08/09/2004, 03:39 PM
|
#14
|
عضوة مؤسسة
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 9
|
تاريخ التسجيل : Aug 2004
|
العمر : 31
|
أخر زيارة : 28/03/2010 (04:03 PM)
|
المشاركات :
283 [
+
] |
التقييم : 32
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
صياد العصافير
صياد العصافير قبل مئات السنين، عاش في المدينة الخضراء رجل عجيب اتخذ من صيد العصافير مهنة له، فتفنن في ابتداع طرق ووسائل صيدها، وعرفه جميع الناس وذاع صيته، وسمع به الكثيرون في مدن كثيرة، وسمّوه صياد العصافير، ثم شاع هذا الاسم الجديد حتى نسي الجميع اسمه الحقيقي.
كان يصطاد أعداداً كبيرة من العصافير كل يوم، ولم يكن هناك أحد يعرف ماذا يصنع بها ؟! كيف يبيعها؟ وأين ؟ لكن الناس في المدينة الخضراء تنبّهوا إلى أمر غريب كان عليهم أن يتوقّعوه: هو أن عدد العصافير بدأ يقل في المدينة، وصار من النادر والمفرح أن يرى الإنسان عصفوراً على غصن شجرة أو واجهة بيت أو في فِناء منزل، لكنّهم لم يكترثوا كثيراً حتى بعد أن تنبّهوا، فما دخل العصافير في حياتهم؟!
غير أن الأولاد والصبيان في المدينة الخضراء أحزنهم هذا الأمر، ومن دون وعي أو قصد، صاروا يشيرون قافزين مبتهجين فرحين كلما رأوا عصفوراً في مكان، ثم أخذ الأولاد يتحركون من مكان لمكان من أجل رؤية عصفور كان يطير مرعوباً من فرط وحشة المدينة التي تخلو من جماعة العصافير، حتى أن العصفور الوحيد كان يصيح خائفاً مستنجداً لعلّه يسمع صوتاً آخر، وإن كان في آخر المدينة.
وهكذا صارت العصافير الوحيدة تطير من مكان لمكان حتى يجتمع اثنان أو ثلاثة منها، ومع هذا كله لم يهتمّ الناس الكبار، ولم يكترثوا ..
وكان صياد العصافير يتبعها، ويصيد تلك الفرادى الحزينة المستوحشة، فإذا صادف أن رآه مجموعة أولاد، فإنهم يسرعون لكي يدفعوا العصفور للطيران والابتعاد عن مكان الصياد، أو يزعقون ويصيحون ليغطّوا على صوت نداءاته المرتاعة الفزعة، فلا يسمعها الصياد..
ثم جاء ذلك اليوم، وساد سكون خاص زاد من حزن الأولاد وشعورهم بالوحشة والخوف، فقد خلت المدينة من أي عصفور، ولم يعد يرى رفيف جناح أو صدى زقزقة، ويوماً وراء يوم كان الناس ماضين في حياتهم وأعمالهم، لا شأن لهم بالعصافير وصياد العصافير.
لكنْ.. شيئاً فشيئاً، ووقتاً وراء وقت، شعر الناس بوجود شيء غريب في المدينة.. كان هناك ما تغيّر فيها.. صار الناس يحسون به ولا يعرفونه، وتنبّه واحد منهم إلى وجود بعوض، وتنبّه آخر إلى وجود حشرات أخرى طائرة أو زاحفة، والأكبر من هذا أن مجموعات كبيرة من الجراد بدأت تظهر في المزارع والمراعي والبساتين والحقول، وصارت الحياة أكثر صعوبة مما توقّعه الجميع. فقد لاحقت أعداد البعوض والذباب الناس في داخل بيوتهم وحجرات نومهم، وزحف الجراد إلى كلّ مكان فيها، وضجّ الناس من الشكوى، وطلب الجميع الحلّ..
كان صياد العصافير قد انتقل إلى مدينة الفيحاء المجاورة، وتابع صيده للعصافير، لكن الناس فيها سمعوا ورأوا ما حلَّ بالمدينة الخضراء، ولكي لا تصل حالهم إلى ما وصلت إليه حال تلك المدينة، قبضت شرطة مدينة الفيحاء على الصياد، وبدل أن يحاكموه أو يعاقبوه، رأوا أن يقوموا بتسليمه إلى رجال المدينة الخضراء.
كانت محاكمته من أكبر ما شهدته المدينة الخضراء من أحداث، إذ اجتمع الناس صغاراً وكباراً في ساحتها الكبيرة، وتقدّم الأولاد ليحاكموه وأروه مقدار ما ألحقه بهم من أذى .. وأبكاه ما رآه عليهم من حزن، وحاكمته النساء بسبب ما أحلّه من وحشة وسكون ثقيل في البيوت بعد صيده لعصافيرها، وحاكمه الرجال بسبب ما ألحقه في المدينة الخضراء من أذى ودمار وخسارة، وحكموا عليه بالبقاء في أكثر مناطق المدينة جراداً وبعوضاً وحشرات وذباب، وتركوه مكشوف الجسم تحت رحمتها جميعاً.
كان الجميع يعرفون الحل، أن تعود العصافير تعشّش وتزقزق وتطير في المدينة . لكنْ كيف ؟؟
رأوا أن يجلبوا عصافير من مدن أخرى أو بلدان أخرى، ورأوا أن يجلبوا بيضاً ليفقس في المدينة فلا تعرف عصافيرها غيرها .. ورأوا ...
لكن ولداً لطيفاً تقدّم من الجميع، وفي يده قفص فيه عصفوران، ذكر وأنثى، وقال:
لديّ هذان العصفوران، كنت خبأتهما في بيتنا عن عيون الجميع حتى عن عيون أبي وأمي.
عندئذ تقدّم حاكم المدينة الخضراء وحمل العصفورين بيديه كما يحمل أثمن شيء في مدينته كلها، ورفعهما عالياً، وأطلقهما في الريح.
والعجيب أن العصفورين طارا متسابقين، طارا وطارا حتّى لفّا المدينة كلّها مرات من دون أن يهبطا أو يحطّا في مكان ليستريحا، ثم غابا عن الأنظار تماماً وسط تهليل وتصفيق وفرح الجميع.
بعد سنين، عاد الأولاد يبتسمون، وعادت الأمهات تتنادى من داخل بيوتهنّ، وانشغل الرجال في أعمالهم، فقد امتلأت الأشجار ولسُطوح، وفناءات المنازل بالكثير الكثير من العصافير المزقزقة الوديعة، وقد عرف الجميع درساً كبيراً هو أن الله سبحانه وتعالى له حكمة بالغة في خلقه لمخلوقاته كلها!!.
|
|
|