عرض مشاركة واحدة
قديم 30/12/2009, 11:35 PM   #2
شخصية مميزة وعضو شرف منتديات رباع


الصورة الرمزية إبراهيم خليل‏
إبراهيم خليل‏ âيه ôîًَىà

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7723
 تاريخ التسجيل :  Nov 2007
 العمر : 69
 أخر زيارة : 17/12/2014 (04:44 PM)
 المشاركات : 137 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



إن من الإنصاف أن يعترف المرء لرجال القضاء بما يبذلونه من العناية في فحص حالة المتهم العقلية وقت ارتكابه الجريمة لتقدير مسؤوليته الشرعية ولكن قل أن يفكر واحد منهم في ضرورة فحص حالته النفسية وقت المحاكمة أو في خلال التحقيق وتحليلها تحليلاً علميًا فإن أقصى ما يذهبون إليه في تقدير موقف المتهم أن يؤخذ رأى الطبيب في أهو عاقل أم مجنون، فإذا لم تظهر عليه أعراض الجنون عدوة مسؤولاً عن كل ما يقول ومؤاخذ بمقتضاه، فبمثل هذا المقياس الناقص تقاس الظواهر النفسية في دور القضاء وليس في مصر وحدها ربما كان ذلك في أرقى بلاد العالم أيضًا حيث يكون القول الفصل في مسألة من أدق المسائل النفسية وأعقدها لأشخاص لم يفتحوا في علم النفس كتابًا ولم يقرأوا فيه حرفًا واحدًا فيقنعون في تقدير الأمور عند الفصل في أرواح الناس وأعناقهم بما يسمى اصطلاحًا (بالذوق السليم) أو يركنون في ذلك إلى قشور جوفاء ومبادئ فاسدة من علم النفس العامي ويعتبرون في نظرهم أن كل عقل لم تظهر عليه أعراض الجنون يكون في حرز أمين من عبث المؤثرات ولا تلعب به الأهواء والأغراض ولا يكون عرضة للتقلبات وتأثير الانفعالات، ولكن إذا ما تمشينا معهم وجاريناهم في تحكيم الذوق السليم في شؤون العقل البشرى أو رجعنا إلى مبادئ المنطق الأولية والحكم على الأمور من طريق القياس الصحيح نرى بعد قليل من التأمل أنه يندر ألا يتأثر عقل بموقف من المواقف وخصوصًا إذا كان موقفًا مشهودًا مرهوبًا كموقف المحاكمة أو الشهادة أمام القضاء وقل أن يؤدى العقل وظيفته من حيث الإدراك والفهم والتصور والتفكير والتأمل والذكر والانتباه والتقدير والإرادة وغيرها من ملكات العقل بنفس الطمأنينة وهدوء البال الذين يكون فيهما الإنسان في حياته العادية، أليست أعمال كل منا وحركاته في الخلوة تختلف عنها في وسط الجماعة ؟ ومتى اتفقنا في معرض الجدل على تحكيم الذوق السليم فلا أجده خروجًا عن الموضوع إذا ما ضربت لذلك مثلاً بما أشاهده في نفسي عند توقيع بعض القطع الموسيقية ولا سيما ما كان منها من المحفوظات الجديدة فإني إذا ما حفظتها عن ظهر قلب وقعتها في الخلوة توقيعًا غاية في الدقة والإتقان ولكن إذا ما طلب مني توقيعها على مشهد من بعض الزائرين والإخوان ظهرت في نبرات التوقيع آثار الانفعال وارتبكت أناملي وارتعشت وكثيرًا ما أسرعت في الضرب سرعة غير مشكورة وربما خانتني الذاكرة فتوقف دولابها فجأة عن العمل ونسيت منها بعض الأنغام فاستعيض عنها بغريب اللحن من عندي رتقًا للفتق ورأبًا للصدع حتى لا تبدو أوزان النغمات للسامعين ناقصة بثراء بل اتفق لي في بعض الأحيان أن خرجت من منتصف القطعة ودخلت في قطعة أخرى غير التي بدأتها وكثيرًا ما تقع مني في خلال التوقيع الغلطة تلو الغلطة وزلة الإصبع تلو الزلة وأجدني كلما أخطأت ازددت ارتباكًا وانفعالاً وتماديت في الغلط على الرغم مني، فإذا ما انصرف الحاضرون وجلست أحاسب ذاكرتي على زلاتها وأعدت توقيع القطعة نفسها في الخلوة وجدتني أوقعها في منتهى الدقة والإتقان وبغير لحن أو هفوة بنان، ولا أظن هذه الحالة مقصورة عليَّ دون سواي أو أنها تدل على ضعف في النفس غير طبعي وخاص بي وحدي ولكن علتها اشتعال ملكة الانتباه بالحاضرين وتحولها نحوهم وخوف الخطأ في حضرتهم فهي عامة لدى كل هواة الموسيقى وخصوصًا من كان منهم لا يألف التوقيع إلا في العزلة، وقد شكا إليَّ منها الكثيرون بل أغرب من هذا أني خبرت نفسي حال توقيع إحدى القطع في الخلوة بأن تخيلت وجودي في حضرة جماعة من الناس فوجدت أناملي في الحال أخطأت مواضع النغم وبدت مني بعض الأغلاط فلما طردت هذا الخاطر عن خيالي وحصرت فكري في عزلتي وانفرادي عادت إلى نفسي طمأنينتها وإلى عضلات أصابعي قوتها ومتانتها وإلى أطراف أناملي دقتها.
فإذا كان هذا مبلغ الفرق في حالتي النفسية في خلوتي وفى حضرة جمع من أصدقائي وأقراني تلقاء توقيع بعض المحفوظات الموسيقية التي لم يقصد منها غير اللهو والرياضة النفسية فماذا يكون حال المتهم البريء وهو في قفص الاتهام وسيف القضاء معلق فوق رأسه بخيط واه فإذا ما هزته ريح الأقدار هوى وانقض عليه كصاعقة من نار ؟ أو ماذا يكون موقف الشاهد بين يدي هيئة القضاء في جلسة علنية تحفها المظاهر الرسمية والهيبة من كل جانب وكل ما فيها يبعث في النفس أثرًا عميقًا من الرهبة والجلال، أليس هؤلاء أدق موقفًا وأحرج مركزًا ونفوسهم أشد اضطرابًا وتأثرًا ؟ هل إذا أخطأ المتهم أو الشاهد أو تلعثم أحدهما عند سرد بعض الوقائع لا يكون معذورًا ؟ وهل إذا ازداد بسبب ذلك اضطرابه وارتباكه فخانته ذاكرته ونضبت مواهب عقله كما ينضب لعابه فاستعصى عليه فهم الحقائق واختلط عليه الأمر وخلط في القول بين وقائع حادث وحادث لا يعد معذورًا كل العذر ما دام موقف القضاء الرهيب أدق وأبلغ في النفس أثرًا من موقفي بمحفوظاتي الموسيقية إزاء نخبة من أحبائي وأصدقائي ؟ ولكن قل أن يقام لهذه الأمور وزن أو تعار أي التفات في دور القضاء فكم من أحكام عدت مجرد ارتباك المتهم في الدفاع أسطع برهان على الإدانة واعتبرت اضطراب الشاهد أقوى دليل على الكذب والاختلاق متغافلة بذلك عن كل ما يؤثر في النفوس من العوامل والمؤثرات وما ينتابها من الانفعالات.
إذا كان بحث عقلية المتهم عن طريق القياس والمنطق والذوق السليم قد أظهر لنا بونًا عظيمًا بين الحالات النفسية للشخص الواحد في المواقف المختلفة فما بالنا لا نسلم بهذه النتائج التي توصل سوانا إليها بعد أبحاث طويلة أجريت تحت أشعة قوية من ضوء العلم الصحيح ؟
إن كلمتي مجنون وعاقل على ما بينهما من التباين العظيم في الدلالة والتناقض في المعنى قد أثبت العلم أن لا فواصل بينهما ولا حدود طبيعية تفصل بين مناطق العقل والجنون وأني لا أجسر على القول ولو عد هذا من مثلي جرأة على العلم أنه قل أن يخلو عقل بشري من بعض ظواهر الجنون الحاد من جانب والنقص العقلي أو الضعف العقلي من الجانب الآخر (فالكمال لله وحده جل شأنه)، ولكن درجتهما تختلف باختلاف الأفراد وباختلاف الظروف والحالات، ألم يبدأ الإنسان حياته في هذا العالم بنقص في العقل يشبه الجنون ثم يختمها كذلك مجنونًا أو شبه مجنون وما ذلك إلا بسبب ما يكون عليه من ضعف الإرادة في عهدي الطفولة والشيخوخة ؟ أليست أحلام النائم وتخيلاته وتأملاته واختلاط أفكاره وغرابتها قريبة الشبه للكثير من ظواهر الجنون ؟ وهل يبقى بعد هذا مجال للعجب إذا ما قيل إن العقل كآلة دقيقة سهلة العطب قد يعتريها الخلل لأقل المؤثرات وفى كثير من الأحيان قد تبقى آثار الاختلال غير محسوسة في الظاهر بينما هي تعمل عملها في الباطن فيعد صاحبها عاقلاً بالنظر لأفعاله وحركاته الخارجية في حين أنه مريض الفكر غير صحيح العقل في تصوراته وتأملاته وتخيلاته ؟ ولا يكشف ذلك إلا العالم المحقق والأخصائي المدقق بطريق الفحص والتحليل، وإني أكرر القول هنا إنه قل أن يخلو عقل من وجود ظاهرتين متباينتين من ظواهر الاختلال العقلي إحداهما من النوع (الهستيري)، والثانية من النوع (النوارستاني) ولو بشكل مخفف، فالأولى تدفع الإنسان إلى النشاط في الحياة والجد في العمل فإذا ما قويت دفعته إلى الإفراط والتهور وعند ما تكون على أشدها تؤول به إلى التهيج وإيقاع الأذى بالغير وارتكاب القتل، والثانية تدعوه إلى الرزانة والروية والحكمة وحب العزلة والهدوء والسكون والفكر العميق فإذا ما قويت أدت به إلى الفكر الدائم والقلق، فإذا ما أصبحت على أشدها واستفحل داؤها قد تؤول به إلى (الملانخوليا) فالانتحار، ولقد ذهب العلامة (يونج Jung) أستاذ علم النفس بجامعة زيوريخ ومن أئمة العالم في الوقت الحاضر إلى تقسيم البشر من الوجهة النفسية قسمين رئيسيين أحدهما سماه (بالاكسترافرت – Extravert)، والثاني (بالانتروفرت – Entrovert) ومعناهما حرفيًا المنقلب للظاهر، والمنقلب للداخل، ويمكن تلقيبهما مع بعض التسامح بالنوع (المنبسط)، والنوع (المنقبض) والنوع الأول يحفل بشؤون الحياة الظاهرية وتجذبه مظاهرها إليها يحب المعاشرة فهو كثير الاختلاط بالناس ويألف المجتمعات، والنوع الثاني لا يعبأ بمظاهر الحياة الخارجية لا تجذبه الأشياء بل يجذبها إليه ويحب العزلة ويميل إلى الاعتكاف عن الناس، والنوع الأول يكون عرضة (للهستريا) أما الثاني فعرضة (للنوارستانيا) ولم يقل الأستاذ يونج إن كل نوع قد اختص بإحدى الظاهرتين دون الأخرى ولكن كلتيهما كامنتان في الشخص وإنما تغلب إحداهما على الثانية هو المرجع في هذا التقسيم العظيم (انظر كتابه أنواع البشر من الوجهة النفسية - Paychological Types طبعة سنة 1924 صحيفة 412) فكلتا الظاهرتين في نهايتهما القصوى متضادتان من حيث النتائج فالهستيريا تنتهي بقتل الغير والنوارستانيا بالانتحار والأولى قد تنتهي بالجنون الحاد والثانية قد تنتهي بالبله والعته، ولكن لا يروا عن ذلك حضرات القراء فليس في وجودهما بدرجة خفيفة متعادلة من خطر أو ضرر على المواهب الفكرية بل ربما كان وجودهما معًا فيه حفظ لتوازن العقل وصيانة لملكاته ومواهبه فإنهما تكونان من العقل السليم بمثابة القطبين السالب والموجب كل منهما يجذب العقل لناحيته فيحصل التوازن وينجو من خطر الانحراف إلى ناحية دون الأخرى، فإذا ما رجحت كفة إحدى الظاهرتين على الثانية رجحانًا يسيرًا قد تظهر في العقل دلائل النبوغ والتفوق أما بالذكاء الحاد من جانب وأما بالرزانة والحكمة من الجانب الآخر، أما لو تغلبت إحداهما على الأخرى تغلبًا شديدًا فإنه يختل التوازن العقلي اختلالاً كبيرًا وتبدو أعراض الجنون الحاد من ناحية أو أعراض العته والبله والانحطاط الفكري من الناحية الأخرى حتى اعتبر بعض العلماء النبوغ مرضًا من أمراض العقل، ومن بين هؤلاء العالم الشهير لمبروزو ولا يزال هذا الأمر موضوع جدل ومناقضة بين أطباء الأمراض العقلية حتى اليوم [(1)] وسواء صح هذا الرأي أم ذلك فالنبوغ ليس حالة طبيعية في العقل بل بروز شاذ في بعض ملكات العقل، وكم من مجانين كانوا نوابغ العلوم وأبطال الفنون وقد قال الأقدمون (ومن فرط الذكاء يأتي الجنون)، ونحن نقول (إن العقل الموزون هو ما كان وسطًا بين البله والجنون).
فعناصر الجنون كامنة في كل عقل ولكنها في العقل السليم محجوبة عن الظهور بطبقة من الإرادة ولكنها طبقة رقيقة سهلة العطب والتشقق، ولعل هذا ما حدا بالعلامة (سجمند فرويد - Sigmand Freud) أشهر علماء هذا العصر في علم النفس المرضي إلى القول (بأننا نسير فوق قشرة رقيقة من طبقات العقل السليم على سطح كرة تشتعل بالجنون)، فمن أجل ذلك كان العقل عرضة لهزات عنيفة من الزلازل النفسية أو لتفجر البراكين، فالحد الفاصل بين العقل والجنون غير موجود كما يقول الأستاذ بلويلر في كتابه علاج الأمراض العقلية صـ 171 تحت باب حدود الجنون ما نصه:

(Nowhere is the question ‘sick or not sick ? put so often in such an inexorable maner and with such heavy consequences as in the judgement of mental conditions. But the given question is false, There are no borderlines of insanity).


ولقد شبه علماء النفس الأمراض العقلية أعراض الجنون بالصور الهزلية (الكاريكاتورة) للعقل السليم التي يكون فيها الشبه محفوظًا ولكن النسبة في الأعضاء أو التقاطيع هي المفقودة كما لو رسمت الأنف أو البطن في حالة ضخامة هائلة فتفقد هذه الأعضاء نسبتها لباقي الجسد وتبدو الصورة مضحكة من غير حاجة لإضافة أعضاء جديدة ليس لها أصل في الطبيعة، كذلك الأمراض العقلية فإنها لا تخرج عن كونها مجرد بروز في بعض الظواهر العقلية بنسبة تفوق الحد الطبعي أو ضمور في البعض الآخر تضيع معه تلك النسبة فتفقد ملكات العقل تناسبها ويحل بالعقل الخلل وفقدان التوازن وتبرز الصورة الهزلية للعقل في شكل الجنون، والواقع أن كل ما تضمه مستشفيات المجاذيب بين جدرانها من العاهات والأمراض العقلية مؤلف من نفس العناصر التي تتألف منها مجموعة المواهب الفكرية في العقول (المعتبرة في حكم السليمة) التي في خارج المستشفيات لا جديد فيها، وكما أن للعقل درجات كذلك للجنون درجات، وقد تبدأ درجات الجنون قبل أن تنتهي درجات العقل بمراحل.
فالحد الفاصل بين المسؤولية الشرعية وعدم المسؤولية ليس في الحقيقة الجنون أو العقل وإنما العبرة في ذلك بالأحوال النفسية والظواهر العقلية سواء عدت في مناطق العقل السليم أم في مناطق العقل المريض إذ أن أسباب الانقلابات النفسية وتغير الشخصية كثيرة لا تعد ولا تحصى وهي تبدأ بدرجات خفيفة ثم تسير من حيث الشدة في ميدان فسيح من العقل الصحيح خطوات متتاليات حتى تصل بالنفس إلى شخصية جديدة تفني فيها الشخصية القديمة فناءً تامًا هي وما يتبعها من الذكريات والمشاعر والأفكار ومع هذا قد لا تبدو لمن في الخارج أعراض تدل على هذا الانقلاب الداخلي العظيم ويبقى في النفس سرًا مكنونًا، والأستاذ بلوير يقول في كتابه علاج الأمراض العقلية صفحة 171 (أن هناك من مرضى النفوس من ليسوا بمجانين ولكن تنتابهم حالات نفسية يفقدون معها كل قدرة على التفكير والتأمل، فأمثال هؤلاء لا يسألون عما يقولون ويفعلون) [(2)].
فمن منا لا يشعر بتغيير في نفسيته وشخصيته ولو تغييرًا طفيفًا بتغير الظروف فتلبس نفسه لكل ظرف شخصية جديدة تتغير فيها أفكاره وذكرياته ومشاعره ومع ذلك يبقى التغيير باطنيًا غير محسوس في الظاهر لأحد، وهل شخصية الإنسان شيء سوى مجموعة أفكاره وذكرياته ومشاعره فإذا ما تغيرت تغيرت معها شخصيته ؟ أليس القاضي وهو على منصة القضاء في قاعة الجلسة له شخصية بما يتبعها من أفكار وذكريات ومشاعر تختلف كل الاختلاف عن شخصيته وهو في منزله بين أهله وعشيرته ؟ أليست شخصية الإنسان في المواقف الرسمية أو السياسية غيرها في حياته المنزلية ؟ أليس المحامي في مكتبه والطبيب في عيادته والمعلم في فصله والموظف في مصلحته كل منهم يكون ذا شخصية تخالف شخصيته في الخارج ؟ أليس لكل منا في المجتمعات العامة شخصية تختلف عنها في الخلوة ؟ ألم يكن سبب هذا التنقل من شخصية لأخرى راجع في الواقع إلى تغيير في مجموعة الأفكار والذكريات والمشاعر التي تحيط بالإنسان تبعًا لما يحيط به من الظروف ؟
إذا كان هذا مبلغ حالنا في الحياة العادية فما بالنا لا نعترف للمتهم بشخصية جديدة تنتابه عندما يلقى به في غياهب السجن ويجد نفسه بعد العز في ذل وبعد الحرية في أسر وقد أصبح في سجنه فريدًا يتخبط في لجج من الهواجس والأوهام وتحيط به مجموعة من الأفكار والذكريات والمشاعر تختلف كل الاختلاف عما كان يحيط به في حياته العادية.
ومع هذا فشتان بين تلك الشخصية الجديدة التي تنتاب ذلك المسجون الحديث العهد بالسجون وبين تلك الشخصيات التي كان يتقلب فيها في حياته العملية وينتقل بينها من آنٍ لآخر محتفظًا بجوهر عقله ونواة شخصيته بفضل ما له من إرادة يصون بها ما بين شخصياته المختلفة وبين نفسه من صلات وما يربط بين ماضيه وحاضره من الذكريات، ولكن إذا ما اعترى الإرادة وهن أو ضعف انحلت تلك الروابط وانفصل الماضي عن الحاضر انفصالاً تامًا ربما لا يكون بعده اتصال ونسي الإنسان ماضيه مع كل ما يتبعه من أفكار ومشاعر وذكريات وهو ما عبر عنه العلماء (بفقدان الذاكرة - Amnesia) وتحل بالعقل ظاهرة (الانفصال - Dissociation of mind) ويعتري الشخصية تبدل تام، وقد مر بنا ما لموقف الاتهام من الأثر في بعض النفوس وما يحدثه الرعب والذعر من الصدمة العصبية التي تصرع الإرادة فتترك العقل منحل الروابط مفكك الأوصال.
هل يحق لنا بعد كل هذا أن نقول ما دام الشخص لم تظهر عليه أعراض الجنون فهو مسؤول عن كل ما يقول ومؤاخذ بكل ما يصدر منه من الإقرارات والاعترافات من غير بحث وتعليل أو تمحيص وتحليل اعتمادًا على أن العقل السليم في أمان من الخلل ومأمن من الزلل ؟ كلا ثم كلا، فالاضطرابات النفسية قل أن يخلو منها عقل مهما بدت للناس سلامته وظهرت للملأ حصافته فهناك من العوامل النفسية ما هو أبعد أثرًا في النفوس من الأمراض والعاهات وأشد فعلاً في العقول من السموم والمخدرات، وفي مقدمة الجميع عوامل الخوف والرعب كما تبين للقارئ مما مر به من الحوادث والأمثال.
فالخوف معروف قديمًا وحديثًا أنه عامل من أقوى العوامل التي تضعف الإرادة وتشل مفعولها، ولهذا كان من أوجب الواجبات على المحققين قضائيين كانوا أو إداريين أن يتجنبوا في خلال التحقيق كل ما من شأنه إرهاب المتهم وإرعابه خصوصًا إذا كان الجرم خطير الشأن أو كان المتهم من ذوي الأمزجة العصبية أو قوي الحساسية أو متصفًا بضعف الإرادة فحسبه خطورة موقف الاتهام فهو وحده كافٍ لأن يفل من عزمه ويهد من قواه حتى أن هناك أفرادًا يفقدون كل ما لهم من قوة عزم وإرادة لمجرد وقوفهم موقف الاتهام، فإن لمثل هذه المواقف في بعض النفوس صدمة بلغ من شدتها أن شبهها العلامة مكدوجال بالصدمة العصبية المعروفة باسم صدمة القنابل التي تصيب المجاهدين في ميدان القتال حيث قال في مؤلفه (مبادئ عامة في علم النفس - An Out Line of Psychology )


(The loss of will power that necessarly follows a severe blow to a man’s self - respcct was one of the striking features of the so called ****************l - shock cases so frequently in the War)


فإذا كان هذا مبلغ تأثير موقف الاتهام في بعض النفوس مجردًا عن أي اعتبار آخر فماذا يكون من أمر المتهم إذا تعرض فوق ذلك لأقسى أنواع التعذيب والإرهاب وسوء المعاملة في خلال التحقيق وفي أثناء الاستجواب ؟ وأي ضمير حي بعد هذا وأي وجدان سليم يسعه الوقوف جامدًا بإزاء أساليب القسوة الوحشية والطرق الجهنمية التي يلجأ إليها بعض المحققين لحمل أشخاص قد يكونون أبرياء على الإقرار وقد أصبحوا في موقف من حيث ضعف الإرادة بسبب الاتهام أسوأ من موقف طفلتي الصغيرة إزاء موقد النار ؟. وأي قيمة لإقرار يكون وليد الضغط وسوء المعاملة، وكيف تطمئن النفس لصحته وترتاح للأخذ به ؟ وها هو ذا تاريخ القضاء مملوء بحوادث الاعترافات الكاذبة التي لم يعترف أصحابها إلا فرارًا من الألم وتخلصًا من العذاب، فمن هذه الحوادث أن اعترف بعض المتهمين بجرائم لم تقع منهم بسبب تركهم وقوفًا في خلال استجواب طويل شاق فأقروا حيث أعياهم التعب وأعوزهم الرقاد [(3)]، واعترفت امرأة على نفسها كذبًا بسبب وضع فأر في غرفة سجنها لفرط ما أصابها من الخوف والجذع، فأي قسوة شيطانية أفظع من هذا ؟ بل أي شيء أفظع من إرهاب شخص بالإعدام وإزعاجه بين لحظة وأخرى بالشنق وهو في حالة اضطراب عقلي وفزع ؟ أليست كلها صدمات قوية يتخلخل لها بناء العقل ويفقد تماسكه فينهار ويصبح أنقاضًا تبنى عليها بتأثير التهديد والوعيد شخصية جديدة تقوم بوظيفة الإقرار الموهوم واعتناق الجرم المزعوم ؟ ألم تكن ملكة التمييز في العقل السليم ترجع إلى نوع من الإرادة فإذا ما أضعفت قوة الإرادة بإجهاد المجموع العصبي فقدت من العقل قوة التمييز فيختلط عليه الماضي والحاضر ويخلط بين الحقائق والأوهام ؟
إن كان فيما أقول شك فإلى القارئ نص ما قاله الأستاذ منستر برج في هذا الصدد في مؤلفه (على منصة الشهادة) صفحة 75 سطر 2.

(Under pain and fear a man may make any admission which will relieve his suffering، and still more misleading, his mind may lose the power to discriminate illusion and real memory).


ولهذا كان من أقدس الواجبات أيضًا على القاضي أن يبحث في ظروف الإقرار ويتبين أهو مؤيد بأدلة حسية تنفي كل شك في صحته أم لا، إنما تجب التفرقة بين الأدلة الصحيحة والقرائن التافهة التي لا تخرج عن مجرد شبه وظنون، فإن هذه لا قيمة لها بجانب الإقرار إذ فضلاً عن كونها لا تنفي احتمال كذبة قد تكون هي الباعث إليه والدوافع الأقوى لخلقه كما حصل في حادث الأخوين اللذين اعترفا بقتل صهرهما الغائب، فإذا ما للقاضي تجرد الإقرار مما يعززه من الأدلة والبراهين وجب عليه أن لا يقبل الإقرار قضية مسلمًا بها ولو خالف بذلك نص المادة (134) من قانون تحقيق الجنايات التي تقضي عليه أن يحكم في الدعوى بمجرد الإقرار بغير مرافعة ولا مناقشة، وحذار أن تغرنه القواعد الشرعية الخلابة (إن الإقرار سلطان الأدلة)، أو (إن الإقرار حجة على المقر)، أو (إن المقر مؤاخذ بإقراره) بل عليه أن يمعن النظر مليًا في وقائع الإقرار وظروفه والعوامل التي أثرت في نفس المتهم وحملته على الإقرار فإن استعصى عليها فهمها أو تسرب إلى نفسه أقل شك وجب عليه أن يستعين برأي خبير، ولكن أني لقضاتنا ذلك وليس مع الأسف الشديد لقضائنا خبراء في علوم النفس أخصائيون بل ربما كانوا مفقودين من هذه الديار أصالة فحبذا لو عنيت حكومة البلاد بالأمر وإعارته جانبًا من اهتمامها وأحضرت من الخارج بعض الخبراء الفنيين حتى يتسنى للقضاة عند الحاجة استشارتهم في كل ما له مساس بالقانون من شؤون العقل، وأنه ليكون من دواعي الفخر العظيم لقضائنا المصري أن يسبق قضاء العالم المتمدين أجمع في اتباع ما أشار به المؤتمر الدولي للسجون في جلسته الختامية التي تضمنت قرارًا يحتم على الذين يرشحون للقضاء أن يحضروا دروسًا في علم النفس والاجتماع وأن يلم القضاة بحالة السجون إلمامًا تامًا ويقفوا على أخلاق المجرمين ويدخل في قضائنا نظام يوجب على رجال الحقوق دراسة علم النفس بجانب دراسة القانون درسًا وافيًا يكفل لهم الاستفادة منه في الحياة العملية وتطبيق أحدث نظرياته في المسائل الشرعية، فبغير هذا لا يتسنى لقضاء أي دولة في العالم أن يكفل تحقيق العدالة على أكمل وجه ويضمن حماية الأبرياء من الوقوع ضحية الجهل بشؤون العقل فإن عقل الإنسان آلة في منتهى الدقة وغاية في التعقيد شديدة التأثر سريعة العطب وهو موطن الفكر ومصدر لكل قول وفعل وأنه لمن أعجب الأمور أن يتصدى لإصلاح العقل من لا دراية له بتركيب العقل بل ربما كان لا يفقه معناه، وكيف من كان هذا حاله يرجى منه إصلاح أو يؤمن شر وقوعه في الخطأ والزلل، إن الأمر ليس بالهين اليسير بل هو من الخطورة بمكان عظيم بحيث لا يصح التسامح أو غض النظر عنه، فإن أرواح الأبرياء معلقة في أعناق القضاة والمحققين وهي أمانة الله استودعها إياهم بحكم ولا يتهم على الناس فهم مسؤولون عنها أمام الله يوم الدين.

محمد فتحي


--------------------------------------------------------------------------------

[(1)] انظر بحث هذا الموضوع بحثًا لذيذًا في كتاب علاج الأمراض العقلية للعلامة بلوير الألماني صحيفة 171 سطر 20.
**************** Book of Psychiatry, by Prot - Dr Bleuler
[(2)] انظر كذلك كتاب الطب الشرعي للدكتورين سدني سميت وعبد الحميد عامر بك حيث جاء بالصحيفة نمرة 461 تحت باب الجنون ما نصه (ويجب ملاحظة أنه قد يكون هناك اختلال بالعقل بدون وجود جنون حقيقي وذلك في الأحوال التي يحس فيها الشخص باختلال شعوره ولو كان ذلك الاختلال عنيفًا لدرجة لا يمكن منعها للمراكز العليا ضبطه كما هي الحال في ملازمة الأفكار (Obssessions)).
[(3)] كما حصل في المحاكمات المعروفة في تاريخ نيو انجلاند بمحاكمات سحرة قرية سالم بمقاطعة مستشوستس بالولايات المتحدة عام 1692.
وتعريبها (إن ذلك السؤال الذي يوجه دائمًا أبدًا بتلك الصيغة الثابتة التي لا تتغير وهو (أزيد من الناس مريض أو غير مريض ؟) لم يكن يومًا أشد خطورة وأوخم عاقبة منه عند تقرير أمر من الأمور العقلية في المسائل الشرعية فما أبعد سؤالاً كهذا عن جادة الحق والصواب إذ ليس للجنون حدود تفصله عن نطاق العقل السليم). صحيفة نمرة 443 سطر 7 ما نصه: وتعريب ذلك: (إن حالة فقد قوة الإرادة أن تكون نتيجة لازمة لصدمة شديدة تصيب الشخص في كرامته واعتباره هي بعينها إحدى الظواهر النفسية التي تنشأ عن تلك الصدمة العصبية المعروفة باسم صدمة القنابل التي تصيب المجاهدين في ميدان القتال). وتعريب ذلك (إن المرء قد يلجأ تحت ضغط الألم أو تأثير الخوف إلى إقرار ينقذه من الألم أو الخوف، ولكن هناك أمرًا أشد خطورة من هذا وهو أن العقل قد يفقد بتأثيرهما مقدرته على التمييز بين الحقيقة والخيال).
__________________



 
 توقيع : إبراهيم خليل‏



رد مع اقتباس