المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسافرون!


موسى محمد هجاد الزهراني
26/07/2008, 03:16 PM
مسافرون!موسى بن محمد بن هجَّاد الزهراني
في الطائرة إلى القاهرة في ‏4‏/رجب‏/1429هـ
كلنا مسافرون !..
.. لكني منذ سنوات خمس ؛ أقطع الفيافي والقفار ، ذهاباً وجيئةً ، من بلادي إلى مصر .. ومنها إلى بلدي تارة أخرى ! .. ولا أعلم متى (شا القي عصاة المسافر ) ؟! كما يعبر إخواننا أهل اليمن ! .
أكتب هذه السطور وأنا معلقٌ بين السموات والأرض ، على طائرة الخطوط السعودية، وهي تمخر عباب الفضاء ! ، ذاهبة بي إلى مصر الكنانة ، في رحلة مناقشة رسالة الماجستير ، أسأل الله تعالى أن يتمها بخير( 1) .
حُبِّبَ إليَّ السفرُ منذ الصغر ، لكنه لم يكن يتجاوز منطقة (تهامة) ، لي فيها إخوةٌ ، أمكث عندهم طيلةَ الإجازة الصيفية ،رغم ما تضمه جبالها بين جنباتها من جحيم لا يطاق! فهي لا تعرف البردَ شتاءً ، كما أنَّ (الباحة) لا تعرف الحرَّ صيفاً – فيما مضى قبل الاحتباس الحراري !- وأنا عكستُ الآية ! ، فإذا جاء الناس إلى مرتفعات السراة لقضاء الصيف في جوٍ بارد ؛ أنزلُ أنا إلى تهامة لأشعر بالدفء!!..
تهامة .. فيها معانٍ كثيرة ، لا أستطيع تصويرها . كنت أجد فيها سعة الأحلام ، والتجديد المستمر للحياة ، ليل تهامة ليل الشعر ، وأظن العاشقين الأوائل قد استنشقوا من عبير ليلها ما ألهمهم شعراً يقطر منه الجمال . لم يكن يعكر صفو حياتي فيها إلاّ ساعةُ النوم ، والحنين إلى أبي .. آه يا أبي .. أين أنت يا أبي ؟! رحمة الله عليك .. كم أشتاق إلى أن أضع رأسي على صدرك ، وأشم ريحك الطيب الذي ما شممت أطيب منه .. رحلت يا أبي ولم أرتوِ من النظر إلى وجهك الحبيب ، والشوق إلى أمي الحبيبة حفظها الله ، وأخويَّ الصغيرين (آنذاك ) حسن ، وهجاد !(2 ) .. أحياناً أشعر بدموعي تسقط على خديَّ قسراً تحت غطاء النوم ، ولم أكن أتنازل عن كبرياء الطفولة بسهولة ! ، فلا أبكي أمام أحدٍ إلاَّ تحت وطأة القهر ، وبصعوبة بالغة ، وفي مواقف لا تحتمل إلاَّ البكاء ! .. أما اليوم .....!!.
كبرت .. وسافرت !.
أول سفرة كانت إلى الرياض عام 1405هـ ، بعدما صارعت أحداثاً عائلية لم أنم من جرائها ، ومن شدة آلامها سنة كاملة . لم تكن سفرتي عن رغبة في السفر ، بل هروباً من تلك الأحداث وآلامها ، التي أغضت من إهابي الغض ، وقفزت بعقلي إلى مصاف رجال الثلاثين من العمر ، رغم أني ما تجاوزت الخامسة عشرة ! .
لولا أن سخَّر الله لي خالي العزيز على قلبي (حسن بن يحيى الزهراني )، حفظه الله ؛ لانفطر قلبي من همِّ الفراق .. وهذه المرة سفرٌ إلى (نجد) ، نجد .. المباني الشاهقات ، والمشاعر الجامدات! ، إلى طباع لم أعهدها ، ووجوه لفحتها لفحة صحراوية فأثَّرت شمسها في تلك الوجوه ، فعبست في وجه قرويٍ كان يظن أن الابتسامة قد خُلقت في الوجوه ! قبل أن يأتي إلى الرياض فيكتشف أنه مغفَّل ! .
كان قلب خالي كبيراً ، فقد وجدت فيه ما فقدت ، وجدت الأب ، والأُم ، والإخوة ، وقد كان فارق السن كبيراً ، إذ هو حينها متخرج من كلية التربية ، بجامعة الرياض (الملك سعود) ، لكني كنت أشعر أنه أقرب إليّ من نفسي .
كان يمدني بالمال والمشاعر ، والنصائح الموجزة جداً ، لكنها على وجازتها كانت تُحفر في قلبي ، فلا أحتاج إلى كتابتها ، وإني لأذكرها اليوم وأدعو له من كل قلبي .. وأحياناً لم يكن يحوج نفسه إلى الكلام ، بل نظرة من عينيه تكفي لأعلم ما يريد ! رحم الله ذاك الزمان ! .
ثم مكثت لديه عاماً ونصف العام ، وكان هو عالمَي ! .
وفي عام 1406 هـ قذفت بي أقداري في أحضان الحياة .. حياة لم تزدني بها علماً ، بل أضافت إلى علمي بها قتلَها لطموحٍ كان يملأُ جوانحي ، قُتل طموحي على أيدي أناسٍ لا أستطيع أن أصفهم بالبشرية فأظلمها ! .
اعتدت السفر منذ ذلك الزمان إلى الآن ، فكنتُ – بعد أن تعيّنتُ موظفاً في المنطقة الشرقية لم أكن أحمل إلاَّ الشهادة الإعدادية! - أسافر نهاية كل شهرٍ إلى(بلاد زهران) ! ؛ شوقاً إلى أهلي ومراتع الصبا والذكريات العذبة الجميلة مع صديق الطفولة عبدالله بن موسى ، ابن عمي ، وكنت كتبت مغامراتنا معاً في مقال قبل سنوات .
كنتُ أمنّي نفسي في كل سفرة أن ينتقل عملي إلى الباحة ، عاماً بعد عام ، حتى ماتت هذه الأمنية ، وماتت معها خيالات كانت -أيضاً- آمالاً ! .
وهائنذا اليوم أعبر البحار .. حتى أصبتُ برهاب الطائرات – صدقاً! - ، كلما اهتزت الطائرة هزة خفيفة ظننتها تعنيني ، فأتصلَّب على مقعدي ! ، أين هذا الخوف عندما كانت الطائرة تموج موجاً على جبال السروات ؟! لا أعلم .
ذهبتُ إلى زميلٍ لي ،( مقدم طبيب أمراض نفسية)! ، فشكوت له الحال ، فابتسم وقال :( حتى أنا !! كنت في رحلة قبل أيام فاستعنت بـ(حبةٍ) منومة ! فعُد إليَّ غداً لأجلس معك) ! فقلت في نفسي : (جئناك يا عبد المعين تُعين !!) إن صحَّ المثل ( 3).
أسافر لدراستي ، ورؤية بنتي وزوجتي هناك ، وأعود لأمكث أشهراً بين زوجتي وأبنائي وبناتي هنا ، وذهني لم يزل مسافراً هنا وهناك ! كأنني : موكلٌ بفضاء الله يذرعُه !.
عملٌ ، ودعوة ، وكتابة ، ومسجد ، وخطابة ، وديون وهمومٌ وغموم ، .. أسافر فأحملها على ظهري ، فأسافر بها معي ، فكأني ما برحت مكاني .
والآن – في هذه اللحظة – من الهمِّ .. أربطُ حزامَ مقعد جاري على وسطي دون تفكير بدلاً من حزام مقعدي ! ولم أنتبه إلاَّ من قصر الحزام ! ونظرة جاري الطيبة! فأرجعته بابتسامة باردة ! .
حدثان اثنان قصما ظهري في سنواتي الثلاث الماضيات ، إضافة إلى بلاء وقع عليَّ ممن زعم أنه ( أخٌ لي في الله!! ) عُد واقرأ مابين القوسين ! .. سببه الحسد ..
أما الحدثان .. فأولهما موتُ عمتي .. والدة زوجتي ، وإني أشهد لله شهادة حقٍ أني لم أر مثلها في حياتي ، في اتزان عقلها ، وصلابة دينها ، وهدوئها ، رحمة الله عليه رحمة واسعة.
والآخر .. موت عمي هذا العام ،زوجها ، فنفد ما بقي لي من ابتسامات أتجمل بها ..
وتجلدي للشامتين أريهموا ... أني لريب الدهر لا أتضعضع !
كان هو أبي ، عشت معه أكثر مما عشتُ مع أبي ، رحمهما الله جميعاً ، لكن موته كان خطبُه عظيماً على قلبي ، وكأنني لم أُصب بمصيبة قبله ، ولا بموت حبيبٍ من قبل . أظلمت الدنيا في وجهي ، ورأيته في منامي –قبل أيام- في هيئة حسنة ، ووجهٍ جميل ، وكأني أشكو عليه الحال ، وأقول له :
" تعبت بعدك يا عم !" .
كنتُ إذا سافرتُ بدأت به فودعتُه ، وإذا قدمتُ من سفري بدأتُ به فاتصلتُ به قبل أن أزوره ، فإذا زرته .. ضحك ، وداعب ، ومزح ، وواسى ... هكذا كان .. حتى هدَّه المرضُ ، وإني أرى أنَّ مرضه كان كمداً على زوجته – رحمها الله – عمتي ، فوالله لا أعلم في هذا الزمان زوجين وفيَّين لبعضهما ، مُحبيَّنِ مُخلصينِ .. كحبهما ..لقد كرهتُ المنطقة الشرقية بقدر حبي لها ! وأشعر أنني مخنوقٌ في شوارعها بحبل الذكريات ! .
وصلتُ إلى درجة من الحساسية في معاملة الناس لا مزيد عليها ، حتى إنني لأظن أن كلَّ من تجهّم في وجهي قد رأى مني ما يسيء إليه ! ، فأراجع نفسي .
أصلي بالناس فأسهو في قراءة آيات لا يخطئ فيها الطفل في حلقات التحفيظ ! ، كنت أظن أني أحفظها حفظي لاسمي واسم أبي ! .
أسافر لعل السفر يغيرني .. لكن ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ .
أما الأصدقاء ووفاؤهم !..
فإن كان يعقوب  كان ابتلاؤه في أبنائه وفقدهم ؛ فقد ابتلاني الله تعالى في أصدقائي وتنكرهم ! ربما لسذاجتي وبساطتي ، أصادق المرء بصدق .. وأشق له فؤادي ليكتشف أسراره .. فإذا به يجفوا ويتنكر ، ويقلب له ظهر المجنّ !.أهذا جزاء المستهام المتيم؟! .
جزاء من فتح لك قلبه وأسكنك فيه بلا تحفظٍ ولا قيود ! ، ما ابتلاني الله ببلاء مثلما ابتلاني بهم!.
وجاء هذا (الهاتف الجوال) ليحمل إليَّ إساءاتهم مكتوبة بأحرفٍ من جهنم ! ، وهو كالصنم في جيوبنا .. لا يفارقنا في حلٍ ولا ترحالٍ .. فكيف يكون السفر مريحاً .. وهو أسوأ رفيقٍ فيه ؟! .
* * *
لكنني وقد تجاوزت التاسعة والثلاثين من عمري أصبحت أخاف من السفر الذي لا رجعة منه .. سفرٌ طويلٌ .. طويل .. وزادٌ قليل قليل ! .
سفرٌ إلى الله .. بذنوبٍ ناء بها كاهلي ! ، لولا حُسن ظني بالله تعالى ، الغفور الرحيم ، الذي لم ينزل سورة في القرآن تسمى .. سورة الجبار .. أو المنتقم .. لولا حسن ظني به تعالى لانصدع قلبي من الخوف والحياء منه ! .
أيها الناس .. كلنا مسافرون !.
------------------------------------------------------------------------------
(1 ) الحمد لله ، تمت وحصلت على درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية من جامعة القاهرة بتقدير (ممتاز ).
( 2) كبر (حسن) وتوظف في جدة، وتزوج ، والآن لديه ( محمد ، وهيا ، ورؤى ، ولمار ) . و(هجاد) تزوج أيضاً لديه ( حسن ) حفظهم الله.
( 3) بحمد الله تعالى شفاني الله من هذا الرهاب بفضله ، ثم بالدعاء ، فأصبحت أستمتع بالسفر ، فله الحمد والمنة .

المزيونه
26/07/2008, 04:54 PM
الف مبروك اخي عل الشهاده

واطال الله بعمرك

وجزاك خير الجزاء

رحاب الرحمن
26/07/2008, 07:00 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الف مبروك على درجة الماجستير و عقبال الدكتوراه ان شاء الله و انه لفخر لنا ان تناقش رساله الماجستير بارض مصر الحبيبه لان حضرتك و علمك مكسب للجميع بجميع انحاء امة الاسلام
http://www.yesmeenah.com/smiles/smiles/50/dear%20(14).gif
نشكرك جزيل الشكر لمقالك الرائع

ابو عامر الخزمري
26/07/2008, 09:15 PM
مبروك مبروك مبروك مبروك مبروك مبروك مبروك

على حصولك على شهادة الماجستير....... واطال الله في عمرك

الخزمري 07
27/07/2008, 08:04 PM
الشيخ موسى الزهراني
وفققك الله لما يحب ويرضئ
والله اني حبيتك في الله وجالس ادعيلك في كل فرض
الله يوفققك دنيا واخره وان يجمعنا في الجنه مع الابرار والصديقين والشهداء
وصلى الله وسلم علي نبينا محمد افضل الصلاه واتم تسليم
محبك في الله حسن سعيد الخزمري الزهراني

صقر الجنوب
28/07/2008, 01:29 PM
يسعدني مجددا ودائما وفي كل وقت ان ابارك لك في حصولك على الماجستير بتقدير امتياز واسال الله ان يبارك لك في جسدك وعمرك واولادك وكل من تحب ..
حديثك جميل وجميل ان نتذكر الاوفياء من الناس .. والدك عمي الغالي وأسأل الله له الرحمه والمغفرة وأن يكرم نزله وكذلك عمك وعمتك رحمة الله عليهم وغفر الله لهم ..
أكبر نعمة أنعم بها الله سبحانه وتعالى عليك ياشيخنا أن هداك إلى طريق الصلاح والاستقامة وفقك الله وسدد خطاك ونفع بك الامة .

بنت الحجاز
29/07/2008, 12:45 AM
الف الف مبروك اخي العزيز حصولك على درجة الماجستير التي تستحقك فانت وكما سمعناعنك نعم الرجل اخلاقا وادبا وحصولك على الماجستير لايعنيك وحدك بل هوشرف لنا ولأقاربك كما انه شرف للمنطقة ان يحصل مثلك على هذه الدرجة العلمية فالف الف مبروك وتهنئتي أزفها لأسرتك الكريمة وعقبال درجة الدكتوراه بإذنه تعالى

روح المسك ابوعاصم
21/10/2008, 01:48 AM
شيخي موسى هجاد
بارك الله فيك وفي علمك وعملك
مليار بتباريك وتهاني على حصولك على درجة الماجستير
واسال الله العظيم ان نرى دروسك العلميه قريبا
شكرك على كتاباتك الادبيه ارقيه
فجزاك الله خير يابن القيم عصرنا

تلميذكم ابوعاصم
روح المسك

الرحال999
21/10/2008, 04:56 PM
اخي الحبيب ابو محمد
انا ابارك لشهادة الماجستير ان اصبحت تضاف الى اسمك
واما الهموم وما تعانيه فهذا حال ابن آدم ولكن ( صبر جميل)


اسعدك الله دنيا وآخره
تحياتي لك