ عَينـي " " وَكُـلُّ بُغـامِ رازِحَـةٍ بُغـامـي
فَقَـد أَرِدُ المِيـاهَ بِغَيـرِ هــادٍ " " سِوى عَدِّي لَهـا بَـرقَ الغَمـامِ
يُـذِمُّ لِمُهجَتـي رَبّـي وَسَيفـي " " إِذا اِحتاجَ الوَحيـدُ إِلـى الذِمـامِ
وَلا أُمسي لِأَهـلِ البُخـلِ ضَيفًـا " " وَلَيسَ قِرىً سِـوى مُـخِّ النِعـامِ
فَلَمّـا صـارَ وُدُّ النـاسِ خِـبًّـا " " جَزَيـتُ عَلـى اِبتِسـامٍ بِاِبتِسـامِ
وَصِرتُ أَشُـكُّ فيمَـن أَصطَفيـهِ " " لِعِلمـي أَنَّـهُ بَـعـضُ الأَنــامِ
يُحِبُّ العاقِلونَ عَلـى التَصافـي " " وَحُبُّ الجاهِليـنَ عَلـى الوَسـامِ
وَآنَفُ مِن أَخـي لِأَبـي وَأُمّـي " " إِذا ما لَـم أَجِـدهُ مِـنَ الكِـرامِ
أَرى الأَجـدادَ تَغلِبُهـا جميـعًـا " " عَلـى الأَولادِ أَخـلاقُ اللِـئـامِ
وَلَستُ بِقانِـعٍ مِـن كُـلِّ فَضـلٍ " " بِـأَن أُعـزى إِلـى جَـدٍّ هُمـامِ
عَجِبـتُ لِمَـن لَـهُ قَـدٌّ وَحَـدٌّ " " وَيَنبـو نَبـوَةَ القَضِـمِ الكَـهـامِ
وَمَن يَجِدُ الطَريقَ إِلـى المَعالـي " " فَـلا يَـذَرُ المَطِـيَّ بِـلا سَنـامِ
وَلَم أَرَ في عُيوبِ النـاسِ شَيئًـا " " كَنَقصِ القادِريـنَ عَلـى التَمـامِ
أَقَمتُ بِأَرضِ مِصرَ فَلا وَرائـي " " تَخُبُّ بِـيَ المَطِـيُّ وَلا أَمامـي
وَمَلَّنِيَ الفِـراشُ وَكـانَ جَنبـي " " يَمَـلُّ لِقـاءَهُ فـي كُـلِّ عــامِ
قَليـلٌ عائِـدي سَقِـمٌ فُــؤادي " " كَثيرٌ حاسِـدي صَعـبٌ مَرامـي
عَليـلُ الجِسـمِ مُمتَنِـعُ القِـيـامِ " " شَديدُ السُكرِ مِـن غَيـرِ المُـدامِ
وَزائِرَتـي كَـأَنَّ بِهـا حَـيـاءً " " فَلَيـسَ تَـزورُ إِلّا فـي الظَـلامِ
بَذَلتُ لَها المَطـارِفَ وَالحَشايـا " " فَعافَتهـا وَباتَـت فـي عِظامـي
يَضيقُ الجِلدُ عَن نَفسـي وَعَنهـا " " فَتوسِـعُـهُ بِـأَنـواعِ السِـقـامِ
إِذا مـا فارَقَتـنـي غَسَّلَتـنـي " " كَأَنّـا عاكِفـانِ عَلـى حَــرامِ
كَأَنَّ الصُبـحَ يَطرُدُهـا فَتَجـري " " مَدامِعُـهـا بِأَربَـعَـةٍ سِـجـامِ
أُراقِبُ وَقتَها مِـن غَيـرِ شَـوقٍ " " مُراقَبَـةَ المَشـوقِ المُستَـهـامِ
وَيَصدُقُ وَعدُها وَالصِـدقُ شَـرٌّ " " إِذا أَلقاكَ فـي الكُـرَبِ العِظـامِ
أَبِنتَ الدَهـرِ عِنـدي كُـلُّ بِنـتٍ " " فَكَيفَ وَصَلتِ أَنتِ مِـنَ الزِحـامِ
جَرَحتِ مُجَرَّحًا لَـم يَبـقَ فيـهِ " " مَكـانٌ لِلسُيـوفِ وَلا السِـهـامِ
أَلا يا لَيتَ شَعـرَ يَـدي أَتُمسـي " " تَصَـرَّفُ فـي عِنـانٍ أَو زِمـامِ
وَهَل أَرمي هَـوايَ بِراقِصـاتٍ " " مُـحَـلّاةِ المَـقـاوِدِ بِالـلُـغـامِ
فَرُبَّتَما شَفَيـتُ غَليـلَ صَـدري " " بِسَـيـرٍ أَو قَـنـاةٍ أَو حُـسـامِ
وَضاقَت خُطَّةٌ فَخَلَصـتُ مِنهـا " " خَلاصَ الخَمرِ مِن نَسـجِ الفِـدامِ
وَفارَقـتُ الحَبيـبَ بِــلا وَداعٍ " " وَوَدَّعـتُ البِـلادَ بِـلا سَــلامِ
يَقولُ لي الطَبيـبُ أَكَلـتَ شَيئًـا " " وَداؤُكَ فـي شَرابِـكَ وَالطَعـامِ
وَمـا فـي طِبِّـهِ أَنّـي جَـوادٌ " " أَضَـرَّ بِجِسمِـهِ طـولُ الجِمـامِ
تَعَـوَّدَ أَن يُغَبِّـرَ فـي السَرايـا " " وَيَدخُـلَ مِـن قَتـامِ فـي قَتـامِ
فَأُمسِـكَ لا يُطـالُ لَـهُ فَيَرعـى " " وَلا هُوَ في العَليـقِ وَلا اللِجـامِ
فَإِن أَمرَض فَما مَرِضَ اِصطِباري " " وَإِن أُحمَمْ فَمـا حُـمَّ اِعتِزامـي
وَإِن أَسلَـم فَمـا أَبقـى وَلَكِـن " " سَلِمتُ مِنَ الحِمامِ إِلـى الحِمـامِ
تَمَتَّـع مِـن سُهـادِ أَو رُقــادٍ " " وَلا تَأمُل كَـرًى تَحـتَ الرِجـامِ
فَـإِنَّ لِثالِـثِ الحالَيـنِ مَعـنـىً " " سِوى مَعنـى اِنتِباهِـكَ وَالمَنـامِ

صقر الجنوب
09/02/2013, 12:07 AM
المتنبي وخولة

http://www.alnoor.se/images/authors/small/others/others_3/alethari.jpg (http://www.alnoor.se/author.asp?id=294)

د. ثائر العذاري (http://www.alnoor.se/author.asp?id=294)
27/08/2007
قراءات: 2103




قال أبو الطيب المتنبي يرثي خولة أخت سيف الدولة:

يا أُخْتَ خَيرِ أخٍ يا بِنْتَ خَيرِ أبِ
كِنَايَةً بهِمَا عَنْ أشرَفِ النّسَبِ
أُجِلُّ قَدْرَكِ أنْ تُسْمَيْ مُؤبَّنَةً
وَمَنْ يَصِفْكِ فَقد سَمّاكِ للعَرَبِ
لا يَمْلِكُ الطّرِبُ المَحزُونُ مَنطِقَه
وَدَمْعَهُ وَهُمَا في قَبضَةِ الطّرَبِ
غدَرْتَ يا مَوْتُ كم أفنَيتَ من عدَدٍ
بمَنْ أصَبْتَ وكم أسكَتَّ من لجَبِ
وكم صَحِبْتَ أخَاهَا في مُنَازَلَةٍ
وكم سألتَ فلَمْ يَبخَلْ وَلم تَخِبِ
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ
فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً
شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
تَعَثّرَتْ بهِ في الأفْوَاهِ ألْسُنُهَا
وَالبُرْدُ في الطُّرْقِ وَالأقلامُ في الكتبِ
كأنّ فَعْلَةَ لم تَمْلأ مَوَاكِبُهَا
دِيَارَ بَكْرٍ وَلم تَخْلَعْ ولم تَهَبِ
وَلم تَرُدّ حَيَاةً بَعْدَ تَوْلِيَةٍ
وَلم تُغِثْ داعِياً بالوَيلِ وَالحَرَبِ
أرَى العرَاقَ طوِيلَ اللّيْلِ مُذ نُعِيَتْ
فكَيفَ لَيلُ فتى الفِتيانِ فيحَلَبِ
يَظُنّ أنّ فُؤادي غَيرُ مُلْتَهِبٍ
وَأنّ دَمْعَ جُفُوني غَيرُ مُنسكِبِ
بَلى وَحُرْمَةِ مَنْ كانَتْ مُرَاعِيَةً
لحُرْمَةِ المَجْدِ وَالقُصّادِ وَالأدَبِ
وَمَن مَضَتْ غيرَ مَوْرُوثٍ خَلائِقُها
وَإنْ مَضَتْ يدُها موْرُوثَةَالنّشبِ
وَهَمُّهَا في العُلَىوَالمَجْدِ نَاشِئَةً
وَهَمُّ أتْرابِها في اللّهْوِوَاللّعِبِ
يَعلَمْنَ حينَ تُحَيّا حُسنَمَبسِمِها
وَلَيسَ يَعلَمُ إلاّ اللهبالشَّنَبِ
مَسَرّةٌ في قُلُوبِ الطّيبِمَفِرقُهَا
وَحَسرَةٌ في قُلوبِ البَيضِوَاليَلَبِ
إذا رَأى وَرَآهَا رَأسَلابِسِهِ
رَأى المَقانِعَ أعلى منهُ فيالرُّتَبِ
وَإنْ تكنْ خُلقتْ أُنثى لقدخُلِقتْ
كَرِيمَةً غَيرَ أُنثى العَقلِوَالحَسبِ
وَإنْ تكنْ تَغلِبُ الغَلباءُعُنصُرَهَا
فإنّ في الخَمرِ معنًى لَيسَ فيالعِنَبِ
فَلَيْتَ طالِعَةَ الشّمْسَينِغَائِبَةٌ
وَلَيتَ غائِبَةَ الشّمْسَينِلم تَغِبِ
وَلَيْتَ عَينَ التي آبَالنّهارُ بهَا
فِداء عَينِ التي زَالَتْ وَلمتَؤبِ
فَمَا تَقَلّدَ بالياقُوتِمُشْبِهُهَا
وَلا تَقَلّدَ بالهِنْدِيّةِالقُضُبِ
وَلا ذكَرْتُ جَميلاً مِنْصَنائِعِهَا
إلاّ بَكَيْتُ وَلا وُدٌّ بلاسَبَبِ
قَد كانَ كلّ حِجابٍ دونَرُؤيَتها
فَمَا قَنِعتِ لها يا أرْضُبالحُجُبِ
وَلا رَأيْتِ عُيُونَ الإنْسِتُدْرِكُها
فَهَلْ حَسَدْتِ عَلَيها أعينَالشُّهبِ
وَهَلْ سَمِعتِ سَلاماً لي ألمّبهَا
فقَدْ أطَلْتُ وَما سَلّمتُ منكَثَبِ
وَكَيْفَ يَبْلُغُ مَوْتَانَاالتي دُفِنَتْ
وَقد يُقَصِّرُ عَنْ أحيائِنَاالغَيَبِ
يا أحسَنَ الصّبرِ زُرْ أوْلىالقُلُوبِ بِهَا
وَقُلْ لصاحِبِهِ يا أنْفَعَالسُّحُبِ
وَأكْرَمَ النّاسِ لامُسْتَثْنِياً أحَداً
منَ الكِرامِ سوَى آبَائِكَالنُّجُبِ
قد كانَ قاسَمَكَ الشخصَينِدهرُهُما
وَعاشَ دُرُّهُما المَفديُّبالذّهَبِ
وَعادَ في طَلَبِ المَترُوكِتارِكُهُ
إنّا لَنغْفُلُ وَالأيّامُ فيالطّلَبِ
مَا كانَ أقصرَ وَقتاً كانَبَيْنَهُمَا
كأنّهُ الوَقْتُ بَينَ الوِرْدِوَالقَرَبِ
جَزَاكَ رَبُّكَ بالأحزانِمَغْفِرَةً
فحزْنُ كلّ أخي حزْنٍ أخوالغضَبِ
وَأنْتُمُ نَفَرٌ تَسْخُونُفُوسُكُمُ
بِمَا يَهَبْنَ وَلا يَسخُونَبالسَّلَبِ
حَلَلْتُمُ من مُلُوكِ الأرْضِكلّهِمِ
مَحَلَّ سُمرِ القَنَا منسائِرِ القَصَبِ
فَلا تَنَلْكَ اللّيالي، إنّأيْدِيَهَا
إذا ضَرَبنَ كَسَرْنَ النَّبْعَبالغَرَبِ
وَلا يُعِنّ عَدُوّاً أنْتَقاهِرُهُ
فإنّهُنّ يَصِدْنَ الصّقرَبالخَرَبِ
وَإنْ سَرَرْنَ بمَحْبُوبٍفجَعْنَ بهِ
وَقَد أتَيْنَكَ في الحَالَينِبالعَجَبِ
وَرُبّمَا احتَسَبَ الإنْسانُغايَتَهَا
وَفاجَأتْهُ بأمْرٍ غَيرِمُحْتَسَبِ
وَمَا قَضَى أحَدٌ مِنْهَالُبَانَتَهُ
وَلا انْتَهَى أرَبٌ إلاّ إلىأرَبِ
تَخالَفَ النّاسُ حتى لااتّفاقَ لَهُمْ
إلاّ على شَجَبٍ وَالخُلفُ فيالشجبِ
فقِيلَ تَخلُصُ نَفْسُ المَرْءِسَالمَةً
وَقيلَ تَشرَكُ جسْمَ المَرْءِفي العَطَبِ
وَمَنْ تَفَكّرَ في الدّنْيَاوَمُهْجَتهِ
أقامَهُ الفِكْرُ بَينَ العَجزِوَالتّعَبِ



لم اختر هذه القصيدة عشوائيا من الديوان , بل ثمة اسباب عديدة دفعتني الى الاهتمام بها واختيارها نموذجا لقراءة جديدة لاحدى قصائده , ومن هذه الاسباب :
1- ان القصيدة تتضمن معظم السمات الفنية لموهبة الشاعر كما ستبين الورقة ذلك.
2- ان القصيدة مرتبطة بفرضية لطالما اثارت الجدل مؤداها علاقة الحب بين المتنبي وخولة شقيقة سيف الدولة , واذا صحت هذه الفرضية فان القصيدة تكون نتاج تجربة عاطفية فذة تزاد على صنعة ابي الطيب .
3- هناك ظواهر فنية تميز شعر المتنبي بيد انها ظهرت في هذه القصيدة بشكل اكثر وضوحا وبمبالغة شديدة .

ظروف كتابة القصيدة :
توفيت خولة عام 352 هـ , أي بعد مرور سنة واحدة او سنتين على مغادرة المتنبي بلاط سيف الدولة وضربه في البلاد بين مصر وفارس ثم محاولة العودة الى موطنه في الكوفة , ومن المعروف ان هذه كانت مدة جفوة بين الرجلين فشلت فيها كل محاولات سيف الدولة لاعادة شاعره وصديقه الى بلاطه مرة اخرى بعد استرضائه .
كما انه تلقى الخبر وهو بعيد عن وطنه تحت وطأة الاحساس بالغربة , مما جعل للخبر اثرا مضاعفا في نفسه واذا صدقنا فرضية احمد محمد شاكر وعبد الغني الملاح القائلة بان سبب مغادرة المتنبي بلاط سيف الدولة هو معارضة ابي فراس الحمداني زواج المتنبي بخولة - سيتضح لنا هول الصدمة التي تلقاها الشاعر بهذا الخبر , وكيف انه عاش تجربة نفسية مرة نتجت عنها هذه القصيدة المميزة في بنائها الفريد

مطالع المتنبي واستهلالاته :
تتميز مطالع المتنبي بهندساتها اللافتة , وبشكل خاص في بنيتها الصوتية , ففي كل قصائد الشاعر يهتم بالتمهيد للقافية بحيث لاتاتي اجنبية عن ما قبلها من السياق , فهو يورد حرف الروي مرة او مرتين في الحشو وانظر الى هذه الامثلة :
واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي ومالي عنده سقم
حرف الروي ( الميم ) يرد مرتين في حشو الصدر قبل وروده في حشو الصدر مرتين قبل ورودها في نهاية المصراع وكذلك تكررت مرتين في حشو الصدر والظاهرة نفسها نجدها في اغلب مطالعه مثل :
اعلى الممالك مابيني على الاسل والطغى عند مجيئهن كالقبل
وقوله:
عيد باي حال عدت ياعيد بما مضى ام لامر فيك تجديد
وقوله :
افاضل الناس اغراض لذا الزمن يخلو من الهم اخلاهم من الفطن
وفي القصيدة موضوع الورقة يلاحظ ان الشاعر مهد للروي في الصدر والعجز في كلمتي (بنت) و (بهما).
وثمة ظاهرة اخرى تخص ( الروي ) هو الصوت الغالب على القصيدة بحيث يكون اشبه بالخلفية الموسيقية الهارمونية التي تساعد في بناء الجو النفسي للتلقي .
لاكننا لانجد هذه الظاهرة في القصيدة التي نقرأها الان بل نجد صوتا اخرا لايمت له بصلة.

صوت (انحاء)الظاهرة الفريدة :
هذا الصوت من الاصوات المستكرهة في الشعر والقليلة الورود في الكلام العربي لما فيه من احتكاك شديد يتولد في اعلى الحلق .وقد نجد عند المتنبي ذاته قصائد خالية من هذا الصوت تماما ,فقصيدة:
فهمت الكتاب ابر الكتب
فسمعا لامر ابير العرب
التي ترجح انه كتبها بعد قصيدتنا مباشرة تتألف من (44)بيتا ومع ذلك لايرد فيها صوت انحاء الا ثلاث مرات .وفي قصيدة مماثلة يرثي بها المتنبي اخت سيف الدولة الاكبر من (خولة)التي توفيت قبلها:
ان يكن صبر ذي الرزيةفضلا
فكن الافضل الاعز الاجلا
تكرر (انحاء)ست مرات رغم انعا في موضوع متشابه وبطول مقارب (41)بيتا.
وفي قصيدته في رثاء جدته :
الا لا ارى الاحداث حمدا ولا ذما
فما بطشها جهلا ولاكفها حلما
المؤلفة من (34)بيتا لايرد صوت (انحاء)الا ست مرات ايضا.
امافي هذه القصيدة فأن (انحاء) يبرز بشكل لافت للنظر ابتدائاً من الكلمات الاولى ويبلغ عدد (21)مرة.
هذه الظاهرة الغريبة تشير الى هوس الشاعر في استحضار اسم المرثية الذي يكن قادرا عليه بسبب التقاليد القبلية والاجتماعية المعروفة.

حشد ادوات النفي:
والظاهرة اللافتة الاخرى في هذه القصيدة الحشد الكبير من ادوات النفي.فهناك (33)جملة منفية وحسب الجدول الاتي
لا
لم
غير
ما
ليس
سوى
المجموع
11
10
5
4
2
1
33

هذا العدد الكبير من الجمل المنفية قياساً بطول القصيدة لابد ان يكون له دلالة ما.ونظن ان هذه الدلالة مرتبطة بالظاهرة الاخرى التالية

خطاب المرثي :
من الظواهر غير المألوفة الاخرى في هذه القصيدة ان الشاعر يبدأها بمخاطبة المرثي وكانه يستحظرها وبالنظر الى البيت التالي
اجل قدرك ان تسمى مؤبنة
ويصفك فقد سماك للعرب
يظهر رفض الشاعر خبر وفاة المرثية بأصرار عجيب بل انه يطرح بهذا الرفض في بيت اخر:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بامالي الى الكذب
يضئ هذا البيت جانبا كبيرا من التجربة الشعورية التي كان يعيشها المتنبي اثناء نظم هذه القصيدة ،انها حالة صراع مرير بين تصديق الخبر وتكذيبه فتجلى تكذيب الخبر بمخاطبة المرثية مباشرة ،وتجلى تصديقه في تزاحم الجمل المنفية الرافضة لتجرع الحقيقة .
بقي ان نشير الى ان استقراءً لديون الشاعر يدلنا على هذه هي القصيدة الوحيدة التي تم فيها مخاطبة المرثي وكأنه حي،في رثاؤه لأقرب واعز الخلق الى نفسه ،جدته لأمه التي كان يعدها اماً،فعلى الرغم من القيمة الفنية العالية للقصيدة التي رثاها بها الا انه لم يوجه اليها الخطاب مباشرة الا في بيت واحد هو
ولم لم تكوني بنت اكرم والدٍ
لكان اباك الضخم كونك لي اما
فضلا من ان ذلك البيت جاء في منتصف القصيدة ،اما هنا فنحن ازاء قصيدة رثاء تبدأبخطاب المرثي في مطلعها ،ومطلعها هذا يبدأ بحرف النداء (يا).
صفات المرثية:
لايمكن ان نتصور ان مفردات مثل هذه (خمر،كذب،عنب،در،ذهب،شمس،الطيب،مفرق،الشنب.....)
يمكن ان ترد في قصيدة رثاء سيدة او اميرة على وجه الدقة .فالقصيدة تصد من صفات المرثية لم تألف العرب استخدامها في رثاء النساء فهو يصف جمال ابتسامتها ويلمح الى جمال اسنانها
يلمعن حين تحيي حسن بسمها
وليس يعلم الا الله بالشنب
انه وصف جميل لابتسامة حبيبته دون ان تكشف عن اسنانها ،ولكن متى اعتادت العرب وصف ابتسامة النساء في موضع الرثاء؟
وانظر وصفه في هذا البيت:
مسرة في قلوب الطيب مفرقها
ومسرة في قلوب البيض واليلبِ
هنا اشارة الى شعر المرثية وعنايتها به وكيف انه من الجمال الى درجة التي يسر العطر بأستخدامها له لتطيب شعرها .
وانظر كيف يجعلها في مقابل الخمر:
فأن تكن تغلب الغلباء عنصرها
فأن في الخمر معنى ليس في العنبِ
من الواضح ان هذه ليست صفاته مألوفة في الرثاء التقليدي ولكنها تشير الى خصوصية المرثية عند الشاعر .
شعور الشاعر:
الظاهرة الاخرى في القصيدة تعمد الشاعر وصف شعوره الشخصي في ابيات عدة بطريقة غير تقليدية ايظاً:
ارى العراق طويل الليل
فكيف ليل فتى الفتيان في حلبِ
أي هذا الشاعر يرثي اميرةفيصور سهده وسهده بسبب نعيها!ثم انظر كيف يستخدم عبارات اعتدنا على سماعها في قصائدالغزل:
يظن ان فؤادي غير ملتهبٍ
وان دمع عيوني غير منسكبِ
هذا حزن المحبين وليس حزن الشعراءاما الملوك .ثم انظر كيف يقترب من المرثية ويتماها معها :
قد كان كل حجاب دون رؤيتها فما قنعتِ لها ياأرض بالحجب
ولا رأيت عيون الناس تدركها فهل حسدت عليها اعين الشهب
وهل سمعت سلاماًلي لي الم بها فقد اطلت وما سلمت عن كثبِ
يلاحظ ان السياق يدل على ان السلام كان قبل موت المرثية لانه سبب لموتها.ثم ان هذه التي لاتدركها عيون الانس تمكن الشاعر من وصف ابتسامتها ومفرقها.
اخيراً نريد ان نشير الى بيت صرح فيه الشاعر تصريحاً مهماً :
ولاذكرت جميلاً من صنائعها
الا بكيت ولاوُد بلا سبب
يمكن ان نلاحظ هنا استخدام كلمة (ود) في رثاء( اميرة ) امرأة ولاريب في ان هذا امرغير معتاد في الرثاء ولايمكن قبوله تقليدياً.

زهراني زهران
09/02/2013, 12:10 AM
يا سلام
عليك يا أبا أحمد
حملتنا في جولة بين ثنايا
شعر لا يمكن أن ننساه
thank u

صقر الجنوب
09/02/2013, 12:46 AM
تسلم أخي زهران الزهراني على لطفك وجميل ثنائك

صقر الجنوب
09/02/2013, 12:47 AM
المتنبي في رثاء ام سيف الدولة


هذه بعض ابيات هذه المرثية
نعدّ المشرفّية والعوالي ................. وتقتلنا المنون بلا قتال
ونرتبط السّوابق مقربات ............... وما ينجين من خبب اللّيالي
ومن لم يعشق الدنيا قديما .............. ولكن لا سبيل الى الوصال
نصيبك في حياتك من حبيب ........... نصيبك في منامك من خيال
رماني الدهر بالارزاء حتّى ........... تكسّرت النّصال على النّصال
وهان , فما ابالي بالرّزايا ............. لانّي ما انتفعت بان ابالي
وهذا اوّل النّاعين طرّا ................ لاوّل ميتة في ذا الجلال
كانّ الموت لم يفجع بنفس ............. ولم يخطر لمخلوق ببال
صلاة الله خالقنا حنوط ................ على الوجه المكفّن بالجمال
على المدفون قبل الترب صونا ........ وقبل اللّحد في كرم الخلال
فانّ له ببطن الارض شخصا .......... جديدا ذكرناه وهو بالي
وما احد يخلّد في البرايا ............... بل الدّنيا تؤول الى زوال
اطاب النّفس انّك متّ موتا ............ تمنّته البواقي والخوالي
وزلت ولم تري يوما كريها ........... تسرّ الرّوح فيه بالزّوال
رواق العزّ حولك مسبطرّ ............. وملك عليّ ابنك في كمال
سقى مثواك غاد في الغوادي .......... نظير نوال كفّك في النّوال
اسائل عنك بعدك كلّ مجد ............ وما عهدي بمجد عنك خالي
يمرّ بقبرك العافي فيبكي .............. ويشغله البكاء عن السؤال
,,,,,,,,,,,,

صقر الجنوب
09/02/2013, 12:51 AM
هذه قراءة في إحدى أعظم قصائد أبي الطيب المتنبي ، وهي قصيدته العصماء التي يرثي فيها جدته لأمه ، في قصة شهيرة والقصيدة أشهر منها ، وتجد ملخصا للأولى أسفل الثانية .
والقصيدة من عيون المراثي العربية ، ومن لم يكن مطلعا عليها وعلى معانيها الرائعة ففي تذوقه للشعر نظر ، وفي انتسابه للأدب شك مريب .
أما بالنسبة للقراءة فهي فقط مجرد قراءة تذوقية قد بنيتها على ما وجدته للشراح الذين شرحوها كأبي العلاء والواحدي ، مع إظهار بعض الملامح النفسية للمتنبي من وجهة نظري الشخصية .
ولأننا في عصر ( التيك أواي ) و ( السندويتشات ) و ( البيتزا ) سريعة الأكل عسرة الهضم فإنني آثرت الاختصار في النظر قدر الإمكان ، لأن النقد غالبا ما يكون ثقيلا على نفوسنا نحن أبناء زمان ( التيك أواي ) = ( خذ و اجرِ !) ، ومقصدي الأكبر هو مشاركة الجميع بلا استثناء في قراءة وتذوق هذه الدرة الفريدة من فرائد أبي الطيب المتنبي ، عل فيها ، وفي مطالعتنا لأدبه ونظمه ما يكون أداء لحقه كشاعر العربية الأول ، الذي عز نظيره وعدم شبيهه فيما تلاه من زمنه إلى زماننا ، فضلا عمن سبقه من شعراء الزمان الأول على كثرة هؤلاء وهؤلاء .
ولو لم يكن من ثمرة هذا الموضوع سوى قراءة القصيدة والتمتع بمعانيها التي تخطر على البديهة فهو أمر لا بأس به ، عل من فعل يعلق بذهنه ما يكون سببا في الرجوع إلىه ذات يوم .




القصيدة



ألا لا أُرِي الأحـداثَ مَدحـاً ولا ذَمّـا ---فَما بَطشُهـا جَهـلاً ولا كفُّهـا حِلمَـا



إلى مثلِ ما كانَ الفتى مرْجـعُ الفتـى ---يَعُودُ كمَا أُبْدَي ويُكـرِي كمـا أرْمَـى



لَـكِ الله مِـنْ مَفْجُوعَـةٍ بحَبيبِـهـا ---قَتيلَةِ شَـوْقٍ غَيـرِ مُلحِقِهـا وَصْمَـا



أحِنّ إلى الكأسِ التـي شرِبَـتْ بهـا ---وأهوى لمَثواها التّـرابَ ومـا ضَمّـا



بَكَيْـتُ عَلَيهـا خِيفَـةً فـي حَياتِهـا ---وذاقَ كِلانـا ثُكْـلَ صاحِبِـهِ قِـدْمَـا



ولـوْ قَتَـلَ الهَجْـرُ المُحبّيـنَ كُلَّهُـمْ ---مضَى بَلَدٌ بـاقٍ أجَـدّتْ لَـهُ صَرْمَـا



عرَفْتُ اللّيالي قَبلَ مـا صَنَعَـتْ بنـا ---فلَمَا دَهَتْني لـم تَزِدْنـي بهـا عِلْمَـا



مَنافِعُها ما ضَـرّ فـي نَفْـعِ غَيرِهـا ---تغذّى وتَرْوَى أن تجـوعَ وأن تَظْمَـا



أتاهـا كِتابـي بَعـدَ يـأسٍ وتَرْحَـةٍ ---فَماتَتْ سُرُوراً بـي فَمُـتُّ بهـا غَمّـا



حَرامٌ علـى قَلبـي السّـرُورُ فإنّنـي ---أعُدّ الـذي ماتَـتْ بـهِ بَعْدَهـا سُمّـا



تَعَجَّـبُ مِـنْ لَفْظـي وخَطّـي كأنّمـا ---ترَى بحُرُوفِ السّطرِ أغرِبـةً عُصْمَـا



وتَلْثِمُـهُ حـتـى أصــارَ مِــدادُهُ ---مَحاجِـرَ عَيْنَيْهـا وأنْيابَهـا سُحْـمَـا



رَقَا دَمْعُها الجـاري وجَفّـتْ جفونهـا ---وفـارَقَ حُبّـي قَلبَهـا بَعدمَـا أدمَـى



ولـم يُسْلِهـا إلاّ المَنَـايـا وإنّـمَـا ---أشَدُّ منَ السُّقمِ الذي أذهَـبَ السُّقْمـا



طَلَبْـتُ لهـا حَظّـاً فَفاتَـتْ وفاتَنـي ---وقد رَضِيَتْ بي لو رَضيتُ بها قِسْمَـا



فأصْبَحتُ أسْتَسقـي الغَمـامَ لقَبرِهـا ---وقد كنْتُ أستَسقي الوَغى والقنا الصُّمّا



وكنتُ قُبَيلَ المـوْتِ أستَعظِـمُ النّـوَى ---فقد صارَتِ الصّغَرى التي كانتِ العظمى



هَبيني أخذتُ الثأرَ فيـكِ مـنَ العِـدَى ---فكيفَ بأخذِ الثّأرِ فيـكِ مـن الحُمّـى



وما انسَـدّتِ الدّنْيـا علـيّ لضِيقِهَـا ---ولكـنَّ طَرْفـاً لا أراكِ بـهِ أعـمَـى



فَــوَا أسَـفـا ألاّ أُكِــبَّ مُقَـبِّـلاً ---لرَأسِكِ والصّدْرِ اللّـذَيْ مُلِئـا حزْمَـا



وألاّ أُلاقـي روحَـكِ الطّيّـبَ الــذي ---كأنّ ذكيّ المِسـكِ كـانَ لـه جسمَـا



ولَوْ لـمْ تَكُونـي بِنْـتَ أكْـرَمِ والِـدٍ ---لَكانَ أباكِ الضّخْـمَ كونُـكِ لـي أُمّـا



لَئِـنْ لَـذّ يَـوْمُ الشّامِتِيـنَ بيَوْمِهَـا ---لَقَـدْ وَلَـدَتْ منـي لآنُْفِهِـمِ رَغْـمَـا



تَغَـرَّبَ لا مُستَعظِمـاً غَيـرَ نَفـسِـهِ --- وَلا قـابِـلاً إِلّا لِخالِـقِـهِ حُـكـمـا



ولا سالِـكـاً إلاّ فُــؤادَ عَـجـاجَـةٍ --- ولا واجِــداً إلاّ لمَكْـرُمَـةٍ طَعْـمَـا



يَقُولونَ لي ما أنـتَ فـي كـلّ بَلـدَةٍ --- وما تَبتَغي؟.. ما أبتَغي جَلّ أن يُسْمـى



كـأنّ بَنيـهِـمْ عالِـمُـونَ بِأنَّـنِـي --- جَلُـوبٌ إلَيهِـمْ مـنْ مَعادِنـه اليُتْمَـا



وما الجَمْعُ بَينَ الماءِ والنّارِ في يـدي --- بأصعَبَ من أنْ أجمَعَ الجَـدّ والفَهمَـا



ولكنـنـي مُسْتَـنْـصِـرٌ بـذُبَـابِـهِ --- ومُرْتكِبٌ في كـلّ حـالٍ بـه الغَشمَـا



وجاعِلُـهُ يَــوْمَ اللّـقـاءِ تَحِيّـتـي --- وإلاّ فلَسْـتُ السيّـدَ البَطَـلَ القَرْمَـا



إذا فَلّ عَزْمي عن مدًى خـوْفُ بُعـده --- فأبْعَدُ شيءٍ ممكـنٌ لـم يَجِـدْ عزْمَـا



وإنّـي لَمِـنْ قَـوْمٍ كـأنّ نُفُوسَـهُـمْ --- بها أنَفٌ أن تسكـنَ اللّحـمَ والعَظمَـا



كذا أنَا يـا دُنْيـا إذا شِئْـتِ فاذْهَبـي --- ويا نَفسِ زيدي فـي كرائهِهـا قُدْمَـا



فلا عَبَـرَتْ بـي ساعَـةٌ لا تُعِزّنـي --- ولا صَحِبَتْنـي مُهجَـةٌ تقبـلُ الظُّلْمَـا






مناسبة القصيدة

ورد على أبي الطيب كتاب من جدته لأمه تشكو شوقها إليه و طول غيبته عنها , فشد رحاله قاصدا نحوها, ولكنه لم يستطع دخول الكوفة , فنزل بغداد, وكانت جدته قد يئست منه , فكتب إليها كتاباً يسألها المسير إليه , ففرحت بكتابه أشد ما يكون الفرح وأخذت تقبله , فحمّت لوقتها سروراً به , وغلب الفرح على قلبها فقتلها .
و من أراد أن يقف على مكانة تلك المرأة في حياة أبي الطيب ، وقدر محبته لها ، فليراجع السفر العظيم الذي لم يصنف مثله ، ولا أظنه يكون شبيهه في دنيانا ، ألا وهو كتاب ( المتنبي ) للأستاذ العلامة الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى بواسع الرحمة وشمله بكريم المغفرة .
وذلك من صفحة 163 وما بعدها

قال


ألا لا أُرِى الأحداثَ حمداً ولا ذماً = فما بطشها جهلاً ولا كفها حلما

أُري : بالبناء للمجهول ، أي لا أمدحها ولا أذمها .
يستهل المتنبي قصيدته بنزعة الفخر الذاتية القوية ، مستهينا بالدنيا وأحداثها العظام ، وبأنه لا يحمد ما سره منها ، ولا يذم ما ساءه ، يقول المعري : لأنها لا تستحق ذلك فهي تأتي من غير قصد منها وذلك فعل الله تعالى .
فلا الشدة منها جهلٌ ، ولا الرخاء منها حلمٌ ، فلا معنى لمدحها ولا لذمها .
وأعجب هنا من موقف المتنبي من الأيام وصروفها ، فهو دائما ثائر عليها ، واقف في وجهها ، متوعد لها أن لا ترى منه إلا كل صلابة وعزم ، أما هنا فنشعر بالرغم من الاستهانة إلا أنها استهانة مسلم غير مكترث ، وليس كما عودنا استهانة مواجه مقاتل .

إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى = يعود كما أبدى ويُكرى كما أرمى

أبدى: أصله بدأ. ويكرى: ينقص. وأرمى: زاد.
يقول:
إن الإنسان كلما تقدم في العمر والسن والمكان ، فإنه عائد لا محالة إلى ضعف يتبعه ضعف اشد منه إلى أن يموت فمرجعه إلى ما كان عليه قبل وجوده .
وهذه النزعة التي توحي بالزهد والبصيرة بمآل هذه الدنيا قليلة في شعر أبي الطيب في هذه الفترة من حياته ، وإن كانت قد ازدادت بعد خروجه من مصر ودخوله بلاد فارس ولازمته حتى مماته أما هنا ، فهو بالرغم من بصره بالدنيا وأحوالها ، إلا أن آماله فيها كانت عظيمة ، ومبتغاه فيها كان كبيرا ، فمثل تلك النزعة الزهدية تفسد على أبي الطيب كثيرا من شعره ، لولا أنه ساقها في مقام الرثاء وهي هنا من لوازمه ، إذ أنه في حالة تذكر الموت وما يفعله بالإنسان .

لك الله من مفجوعة بحبيبها = قتيلةَ شوقٍ غير ملحقها وصما

المفجوعة: المتألمة للمصيبة.
قال أبو العلاء : وقوله: لك الله دعاء لها. أي كان الله لك حافظاً. وقيل: إنه تعظيم لحالها في شدة فجيعتها ، وهو أقرب والوصم: العيب ، أي أنها ماتت شوقاً إليه!! وهذا الشوق الذي قتلها لا يلحق بها عاراً؛ لأنه شوق لولدها.
ومسألة نفي الوصم عنها مقصودة كتمهيد لذكر مآثرها وحاسنها وفضائلها ، فهو ليس في حاجة لنفي ذلك عنها فقد كانت كما وصفت " من صلحاء الكوفة "

أحن إلى الكأس التي شربت بها=وأهوي لمثواها التراب وما ضما
بكيت عليها خيفةً في حياتها = وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما

الكأس: هو الموت. ومثواها: إقامتها.
يقول: أشتاق إلى الموت بعدها؛ لألحق بها، وأحب التراب، وما ضمها من القبر لأجل إقامتها فيه.
الثكل: موت الولد الحميم ، وقدما: نصب على الظرف. أي في زمان وروى: خيفة وحقبة أي مدة من الدهر، و بكيت عليها قبل موتها خوفاً من ألا ألقاها، وذاق كل واحد منا ثكل صاحبه قديماً ؛ بما كان بيننا من طول الفرقة وبعد المشقة.
نزعة الفناء العاطفية هذه عزيزة عند أبي الطيب عزيزة كذلك في شعره ، فهو ليس ممن يتمنى الموت ويحبه غير في مواطن العز والشرف والقتال ولقاء الأعداء ومجابهة الرجال ، أما أن يهوي الموت ويتمناه لمشاكلة حال حبيبته التي هي جدته فهذا معنى جديد في شعر أبي الطيب .
وهو كذلك شديد الترك ، نزاع إلى المفارقة ، إذا بلغه ولو يسير من الأذى ، لكن ههنا يأخذه الحنين إلى الموت ، وهو قد سلب منه أعز من عنده في الوجود ، وهذا يدل على قوة النزعة العاطفية التي في هذه القصيدة .

ولو قتل الهجر المحبين كلهم = مضى بلدٌ باقٍ أجدت له صرما

أجدت: أي جددت. وفاعله: الجدة المرثية .
فقد كان أهل بلدها كلهم يحبونها ، لفضلها ودينها ، ولو كان الهجر قاتلا كل من أحبها لما بقي بعدها أحد ولتقطعت أنفسهم كلهم لهجرها .
والمقصود ههنا أن يبرز الشاعر محبة كل الخلق لهذه الأم العظيمة .

منافعها ما ضر في نفع غيرها = تغذى وتروي أن تجوع وأن تظما

يقول المعري : إن منافع هذه المرأة فيما يضرها عند نفع غيرها. يعني: أنها كانت تضر بنفسها لتنفع غيرها، وإن ذلك كان نفعاً لها ، لأنها كانت تؤثر غيرها على نفسها فتجوع وتظمأ، فكأن جوعها إذا أشبعت غيرها يقوم لها مقام غذائها، وكذلك عطشها إذا أروت غيرها يقوم مقام ارتوائها. والمصراع الثاني تفسير الأول.
وههنا وقفة لا بد منها ، فهذه هي المرأة التي ربته ، والتي ارتضع منها لبان الخلق الكريم ، والنفس الحازمة ، وكثيرا من صفاتها قد تأثر بها بحكم النشأة والتربية ، وإشارة أبي الطيب لهذا الكرم الذي يفوق الكرم الحاتمي ، والذي تُذهب فيه المرأة منافع نفسها ، بل لا تراها إلا في نفع غيرها ولو جلب ذلك لها الضر ، في هذا الخلق رد غير مباشر على من اتهم أبا الطيب بالبخل ، وجعلها سمة لازمة له ،ممن نزع إلى كل فضيلة فيه فاستبدلها بضدها ، كاتهامه بالجبن ، وبجهل فنون الفروسية وألوان الالتحام والقتال ، وغيرها من التهم التي اتهم بها المتنبي بلا بينة من الأمر .
فإن من تربى في بيت كرمٍ على رغم الفاقة فهو أولى الناس بالسماحة والندى ، وهذا كان شأن المتنبي الذي يمدح نفسه كثيرا ببذله وعطائه وبره ، فكيف ينسب لنفسه في شعر تسير به الركبان ما ليس فيها ، فيقف عليه من عايشه وعاين بخله المزعوم فيكذبه ، وما كان الرجل كذوبا ، وكذلك أرومته العربية ونزعته القوية إليها ، تأبى له أن يكون كذلك بخيلا ، إذن فما فضله على سواه ممن هجاهم من الأعاجم الذين كانوا معه أسخياء كرماء ، في حين أنه هو العربي وارث السماحة والكرم كابرا عن كابر يعد من البخلاء ، فتأمل !

منقول

صقر الجنوب
09/02/2013, 12:54 AM
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا = فلما دهتني لم تزدني بها علما

ما بمعنى المصدر: أي قبل صنعها بنا. وقيل: أنها موصولة بمعنى " الذي ".
ومعرفته بالليالي كانت قد استحكمت في هذا التوقيت بالرغم من كونه ما زال في سن الشباب ، إلا أن التجريب قد قذف به إلى ما بعد الكهولة ، فقد ذاق مرارة السجن ، وتقلبت عليه فيه صروف الدهر ، وما ذاك إلا أنه استعلن ببعض ما في نفسه مما قد ثبت عنده أنه حق له ، وذلك كما يذكره العلامة محمود شاكر هو انتسابه للعلويين ، والذي سجن من أجله ،بل وقبل ذلك (( قبل ما صنعت بنا )) به وبها وهما بعد بالكوفة من هضم حقه وحقها في شرف النسبة التي أبى عليه العلويون أن يصرح بها فتسببوا في سجنه ، فلما خرج وأقام باللاذقية أياما معدودات أتاه كتاب جدته فتوجه إليها وكان ما كان من أمرهما ، فهو هنا يبث شكواه من الأيام ولكن في صورة تظهر قوته النفسية ، لأن له أعداء يشمتون به ،
فجاءت تلك الداهية التي فرقت بينه وبينها فلم تكسبه علما بسوء صنيع الأيام ، بل قد عرف كيف أن الأمور تجري على غير ما يحب قبل وقوعها .
أتاها كتابي بعد يأسٍ وترحةٍ = فماتت سروراً بي، فمت بها غما
حرامٌ على قلبي السرور فإنني = أعد الذي ماتت به بعدها سما

يصور هنا حال الجدة الشفيقة عليه ، المحبة له ، فإن كتابها الذي جاءه يسعى بعد خروجه من السجن لم يكن إلا عن تتبع لأحواله وما آلت إليه ، فكان يأسها وحزنها دليلا على إلمامها بحجم المصيبة الواقع فيها ، لأجل ذلك تسللت الأحزان إلى فؤادها حتى تملكها اليأس ، فلما جاءها كتابه على تلك الحال ، لم تتحمل شدة الفرحة ، التي كانت عاقبتها الموت ، لكنه الموت سرورا به ، الذي قتله هو غما بها ، و روعة هنا المقابلة تشد وتر الحزن الطَرِب في قلب السامع ،
ونستشعر من بين ثنايا الكلمات لمحة ندمٍ من أبي الطيب على ما كان من شأن الكتاب ، يكاد يتمنى أنه ذهب لملاقاتها دون أن يكتب لها ، وهذا ما أورثه ذلك الغم ، فالغم يكون عاقبة فعل من جناية الشخص على نفسه ويدل على ذلك قول الله تعالى " فأثابكم غما بغم " ، فقد كان ما أصابهم نتيجة فعلهم هم بمخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي ذات الحالة الشعورية تعبيره بقوله : أتاها كتابي ،ونسبة الفعل للكتاب ، مع إلصاق الضمير به الذي يشعرُ برغبةٍ في التنصل من الفعل الذي أعقب موتها ، مع نسبة الفعل به كالتصاق الضمير الذي يشير إليه بالكتاب .
وتحريمه السرور على نفسه لأجل أنها ماتت على أثره ، فيه من معاني المغالاة في الحب والبغض ما فيه ، الحب لها إلى حد تحريم الفرح ، والبغض له لأنه فرق بينهما ، لكنه لأنه يعرف أحوال الدنيا ، ويعلم أن الإنسان من طبيعته النسيان ، فإنه قد تتسرب إلى قلبه رغما عنه لحظة من ذلك السرور ، فاختار أن يعبر عنه بالسم ، لأنه لا أحد يتناوله مختارا ، إنما إن حدث فإنه يتناول السم مضطرا أشد ما يكون الاضطرار ، مع علمه بأن العاقبة هي موته بهذا السم .
تعجب من خطي ولفظي كأنها = ترى بحروف السطر أغربةً عصما
وتلثمه حتى أصار مداده = محاجر عينيها وأنيابها سحما

العُصم : جمع أعصم، وهو الذي في أحد جناحيه ريشة بيضاء. وقيل: هو الذي إحدى رجليه بيضاء، وذلك لا يكاد يوجد.
السحم: السود. والمحاجر: ما حول العينين .
يقول: إنها تعجبت من كتابي ! وكانت تنظر إليه وتكرر النظر اشتياقاً إلي واستعجاباً؛ لأن عندها أني قدمت، فكأنها ترى غراباً أعصم؛ لفرط التعجب.
فلم تزل تقبله وتمسح به على وجهها وعينيها وهي تبكي، حتى اسودت أنيابها ومحاجرها.
يرسم المتنبي بريشته الفخمة هذه الصورة البديعة ، مصوراً تعجب الجدة مما رأته عيناها ، حتى كأنها ترى ما لا يكاد يوجد منفردا " الغراب الأعصم " ، فأورده هو بصورة الجمع " أغربة عصما " وهو أشد في الندرة ، وأبلغ في وصف العجب من كتابه .
ثم إن العجب لم يكن فقط أن وردها كتاب من حبيبها فلا تصدق أنها تطالع خطه ، ولكنها تتعجب من اللفظ وسحره والبيان وحلاوته ، فتخيل معي أبا الطيب يراسل جدته التي لم يعرف أبا ولا أما سواها ، وتخيل اشتياقه لها بعد خروجه من محنته ، وتكبده العناء بالعودة لأقرب محلةٍ ليستطيع رؤيتها ، تخيل معي ماذا سيكتب لها ؟! ، بأي بيانٍ وبأي جمالٍ في القول ؟! وبأي عاطفة وبأي اشتياق ؟!
وتأمل معي الصورة المحمومة التي صور بها تقبيلها لكتابه ، حتى سوّدت محاجرها وأنيابها ، وأنى للقبلة أن تصل ثم إلا إذا كانت قبلة من تخللت المحبة لحمه ودمه ؟ أي محبة كانت تلك التي تجمع هذا الرجل بهذه الأم ؟! هذه هي المعاني الرائعة التي ينثرها المتنبي بين طيات نظمه الدري .

رقا دمعُها الجاري وجفت جُفُونُها = وفارقَ حُبي قلبها بعد ما أدمى

ولم يُسلها إلا المنايا، وإنما = أشد من السقم الذي أذهب السُقما

رقا: رقأ مهموزا أي انقطع.
يقول أن دمعها الذي جرى لفراقه ، قد جف ، وحبي الذي ملأ قلبها قد فارق ذلك القلب ،
وههنا صورة رائعة لمقابلة عجيبة ، فإن ذلك الدمع الذي توقف انسكابه من عيونها ، قد صار دما ينزف من قلبها .
وقد كانت تطلب الصبر على السقم برؤيتي ، أو بكتاب مني ، فلم يذهب سقمها إلا ما هو أشد من السقم وهو الموت
طلبت لها حظاً، ففاتت وفاتني = وقد رضيت بي لو رضيت بها قسما

وما ذاك الحظ الذي طلبه لها أولا ، إلا تحقيق هذا الشرف الرفيع الذي كانت هي سبيل وقوفه عليه ، فخرج يضرب في البلاد ليجد من يناصره على ذلك ، فماتت قبل أن يتحقق له ، وعزم على ألا يطالب به مرة أخرى " وفاتني " ، لأن من طلبه من أجلها قد فاتت ، ثم يعود إلى لهجة الندم على ما فات من عمره بعيدا عنها بقوله: " وقد رضيت بي لو رضيت بها قسما "فقد كان يكفيها من حظ الدنيا قربه منها ، وقد رضيت بذلك الحظ وتلك القسمة ، لكنه ما رضي بها ويخرج يطلب ما هو أعلى منها .

فأصبحت أستسقيي الغمام لقبرها = وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما

وكنت قبيل الموت أستعظم النوى = فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى

في هذين البيتين حالة من التغير الذي اعترى نفس الشاعر نتيجة تلك الفاجعة الأليمة ، فبعد أن كان يجمع الرأي للحرب والقتال ، صار يجمع الأكف للدعاء مخلفا القتال وراءه ، وبعد أن كان يستصغر الموت ويستهين به ، ويعتبر أن فراقه إياها أشد منه ، فأصبح يرى أن أن الفرق لا شئ مقارنة بموتها الذي هو عظيم على نفسه
وما هذا إلا لشدة تأثير موتها فيه ، فقد كان يجمع الدنيا من حوله ليركب ظهر مجد هي التي غرست في قلبه أسبابه ، ويرى كل مصيبة دونه تهون ، أما الآن فقد انتهت تلك الآمال العظمى بموتها الأليم .
هبيني أخذت الثأر فيك من العدى = فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى؟

إن الوقوف على معنى أبي الطيب وعلى لفظه قبل معناه وقوف إجلال وتعظيم لروعة النظم ودقة المعنى .
فهو يخاطبها خطاب اليائس المحزون ، ضارب لها مثلا أنه لو أخذ ثأرها من أعدائها ، فكيف له السبيل لأخذ الثأر من الحمى التي ماتت بها ، فهذا ما لا سبيل إليه ، وما لا يتخيل ، وما لا يقوله إلا المحب الشفيق .

وما انسدت الدنيا علي لضيقها = ولكن طرفاً لا أراك به أعمى

هكذا تكون المحبة ويكون الحب بين المحبين ، فإنه لا يري الدنيا أغلقت أمام ناظره سبلها لضيق حل بها ، لكن لأن عيونه التي لا تراها هي عيون فقدت النور التي تبصر به
فوا أسفاً ألا أكب مقبلاً = لرأسك والصدر اللذي ملئا حزما

لهجة أسف تفتك بالروح وتدمي الفؤاد ، لحقيقة أنه لم يتح له لقاءها ، لينعم بتقبيل رأسها وصدرها ، اللذان ملئا حزما وعقلا وبصير بتدبير الأمور ، وهو اعتراف بفضلها ، لأن المتنبي اشتهر بتعقله وحزمه طيلة حياته ، وإنما اكتسب ذلك مما علمته إياه تلك الجدة ، فهو أبصر الناس بصفاتها ، وأعلم الناس بأحوالها
وألا ألاقي روحك الطيب الذي = كأن ذكي المسك كان له جسما

إما أن يلاقي تلك الروح حيا فقد فاته ذلك ، وإما أن يلاقيها ميتا ، فقد يطول عليه ذلك أيضا ، والتشبيه هنا غاية في الروعة إذ يشبه جسدها الذي احتوى تلك الروح ، بالمسك الذكي ، فإن كان القالب الذي يحوي تلك الروح من المسك الذكي ، فما شان تلك الروح ، لا شك أنها أسمى وأعلى
....

صقر الجنوب
09/02/2013, 01:02 AM
ولو لم تكوني بنت أكرم والدٍِ = لكان أباك الضخم كونك لي أما

" يا الله "
أي مديح وأي فخر وأي أدب هذا !مدح أباها وفضله بكرمه على سائر آباء الناس ، وفخر بنفسه على كل أبنائهم ، مع مراعاة قدر الجد الممدوح وحفظ مقامه ، فوجودالوالد منع من أن يكون فخرها فقط بكون الشاعر ولدها ، وفي هذا كمال الفخر .
هذا هو أبو الطيب ، رجل يزن الألفاظ في شعره بميزان أرق من ميزان الذهب .


لئن لذ يوم الشامتين بموتها = فقد ولدت مني لآنُفهم رغما

وما شمت بها إلا أولئك الذين منعوه من حقه في إظهار نسبه الشريف ، بل وسجنوه عليه ، فلما ماتت من كانت تحول بينه وبينهم ، فقد تركت من خلفها من يرغم أنوفهم ، ويذيقهم الذل والهوان .


تغرب لا مستعظماً غير نفسه = ولا قابلاً إلا لخالقه حكما
ولا سالكاً إلا فؤاد عجاجةٍ = ولا واجداً إلا لمكرمةٍ طعما


العجاجة : غبار زحمة الخيل عند القتال.
يصف حاله في سياحته في الأرض بكونه ضرب في الأرض غريبا بعيدا عن الأهل والإخوان ، ممتنعاً بنفسه لا بسواها مستصغرا كل عظيم في سيره ، لا ينزل على حكم أحد إلا على حكم ربه بما أراد له ،سالكا في كل ذلك أصعب الدروب ، دروب الحرب والقتال ، وهو مع ذلك لا يهين نفسه ولا يذلها بل يأخذ بأسباب المكارم دون سواها فلا يقبل ذلا ولا هوانا .
واستغراقه هنا في وصف هذه الحال ، لئلا يُظن به أنه خرج من بلده لطلب المعاش عند أبواب الأمراء ، كما كانت عادة الشعراء في زمنه ، فيعطيه منهم من شاء ويمنعه من شاء ، ويحكم هذا فيه بضيم وآخر يحكم عليه بترك حقه ، ويذكر انه أبى تلك الطريق وسلك سبيلا أخرى لا يسلكها إلا كل كريم شجاع يأبى الذل ويرفض الهوان .


يقولون لي: ما أنت في كل بلدةٍ؟! = وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى

فقد حير حاله الناس في كل مكان دخله ، فلا هو بطالب الأموال على أبواب الامراء ، ولا هو بطالب الذكر في الناس ، فإن ذكره قد طار في آفاق الدنيا ولم يلج الثلاثين من عمره بعد ، مع كثرة تطلعه في شعره إلى ألوان المعالى وأشكال المفاخر ودرجات المكارم ، فخفي أمره ومراده ، على من تتبع حاله .
وقوله " ما أبتغي جل أن يسمى " معرفة من الرجل بخطورة ما يريده وما يصبو إليه وما شغل نفسه به ، ولما كان السؤال من أعدائه الذين منعوه حقه ، والذين ملأوا قلبه حقدا ، فهو سؤال الخائف المهدَدِ ، فهم يعلمون أن بينه وبينهم ثأرا ، ومثله لا يهدأ حتى يدرك ثأره ( راجع المتنبي للعلامة محمود شاكر رحمه الله ص 243 )


كأن بنيهم عالمون بأنني = جلوبٌ إليهم من معادنه اليتما

قال أبو العلاء :الكناية في بنيهم: للشامتين. والهاء في معادنه: لليتم، غير أنه قدمه في اللفظ، وهو مؤخر في المعنى.
- وما علم بنوهم بذلك ، إلا لحديث الآباء عنه ونقلهم لخوفهم منه إلى أبنائهم ، فإن الأبناء لا تبلغ أفهامهم مثل تلك الأمور ، ولا ينقل الآباء ذلك للأبناء إلا لشدة مخافتهم من وقوعه .
وما الجمع بين الماء والنار في يدي = بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
الجد البخت والحظ من الدنيا والمعنى أن الفهم في الأمور والعلوم والعقل في التدبير لا يجتمع مع البخت في الدنيا وليس الجمع بين الضدين بأصعب من الجمع بينهما أي فهما لا يجتمعان كما لا يجتمع الضدان


ولكنني مستنصرٌ بذبابه = ومرتكبٌ في كل حالٍ به الغشما
وجاعله يوم اللقاء تحيتي = وإلا فلست السيدَ البطلَ القَرْمَا


أراد بالذباب: السيف، فأضمره، وذبابه: حده. والغشم: الظلم. والقَرْم: السيد الرئيس.
يقول فإني لا أستنصر بأحد من الناس ، بل أطلب النصر بالسيف، وأرتكب الظلم، حتى أنال به ما أريد أخذه.
ويوم الحرب لا أرفع يدي بتحية ، ولكني أرفعه لضرب وجوههم به ، وأقيمه مقام التحية وإن لم أفعل فلست بسيد شجاع، ولا كريم مطاع.
وهو من قول عمرو بن معد يكرب.

وخيلٍ قد دلفت لها بخيلٍ ... تحية بينهم ضربٌ وجيع


والمتنبي هنا يظهر لنا بصورة السيد المطاع الكبير في قومه ، وليس مجرد شاعر ينتقل بين البلاد وبين الأمراء ، فو يعيد إلى الاذهان صورة عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وغيرهم من شعراء القبائل الفرسان السادة الكبار ، وهكذا كانت حياته حياة سيد من السادات لا واحدٍ من الشعراء .


إذا فلَّ عزمي عن مدىً خوفُ بعده = فأبعد شيءٍ ممكنٌ لم يجد عزما

قوله: خوف: فاعل فلَّ. وعزمي : فاعله.
يقول: إذا كسر عزمي؛ مخافة بعد المدى. يعني: كلما رمت أمراً بعيداً فأكسر عزمي خوفاً من بعده، فلم أظفر بمطلوب أبداً، فإنه إنما يدرك بصحة العزم، وأقرب الأشياء تناولاً إذا لم يكن عزم على تناوله فهو أبعد الأشياء .


وإني لمن قومٍ كأن نفوسنا = بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما

قال المعري : كان القياس أن يقول: كأن نفوسهم، غير أنه يختار رد الكناية إلى الإخبار عن النفس؛ لما فيها من مبالغة المدح.
- وهذه من أعظم الكناية عن حب الموت ومقارفة أسبابه ، فلأن هذه النفوس الكبيرة تأنف سكنى اللحم والعظم فإنها تطلب الموت في مظانه ، وما مظانه إلا ساحات الحرب والوغى والقتال، وطلب الحقوق المسلوبة واسترداداها وإلا فالموت دونها .
وعلى هذا المعنى تدور كثر من أبيات المتنبي في شعره ، معنى حب الموت والأنفة من حياة لا فخر ولا عز فيها كحياة آحاد الناس
يقول: إنا نختار الموت ونلتذه؛ فكأن نفوسنا تأنف أن تسكن العظم واللحم، فتحب مفارقتهما وتحرص على التخلص منهما.


كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي = ويا نفس زيدي في كرائهها قدما

يقول: كذا أنا. أي: هكذا مذهبي. وقيل: أراد أنا مثل قومي، لا أرغب في الدنيا، فمتى شئت أيها الدنيا فاذهبي، ويا نفسي ازدادي في كراهة الدنيا وشدائدها، فإني لا أبالي بالدنيا وحياتها، وخيالاتها.
وهو يطلب من الدنيا التسليم بأمره ، وبما اختاره لنفسه ، أو فلترحل عنه ، فهو في أتم استعداد للرحيل ، ويحض نفسه على الزيادة في بغضها والنفور منها ، فليست هي ولا زينتها ولا زخرفها له بمراد ، وإنما مراده منها العلا والمفاخر العظام .


فلا عبرت بي ساعةٌ لا تغزني = ولا صحبتني مهجةٌ تقبل الظلما

روى: غبرت وعبرت. أي مضت. يعني إنما أريد الحياة للعز، فكل ساعة لا أكسب فيها عزاً أماتني الله قبلها، ولا صاحبت نفسي محتملةً للظلم، وفرق الله بيني وبينها.
قال أبو العلاء : وجعل قومٌ يستعظمون ما قال في آخر هذه القصيدة فقال
يستكثرون أُبَيْاتاً نأمت بها ... لا تحسدنَّ على أن ينئم الأسدا
لو أن ثم قلوباً يعقلون بها ... أنساهم الذعر مما تحتها الحسدا

نأم ينأم: أي صوت. والنئيم: الصوت والأبيات: تصغير الأبيات. وأراد بتصغيرها أنها صغيرة إلى جنب فعله. ونصب الأسد بتحسدن أي لا تحسدون الأسد. وأن مع الفعل: بمعنى المصدر. أي على نئيمه.
يقول: إنهم استعظموا هذه الأبيات، وفعالي أعظم منها، فأنا الأسد، والأسد لا يحسد على زئيره؛ لأن فعله أعظم من صوته، فلا ينبغي أن تحسدوني على ذلك.
الهاء في تحتها: للأبيات، وفي بها: للقلوب.
يعني: لو كان لهم قلوب فيها عقول لأنساهم ما تضمنته أبياتي من الذعر والحسد الذي هم عليه.

انتهت القصيدة
يتبع إن شاء الله بذكر بعض النواحي الفنية في هذه القصيدة بصورة إجمالية

لؤلؤة زهران
09/02/2013, 09:50 AM
مديرنا الفاضل اشكرك على اختيارك الراقي موضوع
رائع بروعة تواجدك العطر
سلمت يداك ودمت بخير وعافيه

صقر الجنوب
09/02/2013, 10:56 AM
شكرا لجمال تواجدك وطيب كلامك