العام الجديد.. سحب داكنة في الأفق **فهمي هويدي

حبس انفرادي.. وزنزانة في السماء!

رأيت سفن الفضاء في معرض الطيران في باريس ورأيتها في المعرض الفضائي في موسكو ورأيتها في قاعدة كانفرال الأميركية.. وكانت قبيحة الشكل خشنة مظلمة.. وكذلك كانت أنابيب الطعام التي يمتصها رواد الفضاء وملابسهم القبيحة.. ثم رأيتها وقد صارت ناعمة أنيقة.. ورأيتها عندما كانت قذيفة من الحديد الصفيق.. زنزانة.. ورأيتها بعد ذلك أنيقة مضيئة كأنها جزء من طائرة فخمة. ولكنها في جميع الأحوال زنزانة.. والرائد قد حكموا عليه بالسجن الانفرادي. كأنه ارتكب جريمة. وجريمته أن لديه شجاعة انتحارية في الانطلاق إلى الفضاء في عزلة موحشة! وكان أول رائد فضاء في التاريخ جاجارين الذي انطلق سنة 1957 حول الأرض لمدة 108 دقائق.. ثم جاء رائد الفضاء تيتنوف الذي دار حول الأرض سنة 1961 لمدة خمس ساعات.. وكان أول من أكل وشرب ونام ومرض!

ولما دعاني رائد الفضاء السعودي الأمير سلطان بن سلمان إلى لقاء وندوة مع رواد الفضاء في الرياض شاء الحظ أن اجلس إلى جوار تيتنوف، وسألته وكان قد ضرب رقما قياسيا اكبر في الدوران حول الأرض مئات الأيام. قال وأطال. قال وهو يأكل: انه في أول الأمر كان يتفرج من فوق على الكرة الأرضية ـ ثم ملأ فمه بالأرز ـ وانه حاول أن يعرف مدينته هو ـ ووضع قطعة من اللحم في فمه ـ ثم حاول بعد ذلك أن يرى البيت الذي يعيش فيه ـ وملأ فمه بالأرز واللحم ومزيدا من اللحم!

وخشيت أن يتذكر رحلته الأولى فيصاب بالمرض. ومنذ أيام ظهر رائد الفضاء الاميركي (مايك فول) الذي فاق كل الرواد في بقائه في الفضاء 374 يوما و11 ساعة و19 دقيقة.. من بينها أربعة أشهر في المحطة الروسية الدولية (مير) وستة أشهر في المحطة الدولية وتصادف وجوده في المحطة الروسية عندما شب حريق حين ارتطمت بها سفينة التموين فراحت تدور حول نفسها.

وتطلعت إلى وجه الرائد الاميركي وأصابعه وأسنانه عندما يضحك.. الأعصاب من حديد والأسنان من العاج وبشرته مشدودة لامعة وعيناه لهما نظرات ثاقبة ـ إذن فالسجن الانفرادي في زنزانة مكيفة الهواء والضغط والجاذبية وبها مئات العيون الالكترونية لم تؤثر على أجهزة التنفس والهضم والأعصاب!

والعالم كله لم ينس ما قاله جاجارين ذلك الجندي الساذج عندما ارتفع إلى الفضاء فقال: إنني لم أجد الله! وحاول الاتحاد السوفيتي أن يدافع عن عبط هذا الجندي البسيط الذي دفعه الغرور إلى مثل هذه الحماقة. أما رائد الفضاء الاميركي فقال بمنتهى الهدوء والعقل: إن الكون شيء رائع مروع.. وسوف يحتاج الإنسان إلى ملايين السنين ليعرف جانبا من حكمة الله. جلت قدرته!

هم استأنفوا حياتهم العادية كأنني لم أعد لهم من السماء وأنا استأنف نشاطي كأنني ما أزال في السماء ـ عجبي!