صقر الجنوب
06/08/2005, 08:07 PM
بقايا حصون - محمد بن زياد
وقف مزهواً بإنجازه الذي أوصى به والده عندما قال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة "ابن لك يا ولدي في كل واد حصناً".
اعتبر أن بناء تلك الحصون القوية على القمم والوهاد والتي أنفق عليها معظم ثروة والده التي خلفها بعده آخر عمل يبره به. رغم الشكوك التي كانت تساوره عن جدواها والحكمة من الوصية ببنائها. كانت الحصون ذات أبراج تمكن الحراس والمدافعين عن الديار من مشاهدة اللصوص والغزاة والمهاجمين وتصويب بنادقهم إلى صدورهم دون أن يرونهم أو يعرفوا حتى وجودهم. لكن ما كان يدركه هو أن والده كان يكره الحرب وتتسم علاقاته بجيرانه بالحب وقد دمر أكثر من حصن بني من الحجر عندما آلت إليه بعض الأملاك. ومع ذلك كان يعتبر أن هذه الوصية هي أهم ارث ورثه من أبيه.
في القرى المجاورة ساد الخوف والهلع من هذا التصرف واعتبره الكثير عملاً عدوانياً فقد أصبحت ترصد حركات الناس بل وحجب الرؤيا وعلت لذلك الأصوات المعترضة ودق المستعجلون طبول الحرب والعزم على دك تلك الحصون وتدميرها.
استقبل وفود المصلحين. لكن موقفه كان صلباً لم يتغير فهو يشعر بأنه أبرأ ذمته من وصية والده. وليس لديه الاستعداد بأن يكون عاقَّاً بعد أن كان وفياً طوال حياته ولو كلفه ذلك حياته.
العقلاء عادة يكرهون الانقياد للمستعجلين أو أصحاب النزوات العاجلة ويعلمون ما تخلفه من أحقاد وثأر فنصحوا بالتريث.
مرت الأيام والسنين دون أن تؤدي تلك الحصون ما توقعوه منها بل أصبحت مأوى للغربان والطيور المهاجرة.
وذات ليلة قاسية البرودة وبينما كان في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة المغرب استوقفه عابر سبيل يبحث عن مأوى وطعام بعدما أضناه التجوال فبادره بالسؤال.
أنت الذي بنى تلك الحصون؟
قبل أن يرد عليه تأمله فعرف من هيئته أنه عابر سبيل فضولي. لكن الشك وجد إلى نفسه طريقاً فلعله مدفوع. ورغم ذلك رد عليه بلهجة يغلب عليها التحدي.
وما يعنيك من ذلك؟
أريد مصلحتك.
حسناً. نعم أنا الذي بنيتها.
ولكن ما الهدف؟
شاط منه غضباً وقال بلهجة حادة:
الأمر لا يعنيك، هيا اغرب من وجهي.
ثم ولى متجهاً إلى المسجد.
مهلا ًيا سيدي. هل يحسن بك أن تطرد ضيفك؟
يبدو أن الغريب لديه رسالة هامة يود أن يوصلها إلى ذلك الابن المتصلب التفت إليه وقال له: ولكن أنت متطفل وتتحدث في أمور لا تعنيك.
هل يجمل بك أن تستضيفني هذه الليلة لنستمتع بالدفء سويّاً؟
انتهت الصلاة وعادا سويّاً إلى المنزل. تجاذبا أطراف الحديث وكان الغريب مصمماً على معرفة الهدف من بناء تلك الحصون أما صاحب المنزل فكان يتحاشى الخوض في الحديث عنها.
عندما علم الغريب بالقصة رد يده إلى فمه ليمنع ابتسامة عريضة ارتسمت على شفتيه خشية أن يستمتع بالبرد في الخارج بدلاً من الدفء في الداخل.
قال وهو يحرك شهاب قبس ليزيد المكان دفئاً:
ولكن والدك أحكم منك يا بني. ولو كان حياً لاعتبر ما فعلته عقوقاٌ.
وأردف: إن والدك يا بني لا يقصد بناء حصون من حجر فهو يكره الحرب.
أليس كذلك؟
بلى... ولكن ماذا فهمت أرشدني.
إنه الحب يا بني ثم صمت.
وقع هذا القول على المضيف وقع الصاعقة.
ضرب بيده على ناصيته وطأطأ رأسه قليلاً وقال معاتباً نفسه:
إنه الغباء المستحكم.
لم يفق الناس في صبيحة اليوم التالي إلا على أصوات الانهيارات فقد بدت الحصون تتهاوى الواحدة تلو الأخرى حيث قرر هو والغريب والجيران أن يبنوا حصوناً ولكنها من نوع آخر.
__________________________________
المرجع:المجموعة القصصية الأولى – بقايا حصون محمد بن زياد الزهراني
من إصدارات النادي الأدبي بالباحة
وقف مزهواً بإنجازه الذي أوصى به والده عندما قال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة "ابن لك يا ولدي في كل واد حصناً".
اعتبر أن بناء تلك الحصون القوية على القمم والوهاد والتي أنفق عليها معظم ثروة والده التي خلفها بعده آخر عمل يبره به. رغم الشكوك التي كانت تساوره عن جدواها والحكمة من الوصية ببنائها. كانت الحصون ذات أبراج تمكن الحراس والمدافعين عن الديار من مشاهدة اللصوص والغزاة والمهاجمين وتصويب بنادقهم إلى صدورهم دون أن يرونهم أو يعرفوا حتى وجودهم. لكن ما كان يدركه هو أن والده كان يكره الحرب وتتسم علاقاته بجيرانه بالحب وقد دمر أكثر من حصن بني من الحجر عندما آلت إليه بعض الأملاك. ومع ذلك كان يعتبر أن هذه الوصية هي أهم ارث ورثه من أبيه.
في القرى المجاورة ساد الخوف والهلع من هذا التصرف واعتبره الكثير عملاً عدوانياً فقد أصبحت ترصد حركات الناس بل وحجب الرؤيا وعلت لذلك الأصوات المعترضة ودق المستعجلون طبول الحرب والعزم على دك تلك الحصون وتدميرها.
استقبل وفود المصلحين. لكن موقفه كان صلباً لم يتغير فهو يشعر بأنه أبرأ ذمته من وصية والده. وليس لديه الاستعداد بأن يكون عاقَّاً بعد أن كان وفياً طوال حياته ولو كلفه ذلك حياته.
العقلاء عادة يكرهون الانقياد للمستعجلين أو أصحاب النزوات العاجلة ويعلمون ما تخلفه من أحقاد وثأر فنصحوا بالتريث.
مرت الأيام والسنين دون أن تؤدي تلك الحصون ما توقعوه منها بل أصبحت مأوى للغربان والطيور المهاجرة.
وذات ليلة قاسية البرودة وبينما كان في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة المغرب استوقفه عابر سبيل يبحث عن مأوى وطعام بعدما أضناه التجوال فبادره بالسؤال.
أنت الذي بنى تلك الحصون؟
قبل أن يرد عليه تأمله فعرف من هيئته أنه عابر سبيل فضولي. لكن الشك وجد إلى نفسه طريقاً فلعله مدفوع. ورغم ذلك رد عليه بلهجة يغلب عليها التحدي.
وما يعنيك من ذلك؟
أريد مصلحتك.
حسناً. نعم أنا الذي بنيتها.
ولكن ما الهدف؟
شاط منه غضباً وقال بلهجة حادة:
الأمر لا يعنيك، هيا اغرب من وجهي.
ثم ولى متجهاً إلى المسجد.
مهلا ًيا سيدي. هل يحسن بك أن تطرد ضيفك؟
يبدو أن الغريب لديه رسالة هامة يود أن يوصلها إلى ذلك الابن المتصلب التفت إليه وقال له: ولكن أنت متطفل وتتحدث في أمور لا تعنيك.
هل يجمل بك أن تستضيفني هذه الليلة لنستمتع بالدفء سويّاً؟
انتهت الصلاة وعادا سويّاً إلى المنزل. تجاذبا أطراف الحديث وكان الغريب مصمماً على معرفة الهدف من بناء تلك الحصون أما صاحب المنزل فكان يتحاشى الخوض في الحديث عنها.
عندما علم الغريب بالقصة رد يده إلى فمه ليمنع ابتسامة عريضة ارتسمت على شفتيه خشية أن يستمتع بالبرد في الخارج بدلاً من الدفء في الداخل.
قال وهو يحرك شهاب قبس ليزيد المكان دفئاً:
ولكن والدك أحكم منك يا بني. ولو كان حياً لاعتبر ما فعلته عقوقاٌ.
وأردف: إن والدك يا بني لا يقصد بناء حصون من حجر فهو يكره الحرب.
أليس كذلك؟
بلى... ولكن ماذا فهمت أرشدني.
إنه الحب يا بني ثم صمت.
وقع هذا القول على المضيف وقع الصاعقة.
ضرب بيده على ناصيته وطأطأ رأسه قليلاً وقال معاتباً نفسه:
إنه الغباء المستحكم.
لم يفق الناس في صبيحة اليوم التالي إلا على أصوات الانهيارات فقد بدت الحصون تتهاوى الواحدة تلو الأخرى حيث قرر هو والغريب والجيران أن يبنوا حصوناً ولكنها من نوع آخر.
__________________________________
المرجع:المجموعة القصصية الأولى – بقايا حصون محمد بن زياد الزهراني
من إصدارات النادي الأدبي بالباحة