![]() |
![]() |
![]() |
#1
|
|||||||||
|
|||||||||
مسافرون!
مسافرون! موسى بن محمد بن هجَّاد الزهرانيفي الطائرة إلى القاهرة في 4/رجب/1429هـ كلنا مسافرون !.. .. لكني منذ سنوات خمس ؛ أقطع الفيافي والقفار ، ذهاباً وجيئةً ، من بلادي إلى مصر .. ومنها إلى بلدي تارة أخرى ! .. ولا أعلم متى (شا القي عصاة المسافر ) ؟! كما يعبر إخواننا أهل اليمن ! . أكتب هذه السطور وأنا معلقٌ بين السموات والأرض ، على طائرة الخطوط السعودية، وهي تمخر عباب الفضاء ! ، ذاهبة بي إلى مصر الكنانة ، في رحلة مناقشة رسالة الماجستير ، أسأل الله تعالى أن يتمها بخير( 1) . حُبِّبَ إليَّ السفرُ منذ الصغر ، لكنه لم يكن يتجاوز منطقة (تهامة) ، لي فيها إخوةٌ ، أمكث عندهم طيلةَ الإجازة الصيفية ،رغم ما تضمه جبالها بين جنباتها من جحيم لا يطاق! فهي لا تعرف البردَ شتاءً ، كما أنَّ (الباحة) لا تعرف الحرَّ صيفاً – فيما مضى قبل الاحتباس الحراري !- وأنا عكستُ الآية ! ، فإذا جاء الناس إلى مرتفعات السراة لقضاء الصيف في جوٍ بارد ؛ أنزلُ أنا إلى تهامة لأشعر بالدفء!!.. تهامة .. فيها معانٍ كثيرة ، لا أستطيع تصويرها . كنت أجد فيها سعة الأحلام ، والتجديد المستمر للحياة ، ليل تهامة ليل الشعر ، وأظن العاشقين الأوائل قد استنشقوا من عبير ليلها ما ألهمهم شعراً يقطر منه الجمال . لم يكن يعكر صفو حياتي فيها إلاّ ساعةُ النوم ، والحنين إلى أبي .. آه يا أبي .. أين أنت يا أبي ؟! رحمة الله عليك .. كم أشتاق إلى أن أضع رأسي على صدرك ، وأشم ريحك الطيب الذي ما شممت أطيب منه .. رحلت يا أبي ولم أرتوِ من النظر إلى وجهك الحبيب ، والشوق إلى أمي الحبيبة حفظها الله ، وأخويَّ الصغيرين (آنذاك ) حسن ، وهجاد !(2 ) .. أحياناً أشعر بدموعي تسقط على خديَّ قسراً تحت غطاء النوم ، ولم أكن أتنازل عن كبرياء الطفولة بسهولة ! ، فلا أبكي أمام أحدٍ إلاَّ تحت وطأة القهر ، وبصعوبة بالغة ، وفي مواقف لا تحتمل إلاَّ البكاء ! .. أما اليوم .....!!. كبرت .. وسافرت !. أول سفرة كانت إلى الرياض عام 1405هـ ، بعدما صارعت أحداثاً عائلية لم أنم من جرائها ، ومن شدة آلامها سنة كاملة . لم تكن سفرتي عن رغبة في السفر ، بل هروباً من تلك الأحداث وآلامها ، التي أغضت من إهابي الغض ، وقفزت بعقلي إلى مصاف رجال الثلاثين من العمر ، رغم أني ما تجاوزت الخامسة عشرة ! . لولا أن سخَّر الله لي خالي العزيز على قلبي (حسن بن يحيى الزهراني )، حفظه الله ؛ لانفطر قلبي من همِّ الفراق .. وهذه المرة سفرٌ إلى (نجد) ، نجد .. المباني الشاهقات ، والمشاعر الجامدات! ، إلى طباع لم أعهدها ، ووجوه لفحتها لفحة صحراوية فأثَّرت شمسها في تلك الوجوه ، فعبست في وجه قرويٍ كان يظن أن الابتسامة قد خُلقت في الوجوه ! قبل أن يأتي إلى الرياض فيكتشف أنه مغفَّل ! . كان قلب خالي كبيراً ، فقد وجدت فيه ما فقدت ، وجدت الأب ، والأُم ، والإخوة ، وقد كان فارق السن كبيراً ، إذ هو حينها متخرج من كلية التربية ، بجامعة الرياض (الملك سعود) ، لكني كنت أشعر أنه أقرب إليّ من نفسي . كان يمدني بالمال والمشاعر ، والنصائح الموجزة جداً ، لكنها على وجازتها كانت تُحفر في قلبي ، فلا أحتاج إلى كتابتها ، وإني لأذكرها اليوم وأدعو له من كل قلبي .. وأحياناً لم يكن يحوج نفسه إلى الكلام ، بل نظرة من عينيه تكفي لأعلم ما يريد ! رحم الله ذاك الزمان ! . ثم مكثت لديه عاماً ونصف العام ، وكان هو عالمَي ! . وفي عام 1406 هـ قذفت بي أقداري في أحضان الحياة .. حياة لم تزدني بها علماً ، بل أضافت إلى علمي بها قتلَها لطموحٍ كان يملأُ جوانحي ، قُتل طموحي على أيدي أناسٍ لا أستطيع أن أصفهم بالبشرية فأظلمها ! . اعتدت السفر منذ ذلك الزمان إلى الآن ، فكنتُ – بعد أن تعيّنتُ موظفاً في المنطقة الشرقية لم أكن أحمل إلاَّ الشهادة الإعدادية! - أسافر نهاية كل شهرٍ إلى(بلاد زهران) ! ؛ شوقاً إلى أهلي ومراتع الصبا والذكريات العذبة الجميلة مع صديق الطفولة عبدالله بن موسى ، ابن عمي ، وكنت كتبت مغامراتنا معاً في مقال قبل سنوات . كنتُ أمنّي نفسي في كل سفرة أن ينتقل عملي إلى الباحة ، عاماً بعد عام ، حتى ماتت هذه الأمنية ، وماتت معها خيالات كانت -أيضاً- آمالاً ! . وهائنذا اليوم أعبر البحار .. حتى أصبتُ برهاب الطائرات – صدقاً! - ، كلما اهتزت الطائرة هزة خفيفة ظننتها تعنيني ، فأتصلَّب على مقعدي ! ، أين هذا الخوف عندما كانت الطائرة تموج موجاً على جبال السروات ؟! لا أعلم . ذهبتُ إلى زميلٍ لي ،( مقدم طبيب أمراض نفسية)! ، فشكوت له الحال ، فابتسم وقال :( حتى أنا !! كنت في رحلة قبل أيام فاستعنت بـ(حبةٍ) منومة ! فعُد إليَّ غداً لأجلس معك) ! فقلت في نفسي : (جئناك يا عبد المعين تُعين !!) إن صحَّ المثل ( 3). أسافر لدراستي ، ورؤية بنتي وزوجتي هناك ، وأعود لأمكث أشهراً بين زوجتي وأبنائي وبناتي هنا ، وذهني لم يزل مسافراً هنا وهناك ! كأنني : موكلٌ بفضاء الله يذرعُه !. عملٌ ، ودعوة ، وكتابة ، ومسجد ، وخطابة ، وديون وهمومٌ وغموم ، .. أسافر فأحملها على ظهري ، فأسافر بها معي ، فكأني ما برحت مكاني . والآن – في هذه اللحظة – من الهمِّ .. أربطُ حزامَ مقعد جاري على وسطي دون تفكير بدلاً من حزام مقعدي ! ولم أنتبه إلاَّ من قصر الحزام ! ونظرة جاري الطيبة! فأرجعته بابتسامة باردة ! . حدثان اثنان قصما ظهري في سنواتي الثلاث الماضيات ، إضافة إلى بلاء وقع عليَّ ممن زعم أنه ( أخٌ لي في الله!! ) عُد واقرأ مابين القوسين ! .. سببه الحسد .. أما الحدثان .. فأولهما موتُ عمتي .. والدة زوجتي ، وإني أشهد لله شهادة حقٍ أني لم أر مثلها في حياتي ، في اتزان عقلها ، وصلابة دينها ، وهدوئها ، رحمة الله عليه رحمة واسعة. والآخر .. موت عمي هذا العام ،زوجها ، فنفد ما بقي لي من ابتسامات أتجمل بها .. وتجلدي للشامتين أريهموا ... أني لريب الدهر لا أتضعضع ! كان هو أبي ، عشت معه أكثر مما عشتُ مع أبي ، رحمهما الله جميعاً ، لكن موته كان خطبُه عظيماً على قلبي ، وكأنني لم أُصب بمصيبة قبله ، ولا بموت حبيبٍ من قبل . أظلمت الدنيا في وجهي ، ورأيته في منامي –قبل أيام- في هيئة حسنة ، ووجهٍ جميل ، وكأني أشكو عليه الحال ، وأقول له : " تعبت بعدك يا عم !" . كنتُ إذا سافرتُ بدأت به فودعتُه ، وإذا قدمتُ من سفري بدأتُ به فاتصلتُ به قبل أن أزوره ، فإذا زرته .. ضحك ، وداعب ، ومزح ، وواسى ... هكذا كان .. حتى هدَّه المرضُ ، وإني أرى أنَّ مرضه كان كمداً على زوجته – رحمها الله – عمتي ، فوالله لا أعلم في هذا الزمان زوجين وفيَّين لبعضهما ، مُحبيَّنِ مُخلصينِ .. كحبهما ..لقد كرهتُ المنطقة الشرقية بقدر حبي لها ! وأشعر أنني مخنوقٌ في شوارعها بحبل الذكريات ! . وصلتُ إلى درجة من الحساسية في معاملة الناس لا مزيد عليها ، حتى إنني لأظن أن كلَّ من تجهّم في وجهي قد رأى مني ما يسيء إليه ! ، فأراجع نفسي . أصلي بالناس فأسهو في قراءة آيات لا يخطئ فيها الطفل في حلقات التحفيظ ! ، كنت أظن أني أحفظها حفظي لاسمي واسم أبي ! . أسافر لعل السفر يغيرني .. لكن ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ . أما الأصدقاء ووفاؤهم !.. فإن كان يعقوب كان ابتلاؤه في أبنائه وفقدهم ؛ فقد ابتلاني الله تعالى في أصدقائي وتنكرهم ! ربما لسذاجتي وبساطتي ، أصادق المرء بصدق .. وأشق له فؤادي ليكتشف أسراره .. فإذا به يجفوا ويتنكر ، ويقلب له ظهر المجنّ !.أهذا جزاء المستهام المتيم؟! . جزاء من فتح لك قلبه وأسكنك فيه بلا تحفظٍ ولا قيود ! ، ما ابتلاني الله ببلاء مثلما ابتلاني بهم!. وجاء هذا (الهاتف الجوال) ليحمل إليَّ إساءاتهم مكتوبة بأحرفٍ من جهنم ! ، وهو كالصنم في جيوبنا .. لا يفارقنا في حلٍ ولا ترحالٍ .. فكيف يكون السفر مريحاً .. وهو أسوأ رفيقٍ فيه ؟! . * * * لكنني وقد تجاوزت التاسعة والثلاثين من عمري أصبحت أخاف من السفر الذي لا رجعة منه .. سفرٌ طويلٌ .. طويل .. وزادٌ قليل قليل ! . سفرٌ إلى الله .. بذنوبٍ ناء بها كاهلي ! ، لولا حُسن ظني بالله تعالى ، الغفور الرحيم ، الذي لم ينزل سورة في القرآن تسمى .. سورة الجبار .. أو المنتقم .. لولا حسن ظني به تعالى لانصدع قلبي من الخوف والحياء منه ! . أيها الناس .. كلنا مسافرون !. ------------------------------------------------------------------------------ (1 ) الحمد لله ، تمت وحصلت على درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية من جامعة القاهرة بتقدير (ممتاز ). ( 2) كبر (حسن) وتوظف في جدة، وتزوج ، والآن لديه ( محمد ، وهيا ، ورؤى ، ولمار ) . و(هجاد) تزوج أيضاً لديه ( حسن ) حفظهم الله. ( 3) بحمد الله تعالى شفاني الله من هذا الرهاب بفضله ، ثم بالدعاء ، فأصبحت أستمتع بالسفر ، فله الحمد والمنة .
آخر تعديل موسى محمد هجاد الزهراني يوم
26/07/2008 في 03:28 PM.
|
![]() |
|||||
المواضيع | المنتدى | اخر مشاركة | عدد الردود | عدد المشاهدات | تاريخ اخر مشاركة |
![]() |
فضيلة الشيخ موسى محمد هجاد الزهراني | 5 | 6440 | 09/01/2010 11:13 PM | |
![]() |
فضيلة الشيخ موسى محمد هجاد الزهراني | 9 | 3891 | 22/05/2009 10:47 PM | |
![]() |
فضيلة الشيخ موسى محمد هجاد الزهراني | 9 | 4513 | 12/02/2009 02:10 AM | |
![]() |
فضيلة الشيخ موسى محمد هجاد الزهراني | 8 | 4648 | 03/02/2009 05:24 AM | |
![]() |
فضيلة الشيخ موسى محمد هجاد الزهراني | 8 | 4052 | 26/01/2009 06:17 AM |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
![]() |
|
لا يوجد أعضاء |
|
|
![]() الإعلانات النصية ( أصدقاء الأكاديمية ) |
|||||
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |