هل صحيح؟! **مشعل السديري

هل صحيح؟!

ما أكثر الحكايات الواقعية الإنسانية المؤثرة التي تملأ العالم في كل زمان ومكان، هي فقط تريد من يلاحظها، ويتفاعل معها، ويلقي عليها الضوء، علها تكون نموذجا صارخا يهز بعض الضمائر النائمة أو التي هي على وشك الموت.

وإليكم واحدة منها، ففي أحد الأيام كان الأب يسوق سيارته وبجانبه زوجته وتجلس في المقعد الخلفي طفلتهما البالغة أربعة أعوام، وإذا بشاحنة مسرعة تخرج لهم كالقضاء والقدر من شارع جانبي وتجتاح سيارتهم، وأصيب الأب والأم بجراح خطيرة نقلوا على أثرها الى العناية المركزة، فيما أصيبت البنت بكسور متعددة ونقلوها الى قسم الأطفال. ولم يعرف أي أحد من هؤلاء الثلاثة أي شيء عن الآخر، فمن شدة الصدمة أصبحوا في غيبوبة، وبعد أيام أفاقت الطفلة المسكينة وكأنها كانت في حلم، فآلام الكسور والجروح أقضت مضجعها، وافتقادها وسؤالها عن أبيها وأمها جعلاها تعيش برعب وارتجاف متواصل، فكان لا بد من مداراتها نفسيا فوق معالجتها طبيا.

وعطفت عليها الممرضة المكلفة برعايتها، ورغم أنها كانت امرأة متقدمة بالسن، إلا أنها بدلا من أن تذهب الى منزلها بعد أن تنتهي نوبتها فقد آثرت أن تبقى معها طوال الليل لتشعرها بالأمان، ومع الوقت تعلقت الطفلة بها، واعتمدت عليها، واستأنست بها، خصوصا وهي التي أحضرت لها مجلات الأطفال المصورة، والحلويات، وتغني لها وتقص عليها الأقاصيص قبل أن تنام. وبعد أن تأكدت أنها بدأت تتحسن وضعتها على كرسي متحرك، وأخذتها الى زيارة والديها، وذهبت بها الى حديقة المستشفى، وهكذا داومت على فعل ذلك كل يوم. المهم انه سمح للثلاثة بمغادرة المستشفى بعد عدة شهور، وقد شكر الوالدان الممرضة على موقفها الإنساني مع طفلتهما ووجها لها الدعوة لزيارتهم، ورغم إلحاح وبكاء وتعلق الطفلة بالممرضة لكي تذهب معهم، إلا أنها اعتذرت لهم والدموع تملأ عينيها لأنه ما زال هناك أطفال في المستشفى يحتاجون الى العلاج والمحبة والأمان، وظلت العائلة على علاقة بالممرضة لعدة شهور بواسطة التلفون.

غير ان العائلة انتقلت الى خارج البلاد، وانتقلت الممرضة بدورها الى مستشفى آخر وانقطعت الاتصالات، وبعد ثلاثين سنة مرضت (الممرضة) في بيتها، وكانت قد تجاوزت العقد الثامن من عمرها، فنقلوها الى مستشفى لرعاية المسنين، فأخذت ممرضة شابة تهتم بها وتوليها عناية خاصة، وذات ليلة وبينما كانت المريضة العجوز تتبادل الحديث مع ممرضتها الشابة التي حكت لها أنها قد أحبت مهنة التمريض بسبب ما شاهدته من ممرضة اعتنت بها عندما كانت في الرابعة من عمرها، وأنها بعد أن كبرت درست التمريض وتزوجت وانتقلت الى هذه البلدة قبل ثلاثة أشهر، والتحقت بالعمل هنا قبل شهر واحد، ودهشت الممرضة عندما قالت لها العجوز: لقد تجمعنا ثانية، ولكن هذه المرة أنت التي تمرضينني، وتعانقت الاثنتان وسط القبلات والدموع.

وعندما شفيت العجوز التي كانت ممرضة، انتقلت الى منزل الطفلة التي أصبحت ممرضة، ليكسب أطفالها أعظم جدة.. وهكذا هي الأيام، والآن هل صحيح شطر البيت الشعري القائل: من يفعل المعروف لا يعدم جوازيه؟!