أسد الجزيرة قال لي
وفي الصباح ذهبت إلى « قصر المربع »،ودخلت القاعة الكبرى « حيث جلس جلالته في صدرها » ، وعن يمينه جلس صاحب السمو الملكي ولي العهد على مقعد بعيد .. وجلس الوزراء ورجال الحاشية على السجاد بين يدي مليكهم . فلما تقدمت إلى جلالته استقبلني واقفًا،وهو يبتسم ابتسامة مشجعة ،وقال : مرحبا .. مرحبا..
ثم صافحني قائلاً : صباح الخير والسرور .. تفضل ..ودعاني للجلوس إلى جانبه ، فلما جلست شعرت بالحرج لمجلس الوزراء ورجال الحاشية ، ولم يزاولني هذا الحرج إلاّ بعد أن انتهت المقابلة الملكية ، وعلمت أنه في المجلس اليومي للملك لا يجلس على الكرسي إلا جلالته ، أما الوزراء والكبار فيجلسون على السجاد إمعانًا في تكريم العاهل الكبير ، وهذه هي التقاليد العربية الموروثة من عهد الخلفاء الراشدين. وقال لي أسد الجزيرة :
أرجو أن يكون الفاروق أخونا ومصر العزيزة بخير وسعادة ،ليس هناك فارق بين مصر والمملكة السعودية ، أنتم هنا في بلادكم ، ونحن عندكم في بلادنا . لما شرفنا الفاروق بالزيارة في «رضوى» سألوني عن برنامج الزيارة فقلت لهم :الفاروق هو الذي يضع البرنامج كما يشاء .. إنه في بلاده ، وما يريده يكون.
ثم سألني جلالته : ماذا رأيت في بلادنا ؟
فقلت : كل خير .. نهضة واسعة في جيمع المرافق.
قال : ما الذي رأيته ؟
قلت : المشروعات الجديدة الجبارة في جدة ومكة.
فقال جلالته :
إننا نسير في الإصلاح بخطوات واسعة ، ولكن بالتدريج . بدأنا بالماء لنوفر للشعب الماء النقي الصالح للشرب،ولنيسر للناس الحصول علىه وهم في بيوتهم ، فأنشأنا عملية المياه في جدة ، وكانت في أول الأمر تمد المدينة بمليون جالون من الماء من « عين فاطمة » بين جدة ومكة ، ثم رأينا أن هذا القدر لايكفي،لا سيما في موسم الحج ، وبعد تقدم العمران في جدة،فأخذنا في تنفيذ مشروع آخر لتغذية جدة بمليون جالون آخر، وسيتم التنفيذ في العام المقبل إن شاء الله ، وأنشأنا في مكة عملية مياه ضخمة تتيح لسكانها أن يحصلوا على الماء للشرب ولزرع الحدائق أيضًا.
واستأنف جلالته الحديث قائلاً :
وقد عنينا بإنشاء ميناء جديد في جدة ، لترسو البواخر على رصيفه بدلاً من وقوفها في عرض البحر،وزودنا هذا الميناء بالآلات الرافعة وسيارات النقل الضخمة؛ليجري العمل فيه على الطريقة المتبعة في أحدث موانىء العالم.وأنشأنا ميناء آخر في « الدمام » على ساحل الخليج العربي ، ومددنا بينه وبين الرياض طريقًا حديديًا للقطارات ، وقد أنفقت الحكومة على إنشاء هذين المشروعين الآخرين 45 مليونًا من الدولارات، وحرصنا على أن يكون طريق القطارات في أراض زراعية عامرة بالماء ، رغبة في نشر العمران بالمملكة . وعندنا الآن نهضة زراعية مباركة ، والحكومة تعاون الزراع في الحصول على أحدث آلات الري والزراعة . تشتريها وتبيعهم إياها بالقسط المناسب ، إننا نبذل قصارى جهدنا في الإصلاح ونشر العمران. وتكلم جلالته بعد ذلك عن الجامعة العربية،فقال :
علينا ــ نحن الشعوب العربية ــ أن نعمل على تدعيم الجامعة العربية ؛ ففي دوام تضامننا واتحادنا تتجلى قوتنا وبأسنا ، واختلاف دولة من دول الجامعة مع زميلة لها في الرأي لا يدل على أن الجامعة فشلت في أداء رسالتها ، وليس من الصعب إزالة الخلاف في الرأي والتوفيق بين الآراء مهما تباينت ، وواجبنا أن نسعى دائمًا لتدعيم بناء الجامعة وتثبيته ، لأن مصالح جميع الشعوب العربية واحدة ، وسبيلنا إلى تحقيقها هو التعاون والتضافر.
واستأذنت جلالته في الانصراف ، فربت على يدي وقال :
ــ خليك شوي.
وتفضل ، فسألني عن مصر ، فلما تحدثت عنها،قال .
ــ عظيم ... أرجو لكم كل خير وسعادة ، فمصر تهمني كما تهمني بلادي ، وأسر لخيرها سروري لخير بلادي.
ثم أذن لي جلالته بالانصراف ،وقال لي وهو يصافحني :
ــ إن شاء الله نراك قبل العودة.
حديث التاريخ عن أسد الجزيرة
تنازع عما جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود « سعود» و « عبدالله» السيادة في الرياض ، فاستغل الرشيد(5)الفتنة ،وهجم على الرياض واحتلها.
هرب (6)عبدالرحمن والد الملك عبدالعزيز الحالي وابنه عبدالعزيز إلى الأحساء طالبًا حماية قبيلة العجمان ، ومنها إلى قطر فإلى الربع الخالي .. عند قبيلة آل مرة .
وتعلم عبدالعزيز هناك خشونة العيش والفروسية.
وعين الأتراك إذا ذاك واليًا اسمه « حافظ باشا » على الكويت ، فأرسل بواسطة شيخها إلى عبدالرحمن يدعوه لزيارته وليقيم عنده شهرًا .
وقبل عبد الرحمن الدعوة ، وجمع أسرته ، ورحل بها إلى البحرين فالكويت،وكان عمر عبدالعزيز إذ ذاك 15 سنة.
وتعلم عبدالعزيز في الكويت استعمال البندقية والسيف وركوب الخيل، والمشي في الصحراء المحرقة عاري القدمين ، والنهوض قبل الفجر بساعتين للصلاة شتاء وصيفًا ، ومنازلة الصبية والتغلب عليهم ، ولقنه أبوه رسالته في الحياة «العودة إلى وطنه واستعادة ملكه» .
مات بحائل ابن الرشيد سنة 1315هجري ، وكان قد أثقل أهل الرياض بالضرائب والمظالم.
فذهبت وفود من نجد للكويت يطلبون عودة عبدالرحمن لاسترداد ملكه.
استعار عبدالعزيز ــ وكان مصابًا بالحمى ــ جملاً أعرج هرمًا وهرول عليه، ولكنه في الطريق وقع به الجمل فأصيب . فأعطته هذه الحادثة درسًا في التروي والتبصر.
عاد عبدالعزيز ومعه أنصاره من القبائل لقتال ابن الرشيد، فصدهم ابن الرشيد.
وطلب عبد العزيز مساعدة مبارك أمير الكويت ليستعد مرة أخرى للهجوم على آل الرشيد ، فأعطاه مبارك بعض السلاح والعتاد القليل ، وتحرك هذه المرة بثلاثين رجلاً، وانضم إليهم عشرة من أنصاره من الرياض . وتركهم جميعًا على بعد من الرياض ، وتوجه هو وابن عمه « عبدالله بن جلوي »(7)إلى أسوار الرياض،وتسلقاها ودلفا في الليل إلى بيت حاكم الرياض «عجلان»، فلم يجدا الحاكم في البيت ــ إذ كان في القلعة ــ بل وجدا امرأته ، وكانت أخت عبدالعزيز في الرضاعة (8)، وانتظرا في البيت طوال الليل يرتلان القرآن،حتى إذا ما عاد الحاكم عند الفجر فاجآه ، وهجما عليه ، وقتلاه ومن معه من الحرس،(9)وبايع الأهالي « عبدالعزيز » حاكمًا على الرياض، وواصل الحرب،وأخذت القرى تسقط الواحدة بعد الأخرى ، فدانت له « عنيزة » و«بريدة »و «شمر» معظم قبائل الشمال(10) .
وفي سنة 1917م كان قد تم النصر لابن سعود ، في الحساء أيضًا وأخضعها لسلطانه..
وفي سنة 1918م أعلن « الحسين » حاكم مكة نفسه ملكًا على الأقطار العربية ، وأرسل في السنة التالية ابنه « الأمير عبدالله » على رأس جيش ضخم ليحارب ابن سعود ، فباغته ابن سعود بالليل وفتك بجيشه ، ولم ينج من آلاف الأمير عبدالله المحاربين إلا مائة، واختفى جيش الحسين..
ثم قاد الأمير « فيصل بن عبدالعزيز » معركة في أبها ( جنوبًا)، وانتصر فيها على جيش الأشراف ، وبويع « ابن سعود » ملكًا على نجد وملحقاتها..
وفي سنة 1924م ألغى الأتراك الخلافة ، فأعلن الحسين نفسه خليفة للمسلمين. وثار العالم الإسلامي لهذا الحادث ،واغتنم ابن سعود الفرصة فهاجم الطائف واستولى عليها بعد معارك ومذابح، وفتك بجيش الحسين، ونصح الناصحون الحسين بالتنازل عن الخلافة لابنه علي فلم يقبل.
وفي ديسمبر 1925م دخل « ابن سعود » جدة ،واستقبله الشعب استقبال الفاتحين الظافرين ، وقابله القناصل والمبعوثون السياسيون..
وفي سنة 1927م اجتمع ابن سعود بالملك فيصل(11)وتفاهما وعقدا معاهدة.
وفي سنة 1932م هزم ابن سعود خصميه « ابن رفادة » في الشمال والإدريسي» في الجنوب .
وفي سنة 1933م انتخب « سعود » وعين وليًا للعهد.
وفي سنة 1935م حدث بين « ابن سعود ، و« الإمام يحى» إمام اليمن خلاف على الحدود الجنوبية ، وانتهي هذا الخلاف إلى حرب بينهما تغلب فيها ابن سعود ، وتوسط وفد من الشعوب الإسلامية بينهما حتى اصطلحا، وتنازل « ابن سعود » عن كل ما استولى عليه من أرض اليمن، وأعادها للإمام(12).
وينتهى تاريخ ابن سعود في ميدان الحرب والنضال عند هذا الحد ، فيتفرغ للإصلاح الداخلي في بلاده ، ويتجه إلى إحياء نهضتها الحاضرة الزاهرة.
ولي العهد
حضرة صاحب السمو الملكي « الأميرسعود» هو أول ولي عهد في المملكة السعودية ، فلم يكن نظام ولاية العهد معروفًا في نجد والحجاز من قبل . كان أهل العقد والحل من الأمراء والعلماء وشيوخ القبائل يجتمعون يوم وفاة « الإمام» ،وهكذا كانوا يسمون الملك . فيختارون إمامًا توافرت فيه الشروط المنصوص عليها في كتب الشريعة حتى كانت سنة 1933م ، حيث رأى أقطاب الحكومة أن الأفضل أخذ البيعة بولاية العهد للأمير سعود أكبر أنجال جلالة الملك عبدالعزيز ونائبه في الرياض، وقد أقر هذه الفكرة مجلس الشورى لحكومة مكة ورفعها إلى جلالة الملك، فاعتمدها وتمت البيعة للأمير في 11 مايو من تلك السنة ، وكتبت في وثيقة وقع عليها رئيس مجلس الوكلاء ومجلس الشورى وقاضي القضاة (13) ،وأعضاء المجلسين،وهذا نصها(14) :
« لما كان حضرة صاحب السمو الملكي الأمير سعود النجل الأكبر لحضرة صاحب الجلالة قد تحلى بكافة الأوصاف الشرعية الواجب توافرها فيمن يخلف ولي الأمر ــ أمد الله في عمره ــ وقد اشتهرت عدالته وصفاته الممتازة بين الجميع ، فإننا عملا بالمأثور من المبايعات نبايعه وليًا لعهد المملكة العربية السعودية ، نبايعه على السمع والطاعة ، على كتاب الله وسنة رسوله ، ونسأل الله له الهداية والتوفيق ، ونضرع إليه تعالى أن يمد في عمره والده الملك العادل الموفق ــ خلد الله ملكه ــ وقد أخذنا هذه البيعة على أنفسنا لسموه ، وعلقناها بأعناقنا،ونشهد الله على ذلك ،والله خير الشاهدين..
وبعد تمام البيعة بعث الملك إلى وليّ عهده بخطاب جاء فيه : « لقد أحطت علماً بما ذكرت ، أما من قبل ولاية العهد فأرجو من الله أن يوفقك للخير. وينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور :
أولا: نية صالحة ، وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون دينك إعلاء كلمة التوحيد ونصرة دين الله.
ثانيًا : عليك أن تجد وتجتهد في النظر في شؤون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سرًا وعلانية ، العدل في المحب والمبغض وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل.
ثالثًا: عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة وأمر أسرتك خاصة ، اجعل كبيرهم والدا ، ومتوسطهم أخا ، وصغيرهم ولدا ، وهن نفسك لرضاهم ، وامح زلتهم ،وأقل عثرتهم ، واقض حوائجهم بقدر إمكانك، فإذا فهمت وصيتي هذه ، ولازمت الصدق والإخلاص في العمل ، فابشر بالخير.
وقد أجاب سموه جلالة والده بخطاب جاء فيه:
« جلالة مولاي المعظم ــ أيده الله ــ .
إن جميع ما ذكره مولاي لخادمه هو عين الصواب ، وأنه لاقوام لديننا ودنيانا إلا بالله ثم به ،من اتبعه نجى نفسه ،ونجى من ولاه الله عليه . وإني إن شاء الله سأجتهد، وأعتمد ما ذكره الله من النصائح الدينية والدنيوية ، وأرجو إن كان الله يعلم مني ذلك أن يوفقني لرضاه ثم لرضا جلالتكم ، وأن يوفقني لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين وولايتهم ، وإن كان يعلم مني ضد ذلك فأسأله تعالى أن يكفي المسلمين شري ،وأن يرد كيدي وكيد كل كائد إلى نحره.
والله ياطويل العمل إني يوم قرأت كتابكم ما قدرت على إتمامه لضيق صدري.. والله أسأل أن يطيل عمركم ويجزيكم عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء.
أوصيت ، فأبلغت ، وستظل وصيتك في قلبي راسخة إن شاء الله ما حييت..» .
الابن سعود
وفي خطاب سمو ولي العهد هذا جماع صفاته ومناقبه العالية وخير تقدمة له في هذا الكتاب.
الأمير فيصل
عين جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود ولده الأمير « فيصل » رئيسًا للحكومة ومرجعًا لدوائرها الرسمية ، ومنحه لقب.. « النائب العام لجلالة الملك» ،علاوة على توليه وزارة الخارجية، ورئاسة مجلس الوكلاء، ورئاسة مجلس الشورى.
وسموه في مقدمة الدبلوماسيين العالميين الذي تحسب لهم دوائر العالم السياسية ومؤتمراته ألف حساب وحساب ، وقد اكتسب تجارب خطيرة من رحلاته الكثيرة إلى الخارج . وكانت أول رحلات سموه إلى أوروبا في سنة 1919م،استغرقت ستة شهور ، زار خلالها ميادين القتال في الحرب العظمى، وكانت رحلته الثانية في مناسبة لها خطورتها ؛ فبعد أن اعترفت الدول الأوروبية بجلالة الملك عبدالعزيز ملكًا على المملكة العربية السعودية رأى جلالته إيفاد بعثة سياسية إلى هذه الدول الصديقة؛للشكر والعمل على تثبيت العلاقات بينها وبين بلاده، ووقع اختياره على الأمير فيصل لرئاسة هذه البعثة، فسافر بها إلى أوروبا في سنة 1350 هجرية، وأدى مهمته على خير وجه وأكمله.
وفي أواخر سنة 1350 هجرية رأى جلالة الملك إيفاد بعثة أخرى برئاسة سموه إلى أوروبا للاتفاق مع دولها على تبادل التمثيل السياسي مع المملكة السعودية العربية ،واستغرقت هذه البعثة في سفرها ثلاثة شهور، ريثما أدت مهمتها الشاقة.
وفي عام 1357هـ سافر سموه إلى مصر ومنها إلى لندن ، حيث شهد مؤتمر فلسطين ، وكان هذا المؤتمر أول مؤتمر من نوعه اهتمت له الدول العربية.
وكانت أول رحلات سموه إلى أمريكا سنة 1362هـ، لحضور أول اجتماع لتأسيس هيئة الأمم المتحدة . ثم سافر إلى هناك عدة مرات بعد ذلك رئيسًا لوفد بلاده في الجمعية العامة للأمم المتحدة .
وفي جميع أسفاره هذه أسمع العالم صوته يجلجل بإعلاء كلمة الحق ، ويبرز شعور العرب وأمانيهم ومطالبهم.
ذلك هو الأمير فيصل « النجل الثاني لأسد الجزيرة » .
وشبل الأمير فيصل «الأمير عبدالله الفيصل» شاب كامل ناضج ، أديب مطلع ، فارس مغوار ، حجة في أنساب الخيل الأصائل ،وذكر أخبار الفرسان المتقدمين ، خصوصًا الذين كانت لهم صلة وعلاقة بحروب آل سعود.
وقد دربه والده على فنون الحكم، بحيث أصبح يعتمد عليه كل الاعتماد كمساعد له في حضوره ، ونائبًا عنه في غيابه في الخارج . ويرعى الأمير عبد الله الفيصل الآن نهضة رياضية كبيرة مباركة في بلاده ، خصوصًا في كرة القدم، مؤمنًا بصدق رسالة الرياضة ونفعها ، كما أنه معني بالتوسع في إرسال البعوث العلمية إلى الخارج والعناية بها.
ومن أجل هذا يسمونه هناك « زعيم الشباب».
الأمير محمد
هو الابن الثالث لأسد الجزيرة ، ونترك الحديث عن صفات الرجولة والحكمة والأدب والعلم والخلق الفاضل التي يتحلى بها ، فجميع أبناء أسد الجزيرة سواء فيها، ونفرد الحديث في هذا الفصل عن أبرز صفات الأمير محمد .. الكرم .. كرم يعيد به ويحيي ذكرى حاتم الطائي رب الكرم في التاريخ العربي القديم.
وكما كانت نار حاتم الطائي تدل على خبائه ، وتدعو الضيفان وعابري السبيل ؛للإقبال على مائدة طعامه التي كانت لا تنفض.كذلك دلني إلى القصر الذي كان ينزل فيه الأمير محمد في شارع الهرم بالقاهرة جمع من فقراء مصر ومهاجري فلسطين ملتفين حول بابه . . عشرات بل مئات .. وكان وسطهم شاب عربي سمح الوجه كريم المحيا ؛ وقد أمسك في يديه رزمة من أوراق النقد،وراح ينثرها على هذا الجمع الحاشد . وسمعت صوتًا يهتف به من الداخل:
ــ اعطهم ياسهيل .. اعطهم بسخاء..
وكان الصوت الهاتف من الداخل هو صوت الأمير محمد ، وكان الشاب هو السيد سهيل أبو خضرة سكرتير الأمير .
و لقيت الأمير الكريم بهذه الصورة الرائعة من فيض الكرم والسماحة ، فلقيت فيه أديبًا فحلاً فذًا ، ووجدت عنده من حسن التقدير والتوقير للصحافة وجنودها ما جعلني أومن فوق إيماني بأن أشبال أسد الجزيرة نسيج وحدهم في كل شيء ..
وودعني السيد سهيل توديعًا حافلاً ،وفي حفاوة هي من صدى وترديد الأمير العظيم الذي يتشرف بخدمته وبثقته ورعايته (15).
الأمير مشعل وزير الدفاع
شاب يفيض حيوية ونشاطًا وفهمًا للأمور وإدراكًا للحقائق،ولاغرو فهو شبل أسد الجزيرة وشقيق الأمير الراحل منصور العظيم
صدر الأمر الملكي بتعيينه وزيرًا للدفاع خلفًا لشقيقه المغفور له الأمير منصور الذي اختاره الله إلى جواره (16)، فكان اختياره للقيام بهذا العبء الثقيل منة من منن الله ، ليواصل خطة المنصور لنهضة الجيش السعودي العظيم . وقد ظهرت آثار نشاطه وجده واجتهاده ، ولم يَمْضِ على تعيينه في منصبه زمن كبير.
وعندما نعى الناعي المغفور له الأمير منصور وقف الجميع في حيرة يتساءلون من الذي يستطيع أن يملأ ذلك الفراغ الكبير ،ومن الذي يمكنه أن يسلك مسلك الأمير الراحل في العمل لتقوية الجيش وإعداده ،كأي جيش منظم من جيوش الأمم الأخرى ، ولكن تبددت تلك الحيرة عندما أعلن أسدُ الجزيرة تعيين الأمير مشعل وزيرًا للدفاع السعودي ، فهو وحده أعلم بقدرة أبنائه وكفايتهم .
والأمير مشعل شاب في حوالي العشرين من عمره . تضاءلت أمامه تلك المهام الخطيرة التي أخذها على عاتقة، فكان صورة أخرى من الأمير منصور ــ رحمه الله ــ فكلاهما يتصف بالجرأة والإقدام والشجاعة وعدم الإحجام في سبيل عمل كل ما يعود على البلاد العربية السعودية بالخير .
وإذا كان من واجبنا أن نعزي جلالة أسد الجزيرة في فقد المغفور له الأمير منصور ، فمن واجبنا أيضًا أن نهنئه على ذلك الاختيار الموفق الذي ظهرت بوادر أعماله الموفقة الخطيرة.
المغفور له الأمير منصور
فقدت المملكة العربية السعودية بوفاة الأمير منصور وزير الدفاع السعودي السابق أحد أشبال أسدها ، وخسرت بموته خسارة فادحة لا تعوض.
كان اسم الأمير منصور في الحكومة العربية السعودية عنوان نهضة الجيش العربي السعودي . فمنذ سنوات ليست بالبعيدة بدأ سموه نهضة بهذا الجيش، فأوفد بعثات حربية إلى أمريكا وأوروبا ومصر ؛حتى استطاع أن ينشئ جيشًا قويًا عظيمًا مزودًا بأحدث المعدات والعتاد ،مما بان أثره في حرب فلسطين الأخيرة.
وتوفي الأمير منصور، وهو في آخر الحلقة الثالثة من عمره ،وكان لذلك دأبه تشجيع الشباب بإفساح المجال له؛ليقصر كل كفاءته وجهوده ونشاطه على خدمة البلاد ، ومن أبرز الشبان السعوديين الذين كان يعتمد عليهم سموه،ويثق فيهم كل الثقة السيد عبداللطيف الجزار مدير الخطوط الجوية السعودية، فهذا دينامو نشاط عقل راجح مفكر مدبر ،ومن مفاخر شباب العرب الناهض.(17)
وقد عني المغفور له سمو الأمير منصور عناية خاصة بإنشاء المدارس الحربية في « الطائف » غرب الجزيرة ، وفي « الظهران» في شرقها ، وكل من يتخرج في هذه المدارس يرسل في بعثات إلى الخارج في البلدان التي قدمنا ذكرها ، فمن الشباب السعودي الآن تلاميذ في كل فرع من فروع التعليم العسكري في كليات مصر الحربية، ومنهم كثيرون في كلية سندهر ست أرقى كلية حربية في بلاد الإنجليز، ومنهم تلاميذ كثيرون في مقاطعات اليتوبس، وتكساس، وأيومنج ،وفرجينيا، وكلورادو في أمريكا .. منهم من يدرس الأرصاد الجوية ،ومنهم يدرس صيانة الطائرات ، ومنهم من يدرس صيانة السيارات ، ومنهم من يدرس المواصلات اللاسلكية ،وبعضهم يدرس أنظمة التمرين الجوي والبري ،وكثيرون يدرسون أنظمة المشاة والمدفعية واستعمال الأسلحة الثقيلة والخفيفة . ومن هؤلاء من عاد واحتل مركزه في الجيش السعودي ، ليعمل في السلاح الذي تخصص فيه ويخدم وطنه ومليكه .
وكان ــ رحمه الله ــ يعنى عناية فائقة بالطيران ، فأوفد بعثات إلى مصر وإيطاليا من الشباب السعودي للتدرب على قيادة الطائرات وميكانيكيتها ، وأنشأ المطارات الكبيرة العالمية في جدة والرياض والمدينة والطائف والظهران والأحساء . ثم أنشأ الخطوط الجوية السعودية ، للنقل المدني عامة ولخدمة الحجاج خاصة.
واللاسلكي في المملكة العربية السعودية منتشر أكثر من التليفون ؛ ففي كل مصلحة حكومية جهاز لاسلكي يربطها بالحكام وباقي المصالح الأخرى، ولا شيء ينهض ويرقى ببلد مثلما تنهض بها وسائل المواصلات السريعة المؤكدة.
وفي خلال الحديث مع سمو الأمير منصور إذا مالقيته ،كنت تستشعر أنه يود لو يرى كل شباب الأمة العربية السعودية جنودًا ، وكان سموه يرى أن الترغيب والعمل الصامت المجدي ، وتوفير وسائل الراحة ما أمكن .. هذه الوسائل هي التي تجدي في زيادة الإقبال على الجندية ،والمدارس العسكرية. ولذلك أمر ــ رحمه الله ــ بزيادة راتب تلاميذ المدارس العسكرية ، حتى أصبح يفوق راتب موظف الدرجة الرابعة ، كما زاد في راتب الضابط والجندي زيادة ملحوظة . وأمر ببناء أحدث المطاعم والنوادي في الطائف مقر القيادة بالثكنات العسكرية ، وبناء بيوت صغيرة للضباط مزودة بأحدث وسائل الراحة.
وكان المنصور الشاب يكرم رجاله ويقدرهم ويسندهم في كل عسرة . ولذلك كان كل من عمل بمعية المنصور يشعر بالاعتزاز والكرامة الذاتية؛لأن الأمير كان يحب كل مجد مجتهد يؤدي واجبه بدقة ، وفي نظام وصمت ، ويصل به إلى المركز اللائق بنشاطه وعزمه ورجولته.
إن همة الأمير منصور العسكرية الوثابة فاضت على المملكة العربية السعودية،حتى أصبح جيشها يتخذ من اسمه « المنصور» تعويذة النصر ، وستبقى روحه بعد وفاته تقود الجيش الذي أنشأه من عصارة روحه وجهده إلى النصر والمجد.
أمراء البيت المالك
الأمراء في المملكة العربية السعودية يشاركون في شؤون الحكم، ويتدربون على القيام بمهامه وتحمل مسؤولياته ، وذلك بفضل السياسة الحكيمة الرشيدة التي رسمها لهم ،وأنشأهم عليها الملك عبدالعزيز .
ولجلاته ثلاثة وثلاثون ولدًا هم بترتيب أعمارهم التنازلي الأمراء(18) :
سعود ــ فيصل ــ محمد ــ خالد ــ ناصر ــ سعد ــ فهد ــ منصور ــ عبدالله ــ بندر ــ سلطان ــ مشعل ــ مساعد ــ عبدالمحسن ــ مشاري ــ متعب ــ طلال ــ عبدالرحمن ــ تركي ــ بدر ــ فواز ــ نواف ــ ماجد ــ نايف ــ سلمان ــ عبدالإله ــ أحمد ــ سطام ــ ثامر ــ ممدوح ــ مشهور ــ هذلول ــ عبدالمجيد ــ مقرن .(19)
ولجلالة الملك إخوة ثمانية يتسمون كلهم بالجلال والهيبة وسعة الأفق والحكمـة والتبحـر في العـلوم والآداب،وهم الأمراء:محمد ــ سعود ــ عبدالله ــ أحمد ــ مساعد ــ سعد ــ عبد المحسن ــ سعد (30).
على أن مشاغل الحكم ومهامه ومسؤولياته لم تصرف الأمراء عن متابعة النشاط الأدبي ، ومنهم شعراء وكتاب مبرزون ، فقط أتيح لي أن أقضي فترة من الوقت في زيارة « الأمير مساعد بن عبدالعزيز » في قصره بالرياض ، واستمعت منه إلى قصائد عديدة ، نظمها سموه في فترات فراغه ، ومن هذه القصائد ما يغنيه سكان البادية ويترنمون به ، وأشهرها قصيدة يقول فيها الأمير الشاعر :
ولي مُقْلةُ ُ مازارها النومُ أشهرًا فإن كان ذا عجبًا فنومي أعجبُ
لأنيَ قد فارقتُ أنْسِي وراحتي وكيف ينـامُ الليلَ قلــبُ ُ معذبُ!
الجزيرة العربية في سطور
هذا هو حديث المملكة العربية السعودية في كتاب الجغرافيا .. موقعها بين البحر الأحمر غربًا والخليج العربي شرقًا .. والممالك التي تحيط بها قطر وعمان من الشرق . والعراق وشرق الأردن من الشمال . واليمن والربع الخالي من الجنوب.. ومساحتها 000،00،16 كيلو متر(21)مربع ، ويبلغ عدد سكانها الثمانية ملايين نسمة تقريبًا.
وكانت المملكة العربية السعودية مقسمة إلى جملة مقاطعات وإمارات قبل أن يظلها العلم السعودي،ويشملها حكم أسد الجزيرة الموفق ، والتقسيمات الرئيسية الآن هي:الحجاز ــ عسير ــ عسير تهامة ــ نجد،العارض ــ القصيم ــ الجبل(22)ــ الحسا .
وأهم الصفات الطبيعية البارزة في الجزيرة العربية هي «سلسلة جبال السراة الحجاز » التي تخترقها في محاذاة الساحل الغربي من الشمال إلى الجنوب . وقد سميت هذه السلسلة « حجازًا » ؛لأنها حجزت بين ساحل البحر الأحمر والبحار الشرقية (23)، والقسم الهابط عن مستوى الحجاز إلى الغرب اسمه «تهامة» ، والقسم الشرقي اسمه « نجد ».
قد تختلف الريا ح شدة وجفافًا باختلاف المصدر الذي تهب منه ، فالرياح الشمالية من الحجاز لطيفة باردة على السواحل وفي الجنوب رطبة تضيق الأنفاس ،وفي الداخل حارة شديدة اللفح . أما في باقي أنحاء الجزيرة فتهب الرياح بقوة فتسقي الأتربة ، والأمطار في الجزيرة العربية إكسير الحياة للبادية والحضر ، وهي على الإجمال نادرة رغم شدة الاحتياج إليها.
وتعتبر المملكة العربية السعودية من أهم بلاد العالم التي تنتج أجود أنواع التمور ، ويبلغ عدد النخيل في الجزيرة العربية 9 ملايين نخلة.
ويبلغ عدد الشركات هناك 60 شركة،وأشهرها « الشركة العربية للسيارات» ،ورأس مالها 12 مليون ريال سعودي، أي مليون جنيه مصري ، وشركة التوفير والاقتصاد ، ورأس مالها 000،000،12ريال ،أي 000،100 جنيه مصري ، و« شركة مصحف مكة» التي أصدرت مصحفًا بخط الخطاط المكي المشهور الشيخ طاهر الكردي(24)، ويبلغ رأس مال هذه الشركات أكثر من 20 مليون ريال.
ويبلغ عدد المصانع الحديثة والورش لتركيب السيارات والكهرباء، وأعمال الخشب والحديد 220 مؤسسة في جميع أنحاء الجزيرة العربية ، يعمل فيها نحو 000،80 عامل وموظف من العرب أبناء الجزيرة.
وقد ركب في العام الماضي في مختلف بلدان الجزيرة 2800 تليفون ، وبلغ عد أجهزة الراديو 6200 جهاز ، وتنقل طائرات شركة t.m.m.a.والطائرات السعودية البريد بين مدن الجزيرة وبينها وبين الخارج.
وقد عرفت الجزيرة العربية بأنها واد غــير ذي زرع(25)، ولكنهــا عرفت إلى -جانب ذلك -، بأنها مركز تجاري هام ، تستقبل من عروض التجارة ، وتصدر من أصنافها وألوانها الشيء الكثير ، فإذا أضفنا إلى هذا ما ظهر فيها أخيرًا من آبار الزيت ومناجم التعدين أمكننا أن نسبغ على تلك البلاد صفات التجارة بأوسع معانيها ، وإن كان مقدرًا لها أن تصبح أيضًا مملكة صناعية تستقبل ثروات أرضها بنفسها .
ومن أهم صادرات الجزيرة العربية ، الزيت ، والذهب ، والصمغ ، والجلود ، والمواشي ، والخيل ، والجمال ، والصوف ؛ والفحم،والبلح ، والسمن ، والحناء،ومنتجات البحر الحيوانية.وتستورد الجزيرة أكثر حاجاتها من المواد الغذائية والملابس من الخارج.