( الحلقة الثانية )
كان أحد الصالحين يقوم في هزيع الليل الأخير ، يرقى أعلى مكان في قريته وكل يوم ينادي بأعلى الصوت ، الرحيل ، الرحيل الرحيل ، كل يوم يكرر على الناس هذه الكلمات القليلة ، الرحيل ، الرحيل ، الرحيل ، حتى جاء يوم وانقطع ذلك الصوت ،
فقال أمير القرية : أين فلان ؟ قالوا : مات ، قال : لا زال يذكر الناس بالموت ، حتى مات هو .
نعم كان يذكرهم بالموت فأتاه الموت ، لكن على أي حال أتاه ؟
ما زال يلهج بالرحيل وذكره
حتى أناخ ببابه الجمال
فأتاه متيقضا متشمرا
لم تلهه الآمال
قال أحدهم لصاحبه له ، وكانت حاله سيئة ، قال : أبا فلان الحالة التي أنت عليها هل ترضاها للموت ؟ قال : لا والله ، قال : وهل نويت أن تغير هذه الحال إلى حال ترضاها للموت ؟ قال : ما اشتاقت نفسي إلى هذا بعد ، قال : وهل بعد هذه الدار دار فيها معتمد ؟ قال : لا والله ، وهل تضمن أن لا يأتيك ملك الموت وأنت على هذه الحال ؟ قال : لا والله ، قال : والله ما رأيت عاقلا يرضى بهذه الحال ، والله ما رأيت عاقلا يرضى بهذه الحال .
ستنقلك المنايا من ديارك
ويبدلك الردى دار بدارك
وتترك ما عنيت به زمانا
وتنقل من غناك إلى افتقارك
وفي عينيك دود القبر يرعى
وترعى عين غيرك في ديارك
نعم أيها الغالي لا تغفل عن الموت ، فلقد أجمع أهل اعلم على أن الموت ليس له مكان معين ولا زمن معين ولا سبب معين ولا عمر معين ، يأتيكم بغتة وأنتم لا تشعرون
( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون )
( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد )
يعني ذلك ما كنت منه تفر ، وذلك ما كنت منه تهرب ، طال الزمان أو قصر لا بد يأتي الموت ،
والناس عند الموت على حالين يا رعاك الله ، الناس عند الموت على حالين إما محب للقاء الله فيحب الله لقاءه وإما كاره للقاء الله فيكره الله لقاءه .
قالت عائشة : يا رسول الله كلنا يكره الموت ، قال : لا يا عائشة ليس ذاك لكن هو العبد الصالح العبد المستقيم
عند سكرات الموت تأتيه ملائكة الرحمان تبشره بروح وريحان ورب راض غير غضبان فيفرح بلقاء الله فيفرح الله بلقاءه
أما العبد العاصي ، أما العبد الغافل ، أما الذي تناسى الموت وسكراته تأتيه ملائكة الرحمن تبشره بسخط وعذاب من الله فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه
قال عمر ابن عبد العزيز لجلسائه : أشترط عليكم شروطا ثلاثة لمن أراد أن يجلس في مجلسي . شروطا ليس اشترطناها في مجالسنا اليوم .
قال : إذا جلستم في مجلسي عليكم شروطا ثلاثة : أولها : لا تتكلموا في الدنيا ، ثانيها : لا تغاتابو أحدا في مجلسي ، ثالثا : لا تمزحوا عندي أبدا . فكانوا يتذاكرون الموت وسكراته والقبر وظلماته حتى إذا انفضوا كانوا كمن قام عن جنازة .
لا عجب في آخر اللحظات ودع وهو يقول : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )
الدنيا مهما طالت فهي قصيرة ومهما عظمت فهي حقيرة سيأتي اليوم الذي ستمدد فيه على فراشك تريد أت تودع الصغير فلا تستطيع تريد ان تودع الكبير فلا تستطيع ) حيل بينهم وبين ما يشتهون ، ليت شعري كيف يكون الحال في تلك الساعة ؟
يوم تشخص العينان وتبرد الأطراف واليدان وتلتف الساقان تريد أن تتكلم فلا تستطيع ، تريد أن تقول فلا تستطيع ( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد )( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد )
فاتقوا الله عباد الله ابكوا على أنفسكم قبل أن يبكى عليكم وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، احملوا أنفسكم على الطاعات قبل أن تحملوا على الرقاب استعدوا للموت قبل أن ينادي بأعلى الصوت رباه ارجعون فلا يستجاب لكم . لساعة تجلس تحاسب فيها النفس خير من أيام وساعات تهدر فيها الأعمار .
هذه الأيام مطايا
أين العدة قبل المنايا
أين الأنفة من دار الأذايا
أين العزائم أرضيتم بالدنايا
إن بلية الهوى لا تشبه البلايا
وإن قضية الزمان لا كالقضايا
يا مستورين ستكشف الخفايا
إن ملك الموت لا يقبل الوساطة
ولا يقبل الهدايا
يا مستورين ستكشف الخفايا
إن ملك الموت لا يقبل الوساطة
ولا يأخذ الهدايا
أيها الشاب ستسأل عن شبابك
أيها الشيخ تأهب لعتابك
أيها الكهل تدبر امرك قبل سد بابك
يا مريض القلب قف بباب الطبيب
يا منحوس الحظ اشكوا فوات النصيب
بالجناب قليلا وقف على الباب طويلا
واستدرك العمر قبل رحيله
وأنت بداء التفريط عليلا
يامن نذر الموت عليه تدور
ومن هو مستأنس في المنازل والدور
لو تفكرت في القبر المحفور ،
وما فيه من الدواهي والأمور
كانت عين العين منك تدور
يا مظلم القلب وما في القلب نور
الباطن خراب والظاهر معمور
إنما ينظر للبواطن لا للظهور
يا من كلما زاد عمره زاد اثمه
يا من يدور في المعاصي فكره وهمه
يا قليل العظم وقد دق عظمه
يا قليل العبر وقد تيقن أن القبر عما قليل يضمه
كيف نعظ من مات قلبه لا عقله وجسمه
نعم أيها الغالي لابد من الرحيل طال الزمان أو قصر ، سيأتي ذلك اليوم الذي ستودع فيه الحياة لكن قل لي بالله كيف سيكون الحال عند ساعات الرحيل ، الذي أخر الناس عن التوبة طول الأمل الذي أخر الناس عن التوبة والصدق والاستعداد للآخرة طول الامل .
ولقد قال الله عنهم ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون )
الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )
الكل سيموت لأن الله قال : ( إنك ميت وإنهم ميتون )
ولأن الله قال : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون )
( كل نفس ذائقة الموت )
(يتبع )
محبكم المـوج
|