هوّن عليك **سمير عطالله
هوّن عليك
دخلت مقهى «السيتي كافيه» ذات مساء من دون ان اشعر اطلاقاً ان إمارات الهلع تبدو على وجهي. ورحب بي صاحبنا وصاحب المكان منح الدبغي، قائلا: «ما الخطب؟ ماذا بك». واخبرته انني تشاجرت على الطريق مع ثلاثة سائقين: الاول لأنه «زمّر» لي منزعجاً من امتثالي للضوء الاحمر. والثاني لأنه اعماني بالضوء العالي رغم اننا في شارع مضاء. والثالث لأنه صدم سيارتي من الخلف بسبب توقف اضطراري خلف سائق توقف في منتصف الطريق من دون اي اضطرار.
وقال منح، هون عليك. وروى حكاية صديقيه، الشاعر يوسف الخال والكاتب يوسف سلامة. قال ذهب الرجلان الى اميركا لبضع سنوات، ثم عادا الى بيروت. وكانا كلما التقيا يلعن الخال الساعة التي عاد فيها: «الزمامير. الفوضى. السير عكس السير. الشتائم. الخ». وتذمر سلامة من تذمر الخال وقال له: «هذا هو لبنان والآن عدنا اليه، وإذا أردت بلداً سائقوه ذوو اخلاق، هاجر مرة اخرى». وبقي الخال في بيروت، اما يوسف سلامة فسافر الى اهدأ بقعة في الارض: السويد! وفي السويد اختار اهدأ بقعة في السويد. وفي اهدأ بقعة فيها اختار بيتاً على بحيرة لا امواج فيها. ولا اصوات سوى رفيف اجنحة البط. ولا «نقار» او «شجار»، الا نقار العصافير على بقايا الخبز الطازج الذي ترميه للطيور عجائز المنطقة، اللاتي يعشن وحيدات، لا من يسامر ولا من «يناقر» ولا من يحاور سوى طيور ربنا.
وقلت لمنح، الرائد الثاني «لمقهى الصحافة» في بيروت: «وهل كان يوسف سلامة يطيق مثل ذلك الهدوء طويلا». فقال: «ابداً. كان كل ستة أشهر يأتي الى بيروت. ويقود سيارته بنفسه. ويستعيد القاموس المفقود. ويذهب الى زيارة يوسف الخال. ويترك لديه كتاباً جديداً وضعه في صفاء البحيرات، ثم يودعه، ويعود الى السويد حيث يمضي اسبوعاً وطنين بيروت لا يزال في اذنيه».
قلت ان منح الدبغي هو الرائد الثاني «لمقهى الصحافة»، واعتذر عن التناقض في التعبير. لكن قبل ان يفتح منح «الهورس شو» في شارع الحمراء، الذي انتقلت اليه بيروت من وسط البلد (الآن عادت اليه) كان ملتقى الادباء والصحافيين في ساحة البرج في مقهى صغير محاذ لسينما «روكسي». وكان من اشهر جلساء المقهى «الاخطل الصغير» وأمين نخلة وتقريباً جميع فناني تلك المرحلة. وفي هذا المقهى كان الشاعر الكبير جورج جرداق يصطاد طرائده ويختار اشخاصه، الذين سوف يحولهم الى طباع ساخرة وحكايات ضاحكة. وظل الى فترة طويلة يطارد اهل الشعر الحديث والنقاد. ولم يكن ذوقه الرفيع وثقافته العميقة يسمحان بأي عبث في الادب او في الفن او في النقد. ولا يزال.
|